ثالثاً : الجزم في جواب النهي

عرفنا فيما سبق أنّ جواب الطلب يُجزم عند سقوط الفاء إذا قُصد الجزاء ، والجازم هو شرط مضمر ملحوظ من الكلام المكون من جملة الطلب وجملة الجواب معاً ، يُقدر بـ " إنْ " والفعل المناسب . واختيرت " إنْ " دون غيرها من حروف الجزاء ؛ لأنّها أمُّ حروف الجزاء ؛ فهي لا تفارق المجازاة ، في حين غيرها من حروف الجزاء قد يتصرفن فيفارقن الجزاء .

والعلّة في تقدير المجازاة - هنا - هي إيجاد مسوّغ لجزم جواب الطلب؛ إذ الطلب في حد ذاته لا يقتضي جواباً ، ولا يفتقر إلى جواب ، ولكن لما وجد جواب مجزوم ، كان لابد من إيجاد ما ينجزم به هذا الجواب ويتوقف عليه ، لذلك قدّر النحويون المجازاة ، بشرط مضمر يُقدر بـ " إنْ والفعل " ؛ فهذا الإضمار أو التقدير هو أمر وهميّ متخيّل ، الغرض منه تسويغ الجزم في جواب الطلب ؛ لذا لا يصح أن ينجـزم الجواب إلاّ إذا صحّ المعنى بتقدير " إنْ والفعل " ، فإذا لم يصح المعنى بتقدير الشرط ، لم يجز الجزم في الجواب ؛ فيجوز الجزم في نحو :" علّمني عِلْمًا انتَفِعْ به " (51)،وقوله تعالى:

﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا .... ﴾ (52) ويمتنع الجزم في نحو : " أطعمْ جائعاً يبحثُ عن طعامٍ".

ويجب الجزم في نحو : " افتحْ صنبورَ الماءِ ينهمرْ ماؤه " ، وقوله تعـالى: ﴿ اقْتُلُوا يُوسُفَ أوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ .... ﴾ (53) .

وأضاف أكثر النحويين (54) إلى هذا الشرط العام شرطاً آخر لصحة الجزم في جواب النهي ، وهو وقوع " لا " بعد " إنْ " الشرطية المقدرة دون أنْ يقع فساد في المعنى ؛ قال ابن مالك(55) :

وشَرْطُ جزمٍ بعدَ نهيٍ أنْ تضع " إنْ " قبلَ " لا " دونَ تخالفٍ يقع

فصحّ الجزم في نحو : " لا تدنُ من الأسدِ تسلمْ"،و" لا تعصِ اللهَ تدخلِ الجنةَ " ؛ لأنّ التقدير : إنْ لا تدنُ من الأسدِ تسلمْ ، وإنْ لا تعصِ اللهَ تدخلِ الجنةَ ؛ فصح المعنى؛لأن عدم الدنو سبب في السلامة ، وعدم المعصية سبب في دخول الجنة.

وامتنع الجزم - عندهم - في نحو : " لا تدنُ من الأسدِ يأكلُك "، و" لا تعصِ اللهَ تدخلُ النارَ " ، قالوا : لأنّ التقدير : إنْ لا تدنُ من الأسدِ يأكلُك ، وإنْ لا تعصِ اللهَ تدخلُ النارَ . فهذا المعنى فاسد - ولا شك - والسبب هو تقدير "لا" بعد " إنْ " الشرطية ، ولو لم يقدروها لاستقامت العبارة ، واستقام المعنى .

ولم يشترط الكسائي (56) هذا الشرط – وهو تقديره " لا " ضمن جملة الشرط المقدرة – بل يقدر التقدير المناسب للمعنى الذي تدل عليه القرائن ، إذ المعوّل عليه في جزم الجواب هو المعنى ؛ فيصح الجزم – عنده – في كلتا الحالتين لصحة المعنى بتقدير " لا " في جملة الشرط المقدرة في المثالين الأولين ، أي : " إنْ لا تدنُ منْ الأسدِ تسلم "، و " إنْ لا تعصِ اللهَ تدخلُ الجنةَ " وعدم تقديرها في المثالين الأخيرين ؛ لأنه واضح فيهما أنّ قصد المتكلم: " إنْ تدنُ من الأسدِ يأكلك " ، و " إنْ تعصِ اللهَ تدخل النار " .

ونُسب هذا المذهب أيضاً - وهو صحة الجزم في نحو : " لا تدنُ من الأسدِ يأكلُك " - إلى الكوفيين عامة (57) .وصرح السهيليّ بجوازه ، وقال بأن له نظائر وشواهد يطول ذكرها وخرّجه على ما ذهب إليه الكسائي ، أو على إضمار فعل يدل عليه النهي ، أو أن يكون منجزماً على نهي آخر .

وقال بأن الثلاثة الأوجه جائزة على أصول النحويين أجمعين (58) وأجازه الأخفش(59) لا على أنه جواب ، بل حملاً على اللفظ الأول؛ لأنه مجزوم.

وأجازه الجرميّ على قُبحٍ(60) ، وقال سيبويه: " فإن قلتَ : لا تدنُ من الأسد يأكلْك فهو قبيح إنْ جزمت ، وليس وجه كلام الناس " (61) .

واحتجّ المانعون بفساد المعنى عند تقدير " لا " بعد " إنْ " الشرطية ، إذ سيصير " إنْ لا تدنُ من الأسدِ يأكلْك " ، وهذا محال ، لأنّ تباعده لا يكون سببًا لأكله ، ويجوز الرفع، أو إدخال الفاء والنصب (62) .

وقالوا بأنّ المضمر يجب أنْ يكون من جنس المظهر (61) إذ لو خالفه لما دلّ عليه ، فيجب أنْ تعاد " لا " في جملة الشرط المقدرة .

أما المجيزون فاحتجوا بالقياس والسماع ، بالقياس على النصب فكما جاز النصب في " لا تدنُ من الأسدِ فيأكلَك " بثبوت الفاء والنصب ، جاز الجزم عند سقوطها.

وبالسماع (64) ، فقد جاء في الأثر أنّ أبا طلحة قال للنبيّ – صلى الله عليه وسلم – في بعض المغازي : " لا تُشْرِفْ يُصبْك سَهْمٌ من سِهَامِهِمْ "(65) –بجزم " يصبك " على جواب النهي –

وعنه- صلى الله عليه وسلم– "منْ أَكَلَ مِنْ هذه الشَّجَرَةِ فلا يقربْ مسجدَنا يؤذِنا بريحِ الثومِ "(66) بجزم " يؤذنا " على جواب النهي .

وعنه-صلى الله عليه وسلم- : " لا تَرْجِعُوا بعدي كفاراً يضربْ بعضُكم رقابَ بعضٍ "(67) بجزم " يضربْ " على جواب النهي .

كما احتجوا بقول بعض العرب : " لا تَسْألُونا نُجبْكم بما تكرهون "(68) بجزم " نجبْكم " على جواب النهي .

- وبقراءة الحسن : ﴿ وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثرْ ﴾ (69) بالجزم في بعض التوجيهات .

- وجاء في( كتاب الجمل) (70) " لا تقصدْ زيداً تندمْ " .

- وفي( التبصرة والتذكرة) للصيمري (71) - في بعض النسخ -: " لا تشتم زيداً يضربْك " .

وأجاب البصريون بأنه لو صحّ القياس على النصب لصحّ الجزم بعد النفي قياساً على النصب (72) .

وردوا النصوص السابقة (73) بندورها ، وبجواز أن يكون المجزوم ثانياً بدلاً من المجزوم أولاً لا جواباً ، وبثبوت الياء في الحديث الأول والثاني في بعض الروايات .

أما قراءة الحسن ، فقالوا بأنها تحتمل عدة أوجه (74) :

1- أن تكون " تستكثر " بدلاً من " تمنن " ، وأنكره أبو حاتم (75) ، وقال : إنّ المن ليس بالاستكثار فيبدل منه .

2- أن يكون قدّر الوقفَ عليه؛ لكونه رأس آية ، فسكّنه ثم وصله بنية الوقف.

3- أن يكون سكّنه لتناسب الفواصل ، وهي : فأنذر ، فكبر ، فطهر ، فاهجر.

4- أن يكون أسكن الراء لثقل الضمة، مع كثرة الحركات تشبيهاً له بـ "عضد".

5- إثبات الوجه إنْ لا تمنن تستكثر من الأجر .

وقد أجمع القراء السبعة على الرفع فيه (76) ، والجملة في موضع نصب على الحال ؛ أي : ولا تمنن مستكثراً ما أعطيت ، أو على حذف " أنْ " فارتفع الفعل .

وقرأ الأعمش (77) " تستكثرَ " بالنصب بأن مضمرة ، أي : لا يكن منك منٌّ ولا استكثار ، ويعضده قراءة ابن مسعود . " أنْ تستكثرَ "(78) .

وأجاز العكبري جزمه على الجواب ، قال : " والتقدير في جعله جواباً : إنّك إن لا تمنن بعملك أو بعطيتك تزدد من الثواب لسلامة ذلك عن الإبطال بالمن والأذى. على ما قال تعالى: ﴿ لا تـُبْـطِـلُوا صَدَقـَاتِـكُم بِالْمَنِّ والأَذَى ﴾ (79)" (80).