النتائج 1 إلى 12 من 12

الموضوع: التخلص في الشعر العربي

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    المشاركات
    15,965

    التخلص في الشعر العربي

    التخلص في الشعر العربي هو فن انتقال الشاعر من غرض ظاهر يستهل به قصيدته هو الغزل غالبا إلى الغرض الحقيقي وهو غالبا المدح.
    وقد برع المتنبي في ذلك
    ساجعل أبيات الغرض الظاهري سوداء ، وأبيات الغرض الحقيقي زرقاء وبيت التخلص أو أبياته حمراء، ليت المشاركين الكرام يأتون بأمثلة أخرى، لتكون هذه المشاركة مرجعا لهذا الفن الرفيع.

    للمتنبي
    مْـعٌ جَـرى فقضـى في الرَّبع ما وَجَبا = لأهلــهِ وشَــفى أنّــى ولا كرَبــا
    عُجْنـا فـأذهبَ مـا أبقـى الفِـراقُ لنا =مِــن العقـول ومـاَ ردَّ الـذي ذَهَبـا
    ســقيتُهُ عــبَراتٍ ظنّهــا مطــراً =ســوائلا مِـن جـفونٍ ظنهـا سُـحُبا
    دار المُلــمِّ لهــا طيــف تَهــدَّدني =لَيــلاً فَمـا صَـدَقَت عَينـي ولا كذَبـا
    أَنأيتُـــهُ فَدَنـــا أدْنيتُــهُ فنــأى =جمَّشْـــتُهُ فنَبـــا قبَّلتُــهُ فــأبى
    هــامَ الفُــؤادُ بِأعرابيــةٍ ســكنَتْ =بيتـا مِـنَ القَلـب لـم تمـدُد لَـهُ طُنُبا
    مَظلومَــةُ القَـدِّ فـي تَشـبِيهِهِ غُصُنـاً =مَظلومَـةُ الـريقِ فـي تشـبيههِ ضَرَبـا
    بَيضـاءُ تُطمِـع فـي مـا تَحـتَ حُلَّتِها =وعَــز ذلــكَ مطلوبــاً إذا طُلِبــا
    كأنهـا الشـمسُ يُعيـي كَـفّ قابضِـهِ =شُــعاعها ويَــراهُ الطَّـرْفُ مُقتَرِبـا
    مـرتْ بِنـا بَيـن تِربيهـا فقُلْـتُ لهـا =مِـنْ أَيْـنَ جـانَسَ هـذا الشَّادِنُ العَرَب
    اسْـتَضْحَكَتْ ثُـمَّ قـالَتْ كالمُغيثِ يُرى =لَيـثَ الشَّـرى وهوَ مِن عِجْلٍ إذا انْتَسَبا

    جـاءتْ بأشـجَعِ مـن يُسْمى وأسمحَ مَنْ =أعطـى وأبْلَـغ مَـنْ أمـلَى ومَـنْ كَتَبا
    لَـو حَـل خـاطِرُهُ فـي مُقْعَـدٍ لَمشَـى =أو جــاهِلٍ لَصَحـا أو أخـرسٍ خَطَبـا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jul 2007
    المشاركات
    1,124
    بارك الله بك استاذنا الغالي
    لي عودة باذن الله

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    المشاركات
    15,965
    شكرا الأخت أم أوس - بانتظار مشاركتك
    ----------
    ومن ذلك للمتنبي أيضا :

    فـي الخَـد أَن عَـزَمَ الخَـليطُ رَحـيلا = مَطَــرٌ تَزيــدُ بـهِ الخُـدودُ مُحـولا
    يــا نَظْـرَةً نَفَـتِ الرقـادَ وغـادَرتْ = فــي حَـد قَلبـي مـا حَـيِيتُ فُلـولا
    كــانت مِـنَ الكَحـلاءِ سُـؤْلي إنّمـا = أَجَــلي تَمَثــلَ فـي فُـؤادي سُـولا
    أجِــدُ الجَفـاءَ عـلى سـواكِ مُـروءةً = والصــبرَ إلا فــي نَــواكِ جَـميلا
    وأرى تَـــدَلًّلَكِ الكَثـــيرَ مُحَبّبــاً = وأرى قَليـــلَ تَـــدَللٍ مَملُـــولا
    حَـدَقُ الحِسـانِ مِـنَ الغَواني هِجنَ لي = يَــومَ الفِــراقِ صَبابَــةً وغَليــلا ..(1)
    حَــدَقٌ يُــذِمًّ مِـنَ القَــواتِلِ غيرَهـا = بَــدْرُ بْــنُ عَمـارِ بْـنِ إسـماعيـلا ..(2)
    الفــارِجُ الكُـــــرَبَ العِـــــظــامَ بمِثلِــــهـا = والتــارِكُ المَـــلِــكَ العَـــزيــزَ ذَليــــلا
    مَحِــكٌ إذا مَــــطَـــــلَ الغَــريمُ بدَيْـــنِـهِ = جَــعَـــلَ الحُســامَ بــــمــا أرادَ كَـــفيـلا

    ------------

    (1) شرح المعري
    يقول: لمّا نظرتُ -يوم الفراق- إلى الجواري الحسان، وتأمّلتُ حسن عيونَهنّ هيجتْ لي أحدَاقهن رقة الشوق وحرارة القلب."

    (2) شرح المعري
    يذم: أي يخفط. كأنه يُدخله في ذمّته وجواره، وفاعله: بدر.
    يقول: إن بدرًا يمنع كلَّ من استجار به من كل من يريد قتله، سوى من هذه الحدق، فإنه لا يقدر على منعها ومثله قوله:

    وُقِي الأمِيرُ هَوَى الْعُيُونِ فَإِنَّهُ = مَالا يَزُول بِبَأْسِهِ وسَخَائِهِ

  4. #4
    زائر
    السلام عليكم
    شكراً لك أستاذ خشان فهذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها بالتخلص. لقد بحثت عبر جوجل ووجدت الرابط التالي لعله يكون مفيداً.


    دراسة بنية التخلص في علاقتها بالتجربة الشعرية عند المتنبي

    بنية التخلص في علاقتها بالتجربة الشعرية عند المتنبي
    (2007/3/20 - 12:01)بقلم عبد اللطيف المصدق


    النص الأدبي : أشكال المقاربة والتحليل والتأويل


    أصل المقال: مداخلة في إطار ندوة بجامعة القاضي عياض


    موضوع المداخلة:

    (دراسة بنية التخلص في علاقتها بالتجربة الشعرية عند المتنبي)



    أ ـ مفهوم التخلص العام:



    إن المفهوم الأول للتخلص خاص بالشعر، ويقصد به الإشارة إلى ذلك الجزء من القصيدة الذي يصل مطلعها بغرضها الرئيسي؛ فالحديث عن التخلص يقودنا ، بالضرورة ، إلى الحديث عن باقي المكونات الأخرى للقصيدة (العمودية) التي تتكون ، في الغالب ، من ثلاثة انتقالات أساسية :
    1- المطلع، ويكون في الغالب غزلا.
    2- التخلص، ويتم بوسائل وبكيفيات معينة سنشرحها فيما بعد.
    3- الغرض الرئيسي، ويكون في الغالب مدحا.
    وإذا كان الغرض الرئيسي للقصيدة العمودية يلتحم بالمطلع عبر جسر التخلص، فإن للتخلص وظائف أخرى غير هذه الوظيفة، أقصد هذا الربط بين المطلع السابق والغرض اللاحق. وهذه الوظيفة ربما جعلته أكثر أهمية من المطلع بل من الغرض الأساسي نفسه، على نحو ما سنبين فيما بعد، عند دراستنا لشعر المتنبي

    ب- مفهوم التخلص العام:



    أما المفهوم الثاني للتخلص فهو عام؛ ويشمل الشعر والنثر معا. ويقصد به الإشارة إلى كيفيات معينة للاستئناف أو للاستطراد إلى المعاني المختلفة، أو إلى أجزاء من الكلام. وبعبارة أوضح الانتقال التدريجي من معنى إلى آخر بحيث يكون المعنى الثاني متعلقا بالأول وغير منقطع عنه.
    والذي يهمنا أن هذه الكلمة ( أي التخلص) وما يجري تحت معناها من ألفاظ تحولت من هذين المفهومين السابقين لتصبح اصطلاحا نقديا وبلاغيا، بل لقد صار التخلص من الأبواب الرئيسية في الكتب النقدية والبلاغية، وله محدداته وأساليبه وأنواعه التي تضاربت حولها الآراء .
    ويميز النقاد عادة، بين أسلوبين واضحين في التخلص:


    1- الأسلوب الأول : وهو أسلوب الشعراء الأوائل، ويتحقق على مستوى الشعر إما:
    - بصيغة الأمر؛ وذلك عندما لا يكون خروج الشاعر إلى المدح أو إلى غيره من الأغراض متصلا بما قبله، وإنما يكتفي بهذه الصيغ الآمرة مثل : " دع ذا" ، أو " عد عن ذا" ..
    ويسمى هذا التخلص عند جمهور النقاد العرب القدامى ب" التخلص المنقطع" أو " المقتضب"
    - وقد يكون هذا التخلص مبنيا على وصف الرحلة والراحلة، والطريق التي قطعها الشاعر إلى ممدوحه. وهذا النوع شائع في الشعر العربي ومعروف جدا. وهو على العموم ، أسلوب الشعراء القدامى والشعراء المقلدين لهم.


    2- الأسلوب الثاني : وهو أسلوب الشعراء المحدثين الذين أظهروا عناية خاصة بالتخلص.


    وقد أشاد النقاد بتخلصات الشعراء المحدثين التي أربت على تخلصات الشعراء القدامى، وخاصة تخلصات أبي الطيب المتنبي التي أثارت إعجابهم واستحسانهم, غير أنهم لم يعطوا تفسيرا واضحا لهذا الإعجاب. يقول ابن رشيق مثلا عن تجربة المتنبي في التخلص : ( وأكثر الناس استعمالا لهذا الفن - أي التخلص- أبو الطيب ، فإنه ما يكاد يفلت له ، ولا يشذ عنه).

    ويميز النقاد بين أنواع كثيرة من" التخلصات " : كالتخلص من وصف الطلل ، أو الروض ، أو الوحش، أو الشيب ..الخ
    ولكن أحسن المطالع انسجاما من التخلص، هو تخلص الشاعر من الغزل إلى المدح. وهذا ما عبر عنه أبو الطيب المتنبي في بيته المشهور :

    إذا كان مدح فالنسيب المقدم = أكل فصيح قال شعرا متيم؟


    إن الهدف الأساسي من هذه المداخلة هو التعرف على خصوصيات التخلص في تجربة المتنبي الشعرية.
    صحيح أن القدماء أعجبوا كثيرا بمطالع وتخلصات المتنبي ، ونبهوا إلى مذهب خاص به في هذا الباب. ولكنهم لم يوضحوا السبب العميق الكامن وراء هذا الإعجاب، ولم يعطوا إجابات مقنعة عن أسئلة كثيرة لا زالت معلقة، ومنها تساؤل المتنبي نفسه في البيت السابق .
    وربما يعود السبب إلى نظرتهم الضيقة إلى تخلصات المتنبي، نظرة لم تتجاوز مساحته ومكانه من حجم القصيدة. إذ لم يعرضوا لهذه الظاهرة الأدبية في تموجاتها وحركاتها العامة بما يكفي، ولم يربطوا ذلك بتجربته الشعرية العامة التي هي جزء من حركة حياته الكبرى الحافلة بالهموم والمشكلات الكبرى.
    وإذن، للتعرف على خصوصيات هذه الظاهرة في شعر المتنبي لابد أن ننظر إلى تخلصاته نظرة شمولية في علاقاتها العامة التي يمكن أن نحصرها في ثلاثة ارتباطات أساسية : (ارتباط التخلص بالمطلع الغزلي السابق- ارتباط الغزل بالغرض الرئيسي اللاحق - ارتباط التخلص بالتجربة العامة للمتنبي في شعره وحياته).
    وهذه ارتباطات تتجاوز ظاهر النص الواحد وحدوده إلى نصوص أخرى له أو لغيره، توضح وتحيط بالخيوط العامة لهذه الظاهرة، وتبرزها بالحجم الذي يجعلها محددة الصفات والمعالم.


    إن أولى صعوبات تحليل هذه الظاهرة تتمثل في اختيار النموذج الشعري الملائم الغني بإمكانياته القادرة على الإجابة الشافية على الأسئلة المعلقة.
    وقد وقع اختيارنا، بعد القراءة والتمحيص في ديوان أبي الطيب على قصيدة لامية نراها نموذجا صالحا للتحليل والمقارنة مطلعها:
    ليالي بعد الظاعنين شكول = طوال وليل العاشقين طويل



    الارتباط الأول: ارتباط التخلص بالغزل :


    وهو ارتباط تضاد وتناقض، أو هدم وبناء ؛ ذلك أن المكونات الدلالية واللغوية في الغزل تتناقض مع مثيلاتها في التخلص :
    فالقراءة الأولى لغزل المتنبي توهمنا بأنه يقف في صف الشعراء المتغزلين، ولكن تحليل مكونات هذا الغزل تكشف عن اضطراب مذهب المتنبي في الغزل وتفاوته من قصيدة إلى أخرى، بل وتهافته في بعض الأحيان. وقد نبه كثير من النقاد القدامى ، كما هو معروف، على جملة من مطالعه الغزلية التي لم يتفوق فيها من مثل قوله:
    لما وجدت دواء دائي عندها= هانت علي صفات جالينوسا


    كما أننا لا نستغرب عندما نجده يعبر، بصراحة، عن فكرة التضاد أو الاضطراب في مذهبه الغزلي، بحيث يستحيل تحقيق التوافق بين مطلع الغزل ومقطع التخلص، أو بالأحرى التوافق والانسجام بين عالم الغزل وعالمه الذاتي، أو بين طبيعة الغزل وطبيعته الشخصية التي يمثلها ويجسدها التخلص بكل مكوناته النفسية والدلالية.
    ولننتقل الآن لتوضيح هذه المفارقة، وذلك بتحديد المكونات الأساسية للغزل وللتخلص في هذه القصيدة النموذجية:
    يطالعنا في هذه القصيدة اللامية مكونان أساسيان لعالم الغزل وهما: المرأة والليل:
    - فبالنسبة للمكون الأول (المرأة) لا يقدم المتنبي صورة واضحة مقنعة وصادقة للمرأة (موضوع الغزل)، كما يفعل الشعراء المتغزلون، عادة؛ فلم يتحدث حديثا شافيا عن اسمها أو صفاتها النفسية أو الجسمية، وهي ليست حاضرة حضورا ذاتيا، بل هي حاضرة في ضمير الغائب فقط لذلك رمز لها ب"البدر". والبدر رمز عام يمكن أن ينطبق على كل امرأة، كما أن التركيز لم ينصب عليها وحدها بل شمل أهلها الظاعنين أيضا.


    وإذا تتبعنا سيرة المتنبي في حياته المتقلبة المليئة بالمشكلات الكبرى تأكدت لدينا صعوبة تحقيق التوافق بين طبيعة الغزل، كما نعرفها عند أصحابه المتخصصين فيه، وبين طبيعة المتنبي النفسية الغارقة في الهموم والانشغالات الحياتية الكبرى. وربما هذا ما عبر عنه بصراحة في قوله:

    لم يترك الدهر من قلبي ولا من كبدي = شيئا تتيمه عين ولا جيـــــــد


    وإذن فإن صورة الغزل هذه الخاصة بالاستعمال الشعري عند المتنبي تدعونا للبحث عن تفسير آخر يتجاوز ظاهر الغزل في شعره، ويتعدى دلالته السطحية.
    والمهم عندنا، كخلاصة للتحليل بعيد عن التفاصيل الملة، أن هذا الغزل ليس غزلا صافيا بل هو ممتزج بدلالات أخرى ليست لها طبيعة غزلية حقيقية أو أصيلة في مذاهب المتغزلين المعروفة، بل طبيعة أخرى مناقضة، بل قد تتعارض مع عالم الغزل عند المتنبي وتهده من أساسه.
    وبعبارة أخرى أوضح؛ إن المتنبي يقابل بين هموم العاشقين والمتغزلين، وبين همومه الشخصية مقابلة يمكن أن تصرف الذهن إلى هموم أخرى يمكن أن تكون أكثر أهمية ومركزية في حياة المتنبي، وفي تجربته الشعرية من هموم العشاق، يقول مثلا معبرا عن فكرة التقابل هاته:

    فيا ليت ما بيني وبين أحبتي = من البعد مل بيني وبين المصائب


    ويبدو أن المتنبي يتخذ من الغزل وسيلة جمالية أو وسيطا ملطفا، بتعبير حازم القرطاجني، للتخلص من مشكلاته الخاصة، ومن عالم يكون فيه محاصرا بهموم كبرى حقيقية ومصيرية واجهته في حياته.
    وهنا، تصبح هموم المتنبي ومشكلاته الكبرى إحدى أساليبه الجديدة في التخلص،وبديلا عن كل التخلصات الشعرية الموروثة، ومنها التخلص المقتضب، والتخلص بوصف الرحلة والراحلة. وهما من التخلصات المشهورة المعهودة في الشعر العربي القديم . وهذا ما يدل عليه هذا البيت، على سبيل المثال:

    ولما قلت الإبل امتطينــــــا= إلى ابن سليمان الخطوبـــا


    بحيث يغدو الحديث عن خطوبه وهمومه إحدى أساليبه الجديدة في التخلص والاستطراد إلى معانيه المركزية في نصوصه الشعرية.

    -أما بالنسبة للمكون الثاني (الليل) فقد حاول المتنبي، كما فعل سابقا أن يوهمنا أيضا بأن ليله هو ليل العاشقين المتغزلين غير أنه بتحليل دلالات هذا المكون يبدو التناقض واضحا بينها وبين حقيقة الليل التي عهدناها عند الشعراء المتغزلين أيضا:
    سواء عند المتغزلين العذريين حيث صورة الليل الكليل البطيء المضيء بنجومه وببدره وبهوله ووحشته .
    أو سواء عند المتغزلين الحضريين حيث صورة الليل القصير الذي يحتجب فيه البدر ، وتختفي النجوم ليصبح مجالا واسعا لسرد قصص الحب ومغامرات الليل المدلهم.


    إن صورة الليل التي تطالعنا في هذه القصيدة اللامية وفي كثير من شعره هي ليل المهموم المتوجس لا ليل المتغزل المحب المترقب.
    فدلالة الليل في هذا المقام الخاص بالمتنبي، تتجاوز الدلالة السطحية الأولى لليل كحالة ظلام طبيعية لتصبح ذات طبيعة نفسية خاصة توافق مزاجه، وانشغالاته الكبرى وذلك كلما تقلبت به الأحوال والأوضاع في الحياة، وحيت يمكن أن تتغير وتتحول دلالات الليل أيضا. بحيث ينقلب الليل إلى نهار والعكس بالعكس أيضا.
    فلننظر إلى هذه الأمثلة من شعر أبي الطيب حيث تتحول دلالات الليل عن مفهومها المعتاد في المطالع الغزلية، يقول في البيت الخامس من قصيدته المشهورة: (أغالب فيك الشوق ):

    وكم لظلام الليل عندك من يــــــد = تخبر أن المانوية تكــــــــــذب


    وكقوله أيضا في البيت السابع من نفس القصيدة:

    ويوم كليل العاشقين كمنتــــــــــه = أراقب فيه الشمس أيان تغــرب
    يقاتلني عنك الليل جـــــــــــــــدا = ومنصرفي له أمضى الســـلاح
    لأني كلما فارقت طرفــــــــــــي = بعيد بين جفني والصبــــــــــاح


    إن هذه الأبيات تشير إلى نوع من الانزعاج والقلق، لأن الليل هنا لم يعد حاجزا بينه وبين حبيبته، بل بينه وبين اللقاء بممدوحه المفضل سيف الدولة. فهو لا يدري على أي حال سيلقاه غدا وفي كل وقت عند فراقه بالليل أو النهار.
    يبدو إذن أن رحلة الشاعر إلى لقاء ممدوحه غير الرحلات المعهودة في دنيا كثير من الشعراء السابقين، إنها رحلة شاعر عاشق إلى ممدوح معشوق, رحلة فيها لهفة وترقب وتوجس، وخوف من الوشاة وكيد الحساد، تماما كما يكون الوصع بين متغزل محب ولهان وبين محبوب مدل متمنع.



    الارتباط الثاني : ارتباط التخلص بالغرض الرئيسي .



    إن صورة الغزل التي تحدثنا عنها سابقا بمكونيها : الحبيبة والليل، ترمز في دلالتها العامة إلى حالة نفسية من القلق والترقب والتوجس, وقد أعقبت هذه الحالة النفسية الأولى في المطلع الغزلي حالة نفسية ثانية مناقضة في مقطع التخلص؛ حيث يحدث نوع من الانفراج والتخلص من الحالة التي عاناها الشاعر في ليله السابق. وهكذا يحل التخلص تدريجيا بمكونات جديدة مخالفة ومناقضة لدلالات الغزل؛ حيث يحل الفجر محل الليل والشمس محل البدر والممدوح محل الحبيبة.



    ويصبح الممدوح هو العامل الحاسم في هذا التحول من حال إلى حال ، ومن وضع نفسي سابق إلى آخر لاحق :
    لقيت بدرب القلة الفجر لقيـــــة = شفت كمدي والليل فيه قتيــــل


    إن الحالتين النفسيتين السابقتين مرتبطتان سلبا وإيجابا، وضيقا وانفراجا بالموضوع الأساسي الذي يعالجه المتنبي في الجزء المدحي من قصائده عامة وفي هذه القصيدة اللامية موضوع التحليل بالذات التي تحدث فيها عن معارك سيف الدولة ووضعه على تخوم الروم، وحيث التحمت جيوش سيف الدولة بجيش الدمستق.

    وهكذا تتأكد الصلة بين فرح الشاعر في البيت السابق ووضع سيف الدولة على تخوم الروم بعد أن تحقق انتصاره، ليلج بعد ذلك عالم المدح من أوسع أبوابه، ويكون له مبرر نفسي مقبول لهذا المدح الرائع الذي أسداه لسيف الدولة.



    لقد أثار هذا التناقض بين مكونات الغزل والتخلص في هذه القصيدة وفي كثير من شعر المتنبي تساؤلات كبيرة وشكوكا كثيرة. وكانت له له دلالة في نفس ابن فورجة بعد أن أبدى إعجابه بمقدمة هذه القصيدة.

    وقد حاول ابن فورجة تلميذ المعري أن يعطي تفسيرا لهذا التناقض العجيب قال :( افترى أبا الطيب لولا سيف الدولة لما أصبح ليله, ولما لقي الفجر، ولو لم يصل إلى درب القلة لما شفي عشقه، فأي فائدة للعاشق في الوصول إلى درب "القلة"؟!).

    وحق لابن فورجة هذا السؤال المهم،لأن درب القلة هو المدخل إلى لقاء العدو الرومي، فماذا يستفيد العاشق في هذا الموضع الذي تلتحم فيه الجيوش وتتطاير الرؤوس؟.



    ولكن ابن فورجة، مع أهمية ملاحظته وتساؤله، لم ينتبه إلى إلى أن المتنبي قد اصطنع بهذا الأسلوب طريقة متميزة لإقامة علاقة جديدة بينه وبين ممدوحه المفضل سيف الدولة، أساسها هذا الود أو العشق الذي عادة ما يكون شائعا في قضائد الغزل. وقد نقله أبو الطيب إلى عالم المدح أيضا. وهو ما عبر عنه الثعالبي ب " خطاب الممدوح بمثل مخاطبة المحبوب" قال: ( إن المتنبي قد خاطب الممدوح بمثل مخاطبة المحبوب ، وأنه قد استعمل ألفاظ الغزل والنسيب في أوصاف الحرب والجد).

    وقد رأى في هذا مذهبا تفرد به المتنبي.



    غير أن الثعالبي وقبله ابن فورجة لم يعطيا تفسيرا مقنعا لهذه الظاهرة لأنهما لم يربطا بين شعر المتنبي وتجربته العامة في الشعر والحياة.

    ونحن نستطيع أن نتتبع لغة الحب هذه، ليس فقط في هذه القصيدة، وإنما منذ لقائه الأول بسيف الدولة، ثم حتى بعد افتراقهما عندما اضطر إلى مغادرته كرها والذهاب مجبرا إلى مصر، ثم عودتهما ثانية للالتقاء لفترة لم تعمر طويلا.



    والذي يهمنا من هذا كله أن هناك مزج واضح بين حديث المتنبي عن الغزل وبين إحساسه بالزمن وإدراكه لطبيعة الحياة من حوله، ولطبيعة ونوع علاقته المتميزة مع ممدوحه المفضل سيف الدولة. يقول الدكتور محمد زكي العشماوي:( إننا أمام شاعر ينظر للوجود من زاوية خاصة، ويخلع على موضوع الغزل ما في أعماقه من رؤية للحياة).

    وهو إحساس واحد ينمو من بداية القصيدة ليهيمن على باقي أجزائها.



    الارتباط الثالث : ارتباط التخلص بالتجربة العامة في شعره وحياته.


    إن تعلق الشاعر بممدوحه المفضل سيف الدولة يتجاوز بكثير تلك العلاقات النفعية السطحية التي نعرفها في المديح التقليدي؛ والتي تتلخص في ثنائية ( الشكر والجائزة)، أو المدح والصلة.
    إنه تعلق بقيم عليا تمثلت بشكل أخص، في سيف الدولة، وربما هذا الذي جعل الدكتور طه حسين يرى في هذه القصيدة اللامية: (تعبيرا عن موقف نفسي كلي ، وعما يصطرع في نفسه من انفعالات)
    ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك ويرد هذا التعلق الكبير بينهما إلى بعض الأسرار: (تخص أغراضهما وآمالهما في إعادة المجد العربي وإزالة الحكام الطاغيين).


    ويبدو لنا كان المتنبي، بهذا الأسلوب الجديد في الخطاب المدحي، أراد أن يقف مع ممدوحه المفضل سيف الدولة في وجه العالم المحيط به بعد أن أصابه الضعف، وعمه الخلل والفساد، وامتلأ بالحساد والمنافقين:
    ومن مظاهر هذه المجابهة المشتركة بينهما: حثه سيف الدولة على إخماد صوت الحساد في هذه القصيدة، وفي كثير من شعره .
    ومن مظاهرها أيضا إعلانه الثورة على الضعف وعلى الفساد وعلى العجم المتسلطين، يقول:

    ميعاد كل رقيق الشفرتين غـــدا = ومن عصى من ملوك العرب والعجم


    وكقوله أيضا متبرما وساخطا:


    وإنما الناس بالملــــوك ومــــــا = تفلح عرب ملوكهــــــــا عجـــــــــــم

    ولا شك أن ظروف العصر التي ظهر فيها المتنبي ( القرن الهجري الرابع ) كانت جزء من مأساته . وهو عصر عرف تصدع الأمة العربية، وكثرت فيه الثورات، وتسلط فيه الأعاجم على معظم المناصب الحيوية.



    وخلاصة القول، فقد استطاع المتنبي في اختياراته للمكونات الأساسية في شعره، وفي مستوياتها الانتقالية الأساسية: ( المطلع ـ التخلص ـ الغرض ) أن يحدث توافقا بين طبيعته النفسية وبين طبيعة استعماله لتلك المكونات، خارجا عن عادة الشعراء في استعمالهم لها.
    ويمتد هذا التوافق ليشمل المكونات الأخرى: أقصد المكونات اللغوية والتشكيلات اللغوية والجمالية المناسبة، مما يحتاج إلى توسع وشرح مفصل يضيق عن مجال هذه المداخلة الموجزة المتواضعة.

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    May 2005
    المشاركات
    133
    موضوع جميل استاذي الرائع

    تقبل مني هذه المشاركة المتواضعة

    من شعر أمير الشعراء أحمد شوقي:-

    فساءلنها مااسمي فسمت فجئنني

    =يقلن أماناً للعذارى من الشعرِ


    فقلت أخاف الله فيكن إنني

    =وجدت مقال الهجر يُزرى بأن يزري


    أخذتُ بحظٍ من هواها وبينِِها

    =ومن يهوَ يعدل في الوصال وفي الهجرِ



    إذا لم يكن للمرء عن عيشةٍ غنى

    =فلا بد من يسرٍ ولابد من عسرِ


    ومن يخبر الدنيا ويشرب بكأسها

    =يجد مرها في الحلو،والحلو في المر

    وتقبل دائماً احترامي وتقديري
    التعديل الأخير تم بواسطة يسرى ; 08-14-2007 الساعة 09:14 PM
    (( وبشر الصابرين )) / (( إنّ الله مع الصابرين ))

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    المشاركات
    15,965
    الأخت الكريمة سارة

    شكرا للمشاركة القيمة

    ---

    الأخت الكريمة يسرى

    شكرا لمشاركتك ويساورني إحساس بخفوت التخلص .

    ---

    يرعاكما الله.

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    الدولة
    قطر الحب والسلام
    المشاركات
    816
    كمن يتغزل في إمرأة " محبوبته "

    ثم يتضح من نهاية الأبيات أنه يعني وطنه

    اعجبني الموضوع جداً ولدي بعض كتاباتي على هذا القبيل


    شكراً لك استاذ خشان وأطال الله عمرك

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jul 2007
    المشاركات
    1,124
    تسجيل مرور ثاني
    اتابع معك استاذي
    فربما كنت اكثر خبرة وتخلصا
    تحيه

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Aug 2007
    المشاركات
    30
    [color=#4B0082]حقيقةً من أجمل المواضيع فهو ممتعٌ ومفيد

    هنا من قصيده للمتنبي





    أمِنَ ازْدِيارَكِ في الدُّجى الرُّقَبَاءُ إذْ حَيثُ كنتِ مِنَ الظّلامِ ضِياءُ
    قَلَقُ المَليحَةِ وِهْيَ مِسْكٌ هَتكُها ومَسيرُها في اللّيلِ وهيَ ذُكاءُ
    أسَفي على أسَفي الذي دَلّهْتِني عَنْ عِلْمِهِ فَبِهِ عَليّ خَفَاءُ
    وَشَكِيّتي فَقْدُ السّقامِ لأنّهُ قَدْ كانَ لمّا كانَ لي أعضاءُ
    مَثّلْتِ عَيْنَكِ في حَشايَ جِراحَةً فتَشابَها كِلْتاهُما نَجْلاءُ
    نَفَذَتْ عَلَيّ السّابِرِيَّ ورُبّما تَنْدَقّ فيهِ الصَّعدَةُ السّمْراءُ
    أنا صَخْرَةُ الوادي إذا ما زُوحمَتْ وإذا نَطَقْتُ فإنّني الجَوْزاءُ
    وإذا خَفِيتُ على الغَبيّ فَعَاذِرٌ أنْ لا تَراني مُقْلَةٌ عَمْيَاءُ
    شِيَمُ اللّيالي أنْ تُشكِّكَ ناقَتي صَدْري بها أفضَى أمِ البَيداءُ
    فَتَبيتُ تُسْئِدُ مُسْئِداً في نَيّها إسْآدَها في المَهْمَهِ الإنْضاءُ
    بَيْني وبَينَ أبي عليٍّ مِثْلُهُ شُمُّ الجِبالِ ومِثْلُهنّ رَجاءُ
    وعِقابُ لُبنانٍ وكيفَ بقَطْعِها وهُوَ الشّتاءُ وصَيفُهُنّ شِتاءُ
    لَبَسَ الثُّلُوجُ بها عَليّ مَسَالِكي فَكَأنّها بِبيَاضِها سَوْداء

    وكَذا الكَريمُ إذا أقامَ ببَلْدَةٍ سَالَ النُّضارُ بها وقامَ الماءُ
    جَمَدَ القِطارُ ولَوْ رَأتْهُ كمَا تَرَى بُهِتَتْ فَلَمْ تَتَبَجّسِ الأنْواءُ
    في خَطّهِ من كلّ قَلبٍ شَهْوَةٌ حتى كأنّ مِدادَهُ الأهْواءُ
    ولكُلّ عَيْنٍ قُرّةٌ في قُرْبِهِ حتى كأنّ مَغيبَهُ الأقْذاءُ
    مَنْ يَهتَدي في الفِعْلِ ما لا تَهْتَدي في القَوْلِ حتى يَفعَلَ الشّعراءُ
    التعديل الأخير تم بواسطة أحمدْ ; 08-30-2007 الساعة 02:39 PM

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    May 2005
    المشاركات
    133

    مثال في محله أخي الكريم أحمد

    ابيات رائعة ولعل التخلص تتجلى ملامحه اكثر في شعر المتنبي

    احترامي وتقديري لك
    (( وبشر الصابرين )) / (( إنّ الله مع الصابرين ))

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    May 2005
    المشاركات
    133
    الأخت الكريمة يسرى

    شكرا لمشاركتك ويساورني إحساس بخفوت التخلص .

    ****

    نعم أستاذي ممتنة لذوقك في التنبية

    فبعد قراءتي الثانية للموضوع وجدت التخلص في

    مثالي أشبه بالقفز

    وماتضمنته الفكرة الأصلية للتخلص يشبه التسلل بهدوء

    لاأعتقد أنني سأتخلص من عقدة التشبيهنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    بإذن الله متى ماوجدت مثال أكثر مناسبة سأعمد إلى إدراجه هنا

    عميق احترامي للجميع
    (( وبشر الصابرين )) / (( إنّ الله مع الصابرين ))

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    المشاركات
    15,965
    وردت في المشاركة القيمة للأستاذة سارة ثلاثة أخطاء مطبعية في ثلاثة أبيات للشعر أخلت بوزنها :

    وفيما يلي الأبيات الثلاثة بنص كل منها ثم تصويبه:

    وَلَمّا قَلَّتِ الإِبلُ اِمتَطينا ...... إِلى اِبنِ سُلَيمانَ الخُطوبا

    وَلَمّا قَلَّتِ الإِبلُ اِمتَطينا ...... إِلى اِبنِ أَبي سُلَيمانَ الخُطوبا


    يقاتلنـي عنـك الليـل جـدا......ومنصرفي له أمضى السلاح

    يُقاتِلُني عَلَيكَ اللَيلُ جِدّاً ...... وَمُنصَرَفي لَهُ أَمضى السِلاحِ


    ميعاد كـل رقيـق الشفرتيـن غـدا....ومن عصى من ملوك العرب والعجم

    ميعاد كـل رقيـق الشفرتيـن غـدا....ومن عصى ملوك العرب والعجم

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
الاتصال بنا
يمكن الاتصال بنا عن طريق الوسائل المكتوبة بالاسفل
Email : email
SMS : 0000000
جميع ما ينشر فى المنتدى لا يعبر بالضرورة عن رأى القائمين عليه وانما يعبر عن وجهة نظر كاتبه فقط