http://www.nashiri.net/critiques-and...3923-----.html


قراءة في كتاب مجهول للأديب علي أحمد باكثير: المختار من الشعر الحديث


فمن ذلك مثلاً تصحيحه بيتاً للشاعر عبد المنعم عواد بعنوان: "عندما يموت البطل"، ليصبح كالتالي([13]):

إننا كنـا غرسنـاه معـاً فـي ذات مـرَّه
فقد ذكر باكثير في الهامش أن عبارة (معاً في) كانت في الأصل: سوياً، وعلَّق على ذلك بقوله: "وهو خطأ شائع". ومعنى "سوياً" أي مستوياً تاماً، كما في قوله تعالى مخبراً عن جبريل عندما تمثل للسيدة مريم في صورة بشر: "فأرسلنا إليها روحَنا فتمثَّل لها بشراً سويّاً"([14]).وقد تكررت لفظة "سوياً" مرة أخرى في قصيدة "ليلة مايو"([15]) للشاعر عبد الجليل ناصر وهي صياغة شعرية لقصيدة للشاعر الفرنسي دي موسيه، فصوبَّها باكثير لتصبح:هيا لنرحل من هنا نسعى ونمضي وحدنافقد ذكر باكثير في الهامش أن عبارة (نسعى ونمضي) كانت في الأصل: نسعى سوياً، ولم يذكر السبب حيث سبق أن أورده من قبل.كما صحَّ باكثير خطأً آخر في نفس القصيدة، ليصبح البيت هكذا([16]):لما لمستُك بالجناح تساقطت منك الدموع !!وشحبت فاحتضنتك أحشائي وصُنتك في الضلوع !!فقد ذكر باكثير في الهامش أن "فاحتضنتك أحشائي" كانت في الأصل: "فاستلقتك أحضاني". ولم يذكر باكثير مكمن الخطأ، وهو أن "استلقى" تعني: اضطجع وتمدد، وليس ما أراده الشاعر وهو: "تلقَّتك أحضاني"، ولكن الوزن يختل لو ردت الكلمة إلى صحَّتها، فغيَّر باكثير في صياغة البيت ليستقيم الوزن والمعنى.ومن الأخطاء اللغوية أيضاً ما ورد في قصيدة الشاعر عبد العليم القباني "القمر الجديد"([17])، إذ يغير باكثير كلمة (ألهيَّة) إلى تلهية ليصبح البيت:

رأى الصواريخ قبل اليوم تلهيـةً = للشعب تضحك في لألائها الخُدَعُ
فقد ذكر باكثير في الهامش أن كلمة (تلهية) كانت "في الأصل: ألهيَّة بتشديد الياء"، ولم يذكر سبب تغييرها وكأنه يرى أن ذلك خطأ واضح لا يحتاج إلى بيان. ولا توجد في المعاجم العربية كلمة "ألهية"، وأقرب كلمة للمعنى الذي أراده الشاعر هي "تلهية" التي أحسن باكثير اختيارها إذ تؤدي المعنى المراد وهي فصيحة.وفي قصيدة "تفتا" للشاعر نزار قباني([18])، يعدِّل باكثير حرف الجر (فيه) إلى (عنه) ليصبح هكذا:أمس انتهى .. لم تدر والدتيعنه ولم أخبر رفيقاتيويذكر باكثير في الهامش أن حرف الجر (عنه) كان "في الأصل: فيه". وحرف الجر (في) يتردد كثيراً في شعر نزار نائباً عن حروف جر أخرى، فنراه في السطر السابق ينوب عن حرف (عن)، وفي بعض قصائده الأخرى قد ينوب عن حرف (الباء) كما في قوله في قصيدة "لوليتا"([19]):ربما من سنتينلم تكن تهتم في وجهي المدوروقوله في نفس القصيدة:لم أعد أقنع في قطعة سكرأو قد ينوب عن حرف الجر "من"، كما في قوله في نفس القصيدة:أنت بعد اليوم لن تخجل فيّفلقد أصبحتُ أطولولا يمكن أن يرد ذلك إلى أن نزاراً استخدم حرف (في) بدل حرفٍ آخر ليستقيم الوزن، بدليل أنه في المثال الذي صححه باكثير، لم يختل الوزن بوضع كلمة (عنه) بدل (فيه). والذي أراه هو أنها من خصوصيات نزار إذ إن لبعض الشعراء ألفاظاً خاصة تكون بمثابة "اللازمة" لهم يكثرون من تكرارها في أشعارهم، من ذلك مثلاً لفظة: (قم) في شعر أحمد شوقي التي كان يكثر منها خاصة في مطالعه، كما في قوله([20]):

قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا = كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا

وقوله([21]):قُم ناجِ جِلَّقَ وَاِنشُد رَسمَ مَن بانوا = مَشَت عَلى الرَسمِ أَحداثٌ وَأَزمانُو

قوله في رثاء الإمام محمد عبده([22]):

مفسـرَ آي الله بالأمـس بيننـا قم اليوم فسِّر للورى آية الموتِ

لا تقتصر تصويبات باكثير اللغوية على الأخطاء الشائعة، بل نراه يصحح الأخطاء النحوية الدقيقة التي قد تستغلق على غير المتمكنين من النحو. فمن ذلك ما ورد في قصيدة "ليلة مايو"([23]) للشاعر عبد الجليل ناصر:حان الوداع فهل ستذرف عند ترحالي الدموع؟

فقد غيَّر باكثير في البيت –كما أشار في الهامش- ليصبح:حان الوداع تُرى أتذرف عند ترحالي الدموع؟ولم يبيِّن لنا باكثير سبب التغيير لأنه –في رأيه- أوضح من أن يذكر، ذلك أن النحاة لا يجيزون دخول السين على الفعل المضارع بعد (هل) الاستفهامية، لأن دخول (هل) على الفعل المضارع تخصصه بالاستقبال([24]) فلا داعي إذاً لدخول (السين) أو (سوف) عليه.وكذلك صحَّح باكثير قول الشاعر محمود عفيفي في قصيدة "الغريب"، ليصبح هكذا([25]):

عاشت أجيال العـهد البائد منسيّة يا ليت أعود .. وأملأ منها عينيّه

فقد ذكر باكثير في الهامش أن "يا ليت أعود" كانت في الأصل: "فمتى سأعود"، ومرة أخرى لا يذكر مكمن الخطأ، وهو أن (متى) تدل على الاستقبال فامتنع لذلك دخول (السين) و(سوف) عليها. ومثله قوله في نفس القصيدة([26]):فمتى أشهد نهر الكوثر؟ وأمتَّع بالحج الأكبرْفقد ذكر باكثير في الهامش أنها كانت في الأصل: "فمتى سأرى نهر الكوثر".التصويبات النقدية:لباكثير لفتات نقدية بارعة تدل على عمق فهمه للشعر وحسن استعماله للغة وفقهه لمعانيها.

من ذلك مثلاً تغييره لكلمة في قصيدة الشاعر محمد التهامي في قوله من قصيدة "السلام والربيع"([27]) ليصبح البيت هكذا:

أينمـا قلَّبـتُ عينـاً تنبهـرْ = بالجمال الفذِّ والحسن المجسَّمْ

إذ ذكر باكثير في الهامش أن كلمة (تنبهر) كانت "في الأصل تلتقي"، ولم يبين سبب التغيير. وإذا قارنا بين المعنى الذي توحي به كل من لفظة (تنبهر) ولفظة (تلتقي)، سنجد أن (تنبهر) توحي بانفعال الشاعر وإحساسه بهذا الجمال الفذ وهذا الحسن المجسَّم وتفاعله معه وتأثيره فيه، بينما كلمة (تلتقي) لا توحي بأي من هذه المعاني، وإنما تلتقي بها في بلادة وسذاجة، والشاعر بالطبع لم يقصد إلا المعنى الأول بدليل وصفه لهذا الجمال بالفذ وللحسن بالمجسم، ولكن خانه التعبير فصوّب له باكثير تعبيره بحس الناقد ورهافة الشاعر وفطانة اللغوي. ومن فطانته اللغوية أيضاً تصويبه لما ورد في قصيدة الشاعر إبراهيم عبد الحميد عيسى "زواج شاعر"([28]) ليصبح هكذا:

فقالت وقد قطَّبت وانبرت= فألقت بشعريَ في ناحيه

فقد ذكر باكثير في الهامش أن البيت كان في الأصل:

فقالت وقد قطَّبت وجهها = وألقت بشعريَ في ناحيه

ونرى أن باكثير حذف كلمة (وجهها) وهذا من رهافة حسه النقدي وفقهه باللغة، إذ التقطيب لا يكون إلا في الوجه، فإضافة التقطيب إلى الوجه هو من فضول القول. وقد عاب النقاد قديماً على الشاعر الذي قال([29]):

ذكرتُ أخي فعاودنـي = صداعُ الرأسِ والوصبُ
إذ لا يكون الصداع إلا في الرأس، فذكر الرأس حشو لا فائدة منه.ومن تصويباته النقدية أيضاً استبداله لفظة "خيالاتي" بلفظة "حكاياكِ" في قصيدة "إلى ميتة" للشاعر نزار قباني، ليصبح هكذا([30]):

ما الذي حرّرني؟من خيالاتي القديمهْ من قضاياكِ السقيمهْ

فقد ذكر باكثير في الهامش أن كلمة (خيالاتي) كانت في الأصل: من حكاياك، ولم يبين سبب التغيير. وإذا رجعنا إلى المعاجم العربية سنجد أن (حكاية) تُجمع على (حكايات)، ولذا غيَّرها باكثير. ولو ردَّها إلى الصِحَّة (حكاياتكِ) لاختل الوزن، لذا استبدل بها كلمة (خيالاتي) وفيها من الدلالة ما يتناسب مع الحكايات من حيث اعتمادها على الخيال.التصويبات العروضية:كان باكثير متمكناً من علم العروض، يدل على ذلك مسرحيته الشعرية الأولى (إخناتون ونفرتيتي) التي كتبها بالشعر المرسل -كما أسماه- أو الشعر الحر كما صار يعرف بعد ذلك، وليس هنا مجال الإفاضة في هذا الموضوع. ونلحظ تمكنه من خلال ملاحظاته العروضية ودقتها، ففي قصيدة الشاعرة جليلة رضا التي عنوانها: "ضعف المرأة"، تنبه باكثير لخلل عروضي غفلت عنه الشاعرة مع تمكنها من النظم، وقد لا ينتبه له كثير من القراء، فصحَّحه باكثير ليصبح البيت هكذا([31]):

أنت لي مهما تناسيت ليالينـا الغوالـي
رغم هذا الزهو والخَيْلةَ لي رغم التعالي

فقد ذكر باكثير في الهامش أن كلمة (الخيلة) كانت "في الأصل الخُيَلاء ولا يستقيم به الوزن فوضعنا الخَيْلة مكان الخيلاء واللفظان بمعنى واحد". وهذا يدل على تمكن باكثير من علم العروض ومن علم اللغة حيث استطاع بسهولة أن يغير كلمة بكلمة من نفس الجذر اللغوي تؤدي نفس المعنى وتحل مشكلة الخلل العروضي. خاتمةوهكذا نرى أن هذا الكتاب يُعد مهماً للباحثين والدارسين في أدب باكثير لأنه يعينهم على معرفة عمق ثقافته وتمكنه اللغوي. كما يلقي الضوء على إسهامات باكثير في خدمة الأدب العربي من خلال عمله في لجنة الشعر. وقد سبق لباكثير أن حقق ديوان صالح الشرنوبي وشرحه واختار ما يصلح منه للنشر وقدم له بمقدمة نقدية ضافية، ونشرته لجنة الشعر ضمن سلسلة الألف كتاب.