قال العلامة ابن خلدون في الفصل الأخير من مقدمته وقد خصصه لأشعار العرب وأهل الأمصار:
من شعر سلطان بن مطفر بن يحيى من الزواودة أحد بطون رياح وأهل الرياسة فيهم، يقولها وهو معتقل بالمهدية في سجن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص أول ملوك إفريقية من الموحدين:
يقول وفي بوح الدجا بعد وهنة ... حرام على أجفان عيني منامها

حجازية بدوية عربية ... عداوية ولها بعيد مرامها
مولعة بالبدو لا تألف القرى ... سوى عانك الوعسا يؤتي خيامها
غيات ومشتاها بها كل شتوة ... ممحونة بيها وبيها صحيح غرامها
ومرباها عشب الأراضي من الحيا ... يواتي من الخور الخلايا جسامها
تشوق شوق العين مما تداركت ... عليها من السحب السواري غمامها
وماذا بكت بالما وماذا تناحطت ... عيون غزار المزن عذباً حمامها
كأن عروس البكر لاحت ثيابها ... عليها ومن نور الأقاحي خزامها
فلاة ودهنا واتساع ومنة ... ومرعى سوى مافي مراعي نعامها
ومشروبها من مخض ألبان شولها ... غنيم ومن لحم الجوازي طعامها
تفانت عن الأبواب والموقف الذي ... يشيب الفتى مما يقاسي زحامها
سقى الله ذا الوادي المشجر بالحيا ... وبلا ويحيي ما بلي من رمامها
فكافأتها بالود مني وليتني ... ظفرت بأيام مضت في ركامها
ليالي أقواس الصبا في سواعدي ... إذا قمت لم تحظ من أيدي سهامها
وفرسي عديد تحت سرجي مشاقة ... زمان الصبا سرجاً وبيدي لجامها
وكم من رداح أسهرتني ولم أرى ... من الخلق أبهى من نظام ابتسامها
وكم غيرها من كاعب مرجحنة ... مطرزة الأجفان باهي وشامها
وصفقت من وجدي عليها طريحة ... بكفي ولم ينسى جداها ذمامها
ونار بخطب الوجد توهج في الحشا ... وتوهج لا يطفا من الماء ضرامها
أيا من وعدتي الوعد هذا إلى متى ... فني العمر في دار عماني ظلامها
ولكن رأيت الشمس تكسف ساعة ... ويغمى عليها ثم يبدأ غيامها
بنود ورايات من السعد أقبلت ... إلينا بعون الله يهفو علامها
أرى في الفلا بالعين أظعان عزوتي ... ورمحي على كتفي وسيري أمامها
بجرعا عتاق النوق من فوق شامس ... أحب بلاد الله عندي حشامها
إلى منزل بالجعفرية للوى ... مقيم بها مالذ عند مقامها
ونلقى سراة من هلال بن عامر ... يريد الصدا والغل عني سلامها
بهم تضرب الأمثال شرقاً ومغرباً ... إذا قاتلوا قوماً سريع انهزامها
عليهم ومن هو في حماهم تحية ... مدى الدهر ما غنى يفينا حمامها
فدع ذا ولا تأسف على سالف مضى ... ففي الدنيا ما دامت لأحد دوامها

انتهى

بين يدي القصيدة

يعود زمن ولادهة هذا النص إلى ما بين عامي 625 و 647 هجريا, وهي الفترة التي تولى فيها أبو زكريا بن أبي حفص مقاليد الأمور في تونس لحساب الموحدين قبل أن يستقل عنهم معلنا تأسيس الدولة الحفصية بعد ذلك بقليل.
ورغم الفترة الزمنية التي تفصل بيننا وبين زمن ولادة النص وهي زهاء ثمانية قرون؛ لا نكاد نجد صعوبة في فهم لغته وتذوق معانيه وموسيقاه؛ لما بينه وبين الشعر النبطي من تقارب شديد, فهو يستخدم ذات اللغة الأدبية التي درج على استخدامها شعراء النبط من الحجاز ونجد إلى بادية الشام وسيناء ... وإن وجد فرق فهو فرق طفيف لا يحول دون فهم النص وتذوقه.
وهذا الوضوح في اللغة هو ما سأتكئ عليه في قراءة النص قراءة عروضية أحاول من خلالها الكشف عن تشكيلاته الإيقاعية بغية الوصول إلى قراءة أفضل للنص.
وسأكتفي في ما يلي بتحليل ما أراه كافيا للخروج بتصور عام عن بحر القصيدة وما وقع فيها من علل وزحافات, وقد قمت بترقيم الشطور لتسهل الإشارة إليها ومقارنتها بالأصل.

الأبيات المقطعة من النص

1. يقول وفي بوح الدجا بعد وهنةٍ

تقطيعه:

يقول / وفي بوح د / دجى بعد / وهنتن
فعول / مفاعيلن / فعولن / مفاعلن
3 1 / 3 4 / 3 2 / 3 3 /
مقبوض / سالم / سالم / مقبوض

2. حرامٍ على أجفان عيني منامها

تقطيعه:

حرامن / على أجفا / ن عيني / منامها
فعولن / مفاعيلن / فعولن / مفاعلن
3 2 / 3 4 / 3 2 / 3 3
sالم / سالم / سالم / مقبوض

3. يا من لقلبٍ حالف الوجد والأسى

تقطيعه:

يا من / لقلبن حا / لف ل الوج / د والأسى
فعْلن / مفاعيلن / فعولن / مفاعلن
2 2 / 3 4 / 3 2 / 3 3
مثلوم / سالم / سالم / مقبوض

4. وروحٍ هيامي طال ما في سقامها

تقطيعه:

وروحن / هيامي طا / ل ما في / سقامها
فعولن / مفاعيلن / فعولن / مفاعلن
3 2 / 3 4 / 3 2 / 3 3
سالم / سالم / سالم / مقبوض

5. حجازيةٍ بدْويةٍ عربيةٍ

تقطيعه:

حجازي / يتن بدوي / يتن ع / ربييتن
فعولن / مفاعليلن / فعول / مفاعلن
3 2 / 3 4 / 3 1 / 3 3
سالم / سالم / مقبوض / مقبوض

6. عداويةٍ ولْهىً بعيدٍ مرامها

تقطيعه:

عداوي / يتن ولهن / بعيدن / مرامها
فعولن / مفاعيلن / فعولن / مفاعلن
3 2 / 3 4 / 3 2 / 3 3
سالم / سالم / سالم / مقبوض

7. مولعةْ بالبدْو لا تالف القرى

تقطيعه:

امول / لعة بلبد / و لا تا / لف ل قرى
فعْلن / مفاعيلن / فعولن / مفاعلن
2 2 / 3 4 / 3 2 / 3 3
مثلوم / سالم / سالم / مقبوض

8. سوى عانك الوعسا يواتي خيامها

تقطيعه:

سوا عا / نك لوعسا / يواتي / خيامها
فعولن / مفاعيلن / فعولن / مفاعلن
3 2 / 3 4 / 3 2 / 3 3
سالم / سالم / سالم / مقبوض

9. إياتٍ ومشتاها بها كل شتوةْ

تقطيعه:

إياتن / ومشتاها / بها كل / ل شتوةْ
فعولن / مفاعيلن / فعولن / فعولن
3 2 / 3 4 / 3 2 / 3 2
سالم / سالم / سالم / محذوف

10. ممحونةٍ بيها وبيها صحيح غرامها


تقطيعه:

ممحو / نتن بيها / وبيها / صحيحن / غرامها
فعْلن / مفاعيلن / فعولن / فعولن / مفاعلن
2 2 / 3 4 / 3 2 / 3 2 / 3 3
مثلوم / سالم / سالم / سالم / مقبوض

11. ومرباعها عشب الأراضي من الحيا

تقطيعه:

ومربا / عها عشب ل / أراضي / من الحيا
فعولن / مفاعليلن / فعولن / مفاعلن
3 2 / 3 4 / 3 2 / 3 3
سالم / سالم / سالم / مقبوض

12. يواتي من الخور الخلايا جسامها

تقطيعه:

يواتي / من لخور ل / خلايا / جسامها
فعولن / مفاعيلن / فعولن / مفاعلن
3 2 / 3 4 / 3 2 / 3 3
سالم / سالم / سالم / مقبوض

13. تشوق شوق العين مما تداركت

تقطيعه:

اتشو / ق شوق لعي / ن مما / تداركت
فعْلن / مفاعيلن / فعولن / مفاعلن
2 2 / 3 4 / 3 2 / 3 3
أثلم / سالم / سالم / مقبوض

14. عليها من السحب السواري غمامها

تقطيعه:

عليها / من سسحب س / سواري / غمامها
فعولن / مفاعيلن / فعولن / مفاعلن
3 2 / 3 4 / 3 2 / 3 3
سالم / سالم / سالم / مقبوض

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ

نسبة القصيدة
من الواضح أن هذه القصيدة تنتمي إلى بحر (الهلالي) أقدم بحور الشعر النبطي, وأكثرها شيوعا في شعر قدماء شعرائه.
بل إنها تنتمي بالتحديد إلى الصورة الثانية منه, ووزنها:
3 2 / 3 4 / 3 2 / 3 3
فعولن / مفاعيلن / فعولن / مفاعلن
وهذه هي صورة الضرب الثاني (المقبوض) من بحر الطويل.

العلل والزحافات:
كشفت هذه القراءة العروضية العجلى للنص, عن ثلاثة أنواع من التغيير في السياق الإيقاعي لهذه القصيدة وهي: القبض والثلم والحذف, وسنخص كلا منها بالحديث في ما يلي:

أولا: القبض:
ورد القبض في عدة مواضع من النص, سواء في الابتداء أو في الحشو, وهذا يعني أن هذا النوع من الزحافات كان مستساغا في ذلك الطور من أطوار نمو هذا الإيقاع قبل أن يتحول إلى زحاف غير مستساغ في وقتنا الحالي؛ حيث لا يجوز القبض إلا في الاستهلال بقولهم (يقول) كما فعل الشاعر هنا, وعلى هذا درج شعراء النبط, فلو قال قائل:
جفاك حبيبكْ يوم كثْرت عواذله ....
لما استساغته آأذانهم ولعدوه عيبا.
وهذا قد يشير إلى وجود مراحل تحول وسيطة في إيقاع الشعر لها علاقة باللغة المستخدمة وطريقة النق بها من جهة, ومن جهة أخرى لها علاقة بمدى تأثير الموروث الإيقاعي في أذن الشاعر إذ هذا النص الذي بين أدينيدا أقرب لطويل الفصحى من نصوص اليوم بلى شك, والقبض في طويل الفصيح أكثر من أن يحصى.

ثانيا: الحذف :
وهو إسقاط السبب الخفيف, وقد ورد في بعض أعاريض القصيدة, وهو تغيير مستساغ عندهم.
ويجوز في كل تشكيلات هذا البحر المزاوجة بين القبض والحذف دون السلامة والقصر.
وقد منع من المزاوجة بين القبض والحذف في عروض الطويل الفصيحة جمهور العروضيين وأجازها الأخفش, ومن شواهده عليها قول النابغة:
جزى الله عبسا عبس آل بَغِيْظٍ
جزاء الكلاب العاويات وقد فعلْ

ومن الملاحظ أنه بإمكاننا تنوين الأعاريض المحذوفة فتتحول إلى أعاريض مقبوضة ولا ضير في ذلك ولكننا أحببنا أن نشير إلى الجواز.

ثالثا: الثلم:
الثلم هو حذف أول الوتد المجموع ولا يكون إلا في الابتداء, فتصير به فعولن إلى عولن وتنقل إلى فعْلن في التقطيع, ومن الأمثلة عليه في هذا النص قوله في الشطر الثالث:
يا من لقلبٍ حالف الوجد والأسى

تقطيعه:

يا من / لقلبن حا / لف ل الوج / د والأسى
فعْلن / مفاعيلن / فعولن / مفاعيلن
2 2 / 3 4 / 3 2 / 3 3
مثلوم / سالم / سالم / مقبوض

والثلم جائز في كل صور البحر الهلالي وهو فيه غير نادر ولا مستقبح بخلاف ما يلحق بالطويل من أوزان نبطية أخرى خارجة عن الهلالي فإنه لا يرد فيها إلا نادرا وإن ورد وجب التزامه في كل القصيدة.
أما في الفصيح فقد اختلف في حكمه, فذهب البعض إلى إجازته مع الحكم عليه بالقبح, وذهب غيرهم إلى المنع مطلقا.
الكسور في القصيدة:

ورد ضمن أبيات المقطوعة شطر مكسور وهو الشطر العاشر, ويبدو أن الخلل فيه ناتج عن وهم الناسخ, وإصلاح الوزن لا يتطلب أكثر من حذف الكلمة المكررة (بيها) مع الحرف السابق لها وهو حرف الواو.

خلاصة القراءة:
1. أثبت التحليل الإيقاعي للقصيدة أنها تنتمي إلى بحر الهلالي وهو أحد الأشكال المدرجة ضمن بحر الطويل في الشعر النبطي.
2. اقترحت هذه القراءة تغيير إحدى مفردات النص بمفردة بديلة لاستقامة الوزن استنادا إلى عروض الشعر النبطي.
3. أظهرت هذه القراءة أن تغيرات إيقاعية كالثلم والمزاوجة بين القبض والحذف في الأعاريض هي تغيرات قديمة الورود في الشعر النبطي.
4. أظهرت أيضا أنه يجوز دخول القبض في الحشو خلافا لما هو عليه الآن حيث استقر الإيقاع الشعري للهلالي على منعه.
5. كشفت هذه القراءة عن وجود خلل إيقاعي في بعض أبيات النص نتيجة وهم أو غفلة وقع فيها الناسخ واقترحت تعديله ليستقيم الوزن بالاستناد إلى النسق العام لإيقاع القصيدة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ

ختاما أرجو من الجميع مشاركتي الحوار حول هذا النص بآرائهم وملحوظاتهم ومن أكمل تحليل ما بقي من النص فله خالص الشكر سلفا.

ودمتم بخير