النتائج 1 إلى 12 من 12

الموضوع: نحن ولغتنا - صرخة غيرة

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    المشاركات
    15,965

    نحن ولغتنا - صرخة غيرة






    مساقات
    د. عبدالله بن أحمد الفـَيفي
    تعليم الطفل العربي: من المسؤول؟



    أشرنا في مساق سابق إلى أن اللغة العربية الفصحى توشك أن تكون اليوم لغة أجنبية في العالم العربي، فلماذا لا تُعلّم كما تُعلّم اللغة الأجنبيّة؟ لماذا لا نحذو حذو الأُمم في تعليم لغاتها، محادثةً وكتابةً، إذ تربط النظريّة بالتطبيق، بل تعتمد على الاستخدام قبل التقعيد؟!
    لنعدّ اللغة العربيّة- جدلاً- لغة أجنبيّة، كالإنجليزيّة- التي نعتزّ اليوم بتكريسها لغة حياة وعمل- أو الفرنسية، أو الإسبانية، فكيف تُعلّم اللغات الأجنبيّة في كل العالم؟
    ألم يأنِ للعرب أن يَعُوا ما اللغة في حياة البشر والشعوب؟! ألم يأنِ لهم أن يُدركوا أن اللغة استخدام وتطبيق لا نظريات وهلوسات قواعديّة؟!
    إذن، ما للتربويين، من المعنيين بالأمر، لا يرون- وبعضهم قد تعلّم لغةً أخرى- كيف تُعنى الأمم بتعليم لغاتها، محادثةً وكتابة، إذ تربط النظرية بالتطبيق، بل تعتمد على الاستخدام قبل التقعيد!
    تُرى- مثلاً- لماذا تُصبح المهارات الكتابية فَضْلةً في مدارسنا؟
    لقد اقترحت إحدى كاتبات (الجزيرة)، الأستاذة نورة آل عمران، في مقال لها في (العدد 12572، الخميس 11 صفر 1428هـ، ص23)، تحت عنوان: (إنقاذ لغة الطفل)، ربط الأهداف النظريّة العُليا للأمّة بالتطبيق. وتبدو الكاتبة معلّمة، تتحدث من الميدان، مدركةً واقع الحال أكثر من غيرها. وفي رأيي أن مثل هذه الأقلام- المقتدرة على الكتابة والنقد البنّاء- حريّة باستكتاب (الجزيرة)، وبشكل مستمر. لقد ذكرت الكاتبة أن تعميمات وزارة التربية والتعليم لالتزام المعلّمات باللغة العربيّة مع فَرْض درجات على ذلك، لن يُجدي نفعًا، ما دام المسؤول أو المسؤولة عن التنفيذ غير مؤهَّلَين أو ملتزمَين! كما ألمحتْ في ذكاء وسخرية، إلى قضية القضايا في لغتنا العربية، حين قالت: (على الوزارة أن تضبط التعميمات المرسلة إلى المدارس بالشَّكل، لتُسهم على الأقل في تفصيح لغة المديرات!) وهنا إشارة إلى مُشْكِل لغويّ، يُسهم في ضعف أجيال اليوم في اللغة العربية. ذلك أن اللغة العربية لغة إعرابيّة، يتحدّد موقع الكلمة فيها عن طريق حركة إعرابها، رفعًا ونصبًا وجرًّا، كما أن بناء المفردات الصرفي قائم في جانب منه على الحركات. غير أن هذه الحركات ظلّت مهملة في الكتابة العربية. وبلمحة تاريخية فإن الكتابة العربية مرّت في تطوّرها بمرحلة كتابة الحروف المجرّدة من النقط والشكل، ثم جاء نقط الحروف، وتلاه الضبط بالشكل، إلاّ أن هذا الإجراء الأخير بقي فضلة غالبًا وزينة في الكتابة العربية، عدا كتابة المصحف الشريف. مع أن هذه الحركات أصوات لغويّة، وهي في لغات أخرى حروف هجائية. بيد أن تطوّر الكتابة العربية قد تجمّد منذ مئات السنين، وكأن تلك الكتابة التي وُرثت عن مراحل حضاريّة بدائيّة قد اكتسبت قداسة نهائية- ضد المسّ أو التطوير- تدفع ثمنها الأجيال!
    إن السؤال الذي تقترحه مقالة الأخت نورة آل عمران- وإنْ بأسلوب غير مباشر- هو الآتي: تُرى لو صارت الحركات الإعرابيّة والصرفيّة جزءًا لا ينفصل عن بنية الكلمة العربية- ملزمةً للكاتب لزوم كتابة الحروف، بحيث يُعتدّ تركها خطأ إملائيًّا- أما كان ذلك سيربط ذهن الكاتب والقارئ والسامع بهذه القواعد التي نظل نتحدث عنها نظريًّا، ولا تظهر فيما نكتب أو نقرأ، إلا في الكلمات المعربة بالحروف؟
    أزعم أن هذه لفتة مهمّة جدًّا تبعث على إعادة النظر في المأزق الكتابي (الإملائي- النحوي) ضمن جذره القديم الذي لا نلتفت إليه. ولو حدث ذلك فإن قواعد اللغة ستصبح ممارسة فعليّة تُكتسب تلقائيًّا بالاستعمال. يُضاف إلى هذا مقوِّم آخر غائب في مناهجنا، وهو: المحادثة باللغة العربية الفصحى. فأين نصيب (المحادثة) بالفصحى في حصص الدراسة، على غرار ما يتلقّاه طالب اللغة الأجنبية، فيما يسمى:(التواصل (Communication)؟
    أم هل سننتظر حتى تُصبح الفصحى لغة الشارع لنجعل في حصص اللغة العربية (حصة محادثة وتواصل)؟!
    وماذا عن (الخطابة)؟ أو المسرح المدرسي؟
    لا شيء من ذلك كله يُذكر في مناهجنا التطبيقيّة، وإنما هو فاعل ومفعول، وبينهما طالب حائر ضائع، لا في العير ولا في النفير!
    كم هو محروم الطفل العربي من التعلّم الطبيعي للغته؟!
    مع أن الوسائل المشار إليها بدائية بداهية، لا تتطلب كثير حذلقة، ولا وزارات تربية وتعليم، ولا تطوير مناهج! ولقد كانت قديمًا مطبّقة في الكتاتيب، فخرّجت أجيالاً لا يكادون يَلْحَنون، وإن لم تخرّجهم نحاة يلوكون ألسنتهم بالقواعد. وتلك الوسائل البدائية مطبّقة الآن في أرقى معاهد تعليم اللغة في العالم، وكان يمكن عن طريقها أن يصحّ شيء في أداء التعليم نحو العربية، أهمّ من القواعد ومحفوظاتها الرياضية.
    غير أن هناك إشكالاً آخر لا يقل خطورة في احترام الطفل العربي لغته. وهو : كيف له أن يقتنع بما يتلقّاه في المدرسة ويقرأه في الكتب، وهو يرى جُلّ الاحتفاء والتمجيد، اجتماعيًّا بل رسميًّا، يدور في فلك العاميّة، في الإعلام، والفن، والمهرجانات، والفضائيات! بل إن الاحتفاء بالعاميّة قد بات يغزو مدارسنا أيضًا، فالقصيدة النبطيّة تربّعت في البرامج الاحتفالية لبعض المدارس مؤخرًا، ازدواجًا لغويًّا وأدبيًّا، مرهصًا لما بعده، حتى لا يُحرم الجيل الصاعد من معمعة الشتات اللغويّ والأدبيّ. وفي هذا المضمار كذلك فوجئ الحفيّون بشأن إحياء اللغة العربية ودعم مواكبتها العصر- وبعد ردح طال من الحُلم بإنشاء مَجْمَعٍ واحد للغة العربية في منطقة الخليج، على غرار مجامع اللغة العربية في مصر وسوريا والعراق والسودان وغيرها- بافتتاح القرن الحادي والعشرين بتدشين فضائيات عاميّة شتّى، تملأ نبطيّاتها الدنيا، وتضيق برغائها الآفاق!
    إن طفل الأمس- أي قبل أن يمنّ الله على العرب بنعمٍ ظاهرة لم يحسنوا توظيفها- كان يشكو فقط الازدواج اللغوي بين مستوى لغة الشارع والمنزل من جهة، واللغة الرسمية في المدرسة والإعلام من جهة أخرى. أمّا اليوم فقد ازدادت الهوّة هوّة، حينما مُنحت اللهجات العربية شرعيةً رسميّة، فاحتلت الساحات، هنا وهناك. إذ لم يقتصر الأمر على اختزال تراث الأمة في حفظ تلك المأثورات التي تعود إلى عقود مضت من عصور انحطاط الأُمّة لغويًّا وثقافيًّا- ولدى أجيال أُمّية معذورة- لم يقتصر الأمر على حفظ تلك المأثورات، بزعم قيمتها البحثية التاريخيّة، بل أمسى الاتجاه على قدم وساق نحو الاستمرار في هذا الأدب المحكي، إلى ما شاء الله، حتى وإن كان أصحابه محسوبين في النخبة والمتعلّمين!
    وهكذا غزت اللهجات كل المنابر التي لم يكن لها قِبَل بها من قَبل، فغدت تكتسح المطبوعات، وسوق الكِتاب، والصحف، والمجلات، والجامعات، والإذاعة، والتلفاز، والإنترنت، والفضائيات. حتى لقد أصبح بعض خطباء الجُمَع، والوعّاظ، والدعاة الدينيين، وشيوخ الأزهر، لا يرون بأسًا في استخدام العاميّة، بل السوقيّة منها، بحجة التحبّب إلى الناس وكسب الجماهيريّة، وكأن اللغة ليست بجزء مما يدعون الناس إليه منذ نزل كتابنا بلسان عربي مبين غير ذي عوج، فصاروا يدعون الناس كما يفعل الداعية الهندي أو الفارسي حينما يستخدم لغته الميسورة، لإيصال الفكرة لا الكلمة. فهل صار الإسلام أفكارًا مستقلة عن اللغة؟ ما هكذا الدين الإسلامي، بل هو دين لغة! لِمَ يضاهئ هؤلاء إذن من يكتبون في مواقعهم على (الشابكة) حول الإسلام أو القرآن، فتراهم يتعمّدون الخطأ اللغوي، وتكسير الجملة نحويًّا، لا جهلاً، ولكن إدراكًا بأنهم بذلك يحاربون الإسلام من عقر داره: اللغة العربية: (طالع: موسوعة تاريخ أقباط مصر: نموذجًا). أمّا إقامة المناسبات، والمسابقات، والاحتفاليات، فحدّث ولا حرج! وبذا باتت تُتوّج الأُمّية تاج العروبة، وتُلبس وشاح التراث والتاريخ والثقافة، وتُمنح بيننا القِدْح المعلّى في شتى الميادين، وبمناسبة وبغير مناسبة! فما نتيجة هذه الفوضى العارمة في دنيا العرب؟ ذلك ما سيتطرق إليه المساق المقبل إن شاء الله.

    * عضو مجلس الشورى aalfaify@hotmail.com


  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Feb 2007
    الدولة
    في قلب الحس حيث يقطر الحبر في غسق الدجى
    المشاركات
    118
    لغتنا العربية الفصحى السليمة هي أمانة في أعناقنا جميعا ..
    وهي مسؤولية الجميع بدءاً بالأسرة والمدرسة والمجتمع الذي تدور في فلكه كل الأسر ..
    ولعل أهم مسؤولية هي التصدي للأخطاء الشائعة في الميادين العامة وفي كل مكان , وكذا التصدي للوحات الإعلانية ولوحات المحلات المنتشرة بكثرة مستخدمة أسماء اجنبية بأحرف عربية وهو مما يستفز النفس ويغيظ القلب وتهتز له الضمائر الحية .. فهو وإن دل فإنما هو دال على انهزامية ورجعية وتحرر وشعور بالعار من اللغة العربية مع الأسف الشديد .. وإلا فما الداعي إلى التحرر من استخدامها وتفضيل اللغة الأجنبية عليها ...
    هل تعرف أستاذي الفاضل أن اللغة العبرية كانت لغة ميتة وتكاد أن تعد من اللغات البائدة ..
    فانظر الآن ماذا يفعل أصحابها من الصهاينة الأعداء إنهم يتقاتلون على إحيائها ..
    أعان الله وبه المستعان ..
    وهو الكفيل بحفظ هذه اللغة الخالدة الصميمة بحفظه تعالى للقرآن الكريم ..
    جعلنا الله جميعا من حماتها والمدافعين عنها ..
    شكراً لك أستاذاً جليلاً على نقلك لهذا الموضوع .. ولعل في ذلك عبرة لمن يعي أو يتدبر
    تحياتي
    التعديل الأخير تم بواسطة عطاف سالم ; 07-10-2007 الساعة 10:08 PM

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    المشاركات
    15,965
    أستاذة عطاف : شكرا لك، ويواصل الدكتور عبدالله الفيفي حديثه حول العربية:



    http://www.al-jazirah.com.sa/culture...7/fadaat10.htm
    http://www.al-jazirah.com.sa/culture...082007/T06.pdf
    Culture Magazine Monday 13/08/2007 G Issue 210

    فضاءات
    الأثنين 30 ,رجب 1428 العدد 210

    مساقات
    أنا لُغتي أنا !
    د.عبدالله بن أحمد الفَيفي*


    اللغة: هُويّة الإنسان، بل هي مَيِّزَةُ الإنسان على الحيوان، وكانت أوّل درس تلقّاه آدم عليه السلام، إذ علمه الله الأسماء كلها.

    ومن هنا فليست اللغة بوعاء الفكر فحسب، كما يُقال، أو بمجرد وسيلة تواصل، بل هي أكثر من ذلك، من حيث هي أداة الفكر، فلا تفكير إلا بلغة. ولذلك فإنها تكيّف العقل وتشكّله وفق نمطها الخاص، ومن ثمّ تنسج الذهن والوجدان على منوال الثقافة التي تنتمي إليها اللغة، فاللغة العربية تصنع عقليةً عربيّة، وتصوغها فكرًا وروحًا وانتماءً، وتطبعها بطابعها، والانجليزية تصنع عقليةً إنجليزية، وتصوغها فكرًا وروحًا وانتماءً، وتطبعها بطابعها، وإن كان مكتوبًا في هويّة صاحبها: عربيّ، أو هندي، أو صيني. تلك هي اللغة، وكذلك تعمل فينا. الإنسان هو لغته. وهذا ما عبّر عنه محمود درويش بعمق شعريّ في قصيدته "قافية من أجل المعلّقات"، من مجموعته الشعرية "لماذا تركتَ الحصان وحيدًا":

    ما دلّني أحدٌ عليَّ. أنا الدليلُ، أنا الدليلُ

    إليّ بين البحر والصحراءِ. من لغتي وُلدتُ

    على طريق الهندِ بين قبيلتَين صغيرتين عليهما

    قَمَرُ الديانات القديمةِ، والسلامُ المستحيلُ

    وعليهما أن تحفظا فَلَكَ الجِوار الفارسيّ

    وهاجس الرومِ الكبيرَ، ليهبط الزمنُ الثقيلُ

    عن خيمة العربيّ أكثرَ. من أنا؟ هذا

    سؤالُ الآخرين ولا جوابَ له. أنا لغتي أنا،

    وأنا معلّقةٌ... معلّقتانِ... عَشْرٌ، هذه لغتي..

    أنا لغتي، أنا ما قالتِ الكلماتُ:

    كُنْ

    جَسَدي، فكنتُ لنَبْرِها جَسَدًا. أنا ما

    قلتُ للكلمات: كُوني ملتقَى جَسَدي مع

    الأبديّة الصحراءِ. كُوني كي أكونَ كما أقولُ! ...

    فلتنتصر لُغَتي على الدَّهْر العَدُوِّ، على سلالاتي،

    عليَّ، على أبي، وعلى زوالٍ لا يزولُ

    هذه لُغَتي ومعجزتي. عصا سحري.

    حدائق بابلي ومسَلَّتي، وهويّتي الأولَى،

    ومعدنيَ الصَّقيلُ

    ومقدَّسُ العربيِّ في الصحراءِ،

    يعبُدُ ما يسيلُ

    من القوافي كالنجومِ على عباءَتَهِ،

    ويعبدُ ما يقولُ ...

    وتشظّي لغتنا العربيّة بين عاميّة وفصيحة تركة ثقيلة، خطيرة على الوحدة اللغويّة والوحدة القوميّة.. على الرغم من أن الفاصل بين بعض العاميّة ذات الأصل الفصيح والفصحى ليس بكبير، ويجب إلغاء الجدار العنصري بينهما، شريطة أن تكون المفردة العاميّة عربيّة الأرومة. أمّا من يقيس اللغة العربيّة بلغات أخرى في حراكها وتناسلها، فحريّ به مراجعة العواقب. فلو استشهدنا باللغة الإنجليزية مثلاً، وقسنا على لغة شكسبير التي لم تعد سائغة في انجليزية اليوم، لكان قياسنا قياسًا مع الفارق الكبير؛ من حيث إن الإنجليزية لغة متحرّكة، لها كل يوم معجم، فلو أخذنا بمقياس شكسبير ولغته، إذن لاحتاج المتنبي إلى ترجمان، وإذن لألغينا من حسابنا القرآن، فهو أقدم، ناهيك عن أدب ما قبل الإسلام. إن العربيّة لغة دينٍ وتراث وحضارة، والقياس بغيرها غير وارد، إلا إنْ رضينا أن نكون بلا ماضٍ ولا تراث متصل ولا تاريخ ثقافي وروحيّ.

    كما لا يشكّ عارف بتأثير اللغات الأجنبيّة في الفكر وحياة الإنسان والشعوب. وأن تدريس اللغة الأجنبية في مراحل عمريّة مبكرة يعني تغريب العقل والروح والفكر! وهو ما لا تفعله أمّة إلا وقد سَفِهَتْ نفسها، ورضيتْ أن تكون تابعة لأمة أخرى. هذا ليس كلامًا عاطفيًّا، لكنها منذرات علم اللغة وعلم التاريخ. على أنه يجب التفريق في هذه الجدليّات بين مبدأ تعلّم اللغات الأخرى، وهو أمر مشروع بل مطلوب، وتعليمها في مراحل عمريّة مبكرة.

    لقد أحيت إسرائيل- على سبيل المثال- لغة ميتة، وفرضتها على شعبها، ولا تعبأ بالإنجليزية، مثلما نفعل، لتعيش ازدواجنا، أو لتجعلها مصيرها المحتوم؛ لأنها تدرك أن العبرية تعني: إسرائيل. فمتى ندرك نحن أن العربيّة هي: العرب؟

    أمّا الباحثون عن الحياة الخدميّة وطلبتها فكُثر، والإنجليزية أداتها اليوم، غير أن شأن اللغة، لدى من ينظر إلى أبعد من قوت يومه، هو شأن آخر.

    ثم من قال إن الإنجليزية قد أصبحت الطريق الصحيح لتلقّي المعارف والعلوم المختلفة، كما تسوّق هذه اللازمة الدعائية؟ هذا امتداح لا يقوله الإنجليز أنفسهم، بل هم يصفون لغتهم بأنها "لغة مجنونةCrazy Language "، والأكاديميات الأمريكية تشكو اليوم من تخلّف طلبتها في العلوم والمعارف قياسًا إلى الألمان أو اليابانيين، فهل أنقذتهم الإنجليزية؟! واليابان- من جهتها كذلك- لا تمنح الإنجليزية تلك الأهمية القصوى التي يمنحها إياها بنو يعرب، ولا تراها طريق معرفتها المُثلى، كما يرون. وأذكر هنا أنني كنتُ وبعض الزملاء في لقاء مع سفير اليابان لدى المملكة، رفقةَ وفدٍ برلماني ياباني، فسألنا عن تعليم طلابنا في اليابان، وعن اللغة التي يتعلّمون بها، (سألنا عن الإنجليزية بالإنجليزية طبعًا، مع وجود ترجمان بين العربية واليابانية، لم يكن له من دور!)، فضحك السفير قائلاً: هناك بعض المدارس الخاصة لمن شاء، إلا أن التعليم الرسمي والعام لدينا باليابانية!

    إن من حجج المهوّنين من شأن المخاطر المحدقة باللغة العربية، سواء من مروّجي العاميّة أو دعاة اللغات الأجنبيّة، استدلالهم بالآية القرآنية: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون". وكأن في هذا ضمانة أبديّة ببقاء اللغة العربيّة. وما حجتهم بسوى تأويلٍ موظّف لغَرَض التقليل من تأثير العاميّات أو اللغات الأجنبيّة، وإلا فالنصّ جاء عن "الذِّكْر"، لا عن "اللغة". و"الذِّكْر" محفوظ، إنْ في اللوح المحفوظ، أو في البلدان الإسلامية، عربيّة وأعجمية، كأفغانستان، أو باكستان، أو إيران، لكن اللغة غير محفوظة في تلك البلدان. بل لقد صارت لغة العرب أسوأ من لغة أولئك، الذين علّمونا لغتنا ويعلموننا إيّاها، منذ سيبوية إلى سعيد الأفغاني! فليت شعري أين اللغة المحفوظة بحفظ القرآن؟ أم هل نريد أن تغدو العربية كالقبطية لغة صلوات وطقوس فقط؟

    كما أن من المغالطات المألوفة كذلك الخلط بين شعار "اطلبوا العلم ولو في الصين"، و"من عرف لغة قوم أَمِنَ مكرهم"- وهما شعاران يعنيان: نقل المعرفة وتعريبها وتوطينها، لا جعلها جسرًا للانسلاخ والتبعيّة والاغتراب- وبين تبرير الهجمة الشرسة على العربيّة من مستعمرٍ غازٍ أو مستعمر وطني، مدافعٍ عن عُقَدِهِ اللغويّة بالتهوين من شأن الازدواج اللغوي، العامي الفصيح، والعربي الأجنبي، دون أن يملك ما يقدّم إلا التقوّل والتأوّل وإظهار التفاؤل. وها قد خربت مالطا، وشبعت خرابًا، وليس من التفاؤل في شيء دس الرؤوس في الرمال!

    المفارقة أن تأتي كل تلك الضجة حول أهمية اللغة الإنجليزية والتهويل من عظيم ما ستمنحنا إياه من مستقبل المنّ والسلوى، على الرغم من تعثّر طلابنا في كل اللغات، فلا هم أفلحوا في العربية ولا هم أفلحوا في الإنجليزية، فالخيبة عامة طامّة.

    لماذا؟ لأن من يُتقن لغته الأمّ هو أكثر تأهيلاً لإتقان أي لُغةٍ أخرى، من حيث إن اللغة مهارة ذهنيّة منطقيّة، تُكتسب بمنطق اللغة الأوّليّ في الذهن، فمن يتقن العربية سيسهل عليه تعلّم أي لُغة، بل سيبزّ سواه من المتردّين أصلاً في لُغتهم الأمّ.

    ولنا مع هذا الموضوع مخاضٌ في المساق المقبل، بمشيئة الله.


    * (عضو مجلس الشورى)
    aalfaify@yahoo.com

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jul 2007
    المشاركات
    1,124
    للاسف عوضا عن ان ننعشها ونقويها
    نفضل عنها الغربيه
    الى متى؟
    هل البيئه ام الاهل ام المدرسه؟
    ام متطلبات الحياه؟
    على المخلصين امثالكم ان نحببها للجيل ونقدم مانستطيع
    تحية وتقدير
    التعديل الأخير تم بواسطة ((ريمة الخاني)) ; 08-13-2007 الساعة 05:35 PM

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    May 2005
    المشاركات
    133
    تُرى لو صارت الحركات الإعرابيّة والصرفيّة جزءًا لا ينفصل عن بنية الكلمة العربية- ملزمةً للكاتب لزوم كتابة الحروف، بحيث يُعتدّ تركها خطأ إملائيًّا-


    يبدو لي ذلكَ أمراً شاقاً لكن ْبحقٍ لما لا


    مقال مهم جداً


    أحب أيضاً أن أضيف هنا متفائلة ومشيرة بتقدير عميق

    إلى مسابقة رسمية في اللغةالعربية بين طلاب الصف الثالث في مدارس المراحل الاولى في سلطنة عمان ،وفيها تكرم وزارة التربية المدرسة التي يحقق طلابها قدرات عالية في القراءة بشكل صحيح ،ويتم اختيار الطلاب بشكل عشوائي في يوم المسابقة ،وعليه تنفذ المدارس حصص مكثفة للقراءة ..اتذكر كيف كانت أجواء المسابقة تنافسية وحميمية وكيف كانت فرحة الفوز عارمة للمدرسة الفائزة ،والمكسب الحقيقي بحق هو تحسن مستوى القراءة لدى الطلاب بشكل ملحوظ .


    شكرا لك أستاذ خشان ودمتم بخير
    التعديل الأخير تم بواسطة يسرى ; 08-14-2007 الساعة 09:45 PM
    (( وبشر الصابرين )) / (( إنّ الله مع الصابرين ))

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    المشاركات
    15,965
    الأخت أم أوس
    الأخت يسرى شكرا لمتابعتكما.
    ----------



    http://www.al-jazirah.com.sa/culture...7/fadaat14.htm
    http://www.al-jazirah.com.sa/culture...092007/T07.pdf
    مساقات

    خرائبُ اللغة !

    د.عبدالله بن أحمد الفَيفي*

    - 1 -

    عودًا على بدءٍ أشرنا فيه إلى شعورٍ عامّ في الوسط الشعريّ العاميّ بافتقار العاميّة إلى ثراء العربيّة الفُصحى.. يمكن القول: إنّ ذلك يمثّل لدى القائلين به، من أعلام العاميّة، تحوّلاً في المفاهيم، يعاكس ما يتوهّمه بعضٌ، على طريقة كنز الفقراء، حين يردّدون تسلّيًا: «القناعة كنزٌ لا يَفْنَى!» وفي هذا الصدد يحضرني ما أدلى به (تودوروف) في سياقٍ شبيه، وقد سُئل هذا السؤال:

    س) "على الرُّغم من أن اللغة الفرنسيّة ليست لغتك الأُمّ إلا أنّك تُقرّ أنّها لغة الثقافة، ولأجل أن تنتعش هذه الثقافة (ينبغي أن نَقْبَل بأن تتغير).. فهل ترى أن كتابة الشباب الفرنسيّ من أصولٍ مهاجرةٍ تندرج في هذا الصدد؟"

    ج) "لا أقول: إنّ اللغة الفرنسيّة هي لغة الثقافة؛ لأنّ كلّ اللغات صالحة لتكون لغة ثقافة. هذا أوّلاً. أمّا ثانيًا، فمن البدهيّ أنّ اللغات تتغيّر، وإلاّ تحوّلت إلى لُغاتٍ ميّتة، والدليل على ذلك أنّنا لا نتكلّم الآن مثلما كُنّا نتكلّم في القرن السابع عشر. والكثير من كُتّاب بدايات القرن اهتمّوا بظاهرة التحوّلات التي تخضع لها اللغة، كما حاولوا التقاط اللغة المنطوقة المختلفة عن اللغة الكلاسيكيّة المكتوبة: بوريس فيون، سيلين، كونو، رومان غاري. التحوّلات تبدو أحيانًا وكأنّها عنيفة، لكنّها تَبْقَى ضروريّة، ومُثْرِيَة، ويجب أنْ نَقْبَلها. لكنّي- مع ذلك- لا أعتقد أنّ لغة الشارع تُعَدّ خطوة كُبرَى في إثراء اللغة الكلاسيكيّة، أو لُغة شباب الضواحي الباريسيّة، مثلاً، أولئك الذين يعانون من الإقصاء ومن الفشل المدرسيّ، ويُتقنون مفردات محدودة من 500 كلمة لا أكثر، وأجد الأمر فظيعًا. الإنسان حين لا يكون في متناوله سِجِلٌّ لفظيٌّ ثريٌّ بما فيه الكفاية، يعوّضه بالعُنف. فنحن حين نعجز عن التعبير يُمكن أن نلجأ إلى اللكمات... ولذلك أنا مع اللغة في ثرائها المتواصل وليس في تفقيرها." (المنتدى الثقافي، صحيفة "الشرق الأوسط"، ع 10389، الأربعاء 9/ 5/ 2007، ص4).

    نعم، إنّ كل لغة بوسعها أن تكون لغة ثقافة وأدب، فليست تلك هي القضيّة، بل القضيّة ما تلك الثقافة؟ وما ذاك الأدب؟ وما آثار ذلك على هُويّة الأمّة، ووحدتها، ولُغتها الجامعة؟ والتحوّلات التي يتحدّث عنها تودوروف في اللغة الفرنسيّة لا تُقارن- بطبيعة الحال- بذلك الشرخ الموغل في تعمّقه بين فُصحى العربيّة وعاميّاتها، ومع ذلك فهو يتحفّظ على دعوَى إثراء العاميّة للّغة القوميّة الفرنسيّة الكلاسيكيّة.

    على أن تلك المعادلة المتمثّلة في: "إثراء اللغة المتواصل لا تفقيرها" هي ما نحتاجه في العربيّة وأراه ضروريًّا وأدعو إليه، أي: إمداد الفُصحى بما يَصْلُح من العاميّة، لينضمّ إلى نسغها الأصيل، معجمًا وتعبيرًا، بحيث تظلّ وحدة النخلة العربيّة متواصلة التنامي، لا تيبس، ولا تنحرف إلى أثلةٍ ضئيلة هجينة. وذلك مشروع عظيم، قارَبَهُ قِلَّةٌ من الشعراء عبر التاريخ. أمّا المتقوقعون، أو مستسهلو السَّلْوَى الشخصيّة بالشعر، فلا شأن لهم بوظيفة الأدب اللغويّة.

    -2-

    على أن الخصائص الشعريّة ليست كامنة في البلاغة وحدها دون النحو، كما ألمحَ الشاعر العاميّ فهد عافت، حسب مقابلة معه في (جريدة "الحياة"،ع 16045)، سبقت إشارتنا إليها في مساق ماض، إذ قال: "تظل الأهمية الشعريّة في البلاغة لا النحو، فمن يملك البلاغة قادر على استخدامها". بل إن البنية البلاغيّة لا تنفصل عن البنية النحويّة في أي لغة، إلاّ إنْ قَصُر النظرُ عن وظيفة النحو، فخُيّل إلينا أنّ النحو مجرد رفعٍ ونصبٍ وجرّ، بشكلٍ عبثيّ، لا قيمة له ولا معنى، ولا يُقدّم على المستوى الدلاليّ، والإيقاعيّ، والذهنيّ، ولا يُؤخّر. و(عبد القاهر الجرجاني، -471 أو 474هـ= 1078 أو 1081م)(1)- حسب نظريته في النَّظْم- يُرجع عمليّة النَّظْمَ إلى عِلْم النحو، حينما يقول: "اعلم أنْ ليس النَّظْم إلا أنْ تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه عِلْم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نُهجتْ، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رُسمت لك، فلا تُخِلّ بشيءٍ منها." ومن ثَمَّ فلقد أرجع عبد القاهر مفهوم الأَثَرَ (The Trace) الجماليّ الانفعاليّ- الذي هو أساس وجود النص، والناشئ عن الاختلاف- وما يولّده من ردّة في نفس المتلقّي ومخيّلته، إلى توخّي تلك المعاني النحويّة العربيّة، وإلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تحدث فيها، والتي لا نهاية لتوالدها. وهو ما يتّفق معه فيه (جاك دريدا) فيما يسميه (عِلْم النحويّة Grammatology)، الذي يحلّ في القراءة لديه محلّ السِّيْمَوِيَّة السُّوسِيْرِيّة، التي تبدو تناقض نفسها: بين قولها باعتباطيّة الإشارة اللغويّة من جهة وتمييزها الإشارة الصوتيّة (اللغة الطبيعيّة) على الإشارة الكتابيّة (اللغة الصناعيّة) من جهة أخرى؛ وما ذلك إلا لأنها سليلة تاريخٍ من خطاب التمركز الصوتيّ المنطقيّ، الذي يربط دائمًا بين (الحقيقة/ المعنى) و(الصوت/ المؤلِّف). ولي في هذا بحث قُدّم إلى مؤتمر ‏جَرَش للنقد الأدبي، جامعة جَرَش، الأردن، 2000م، ثم نُشر في (مجلة "جذور"، عدد 4، مجلد 2، ‏سبتمبر 2000، النادي الأدبي الثقافي بجدة)، بعنوان "الإشـارة- البنيـة- الأثـر (قراءة في "دلائل الإعجاز" في ضوء النقد الحديث)"، فيه تفصيل لا مجال له هاهنا.

    ثُم لنسأل: هل الهمّ الشعريّ وحده هو الغاية القصوى التي تحدو شعراء العاميّة، أم أن الشاعر (المنتمي) إلى أُمّته، في عمقها وسموّها، يتطلّع إلى ما هو أبعد؟ هل الهمّ يكمن في الشعر دون اللغة، في أبعادها الكلّيّة؟!

    ثم هل العاميّة لُغة؟

    يبدو هذا السؤال الأخير غريبًا، ومستفزًّا، لكن إجابته جاهزة في الجُعبة، ولاسيما أنْ قد بِتْنا نَسْمَع من يُدِلّ بلغته العربيّة، وهو لا يعني سوى مشوّهته العاميّة!

    إن اللغة في مفهومها العامّ تشمل صنوفًا لا نهائيّة من السِّيْمَوِيّات، بما في ذلك لغة الصمّ والبكم، ولغة الإشارات. لكن هذا ليس ما نعنيه بسؤال اللغة. وإنما نسأل عن اللغة في وجودها التاريخيّ، ورصيدها الحضاريّ، وهويّتها الإنسانيّة، التي تميّز أُمّةً وتمنحها اسمها. وعند هذه المحكّات فالعاميّات لهجات، أو "لُغيّات"- كما سمّاها علماؤنا القُدامى- لا لُغات. من حيث هي نتوءات مَرَضيّة ودمامل في جسد اللغة الأصل، نَجَمَت عن ظلاميّة العصور، وفُرقة المجتمع اللغويّ، وعُزلة أطرافه، واغترابها، وجهلها، وتأثّر أبنائها بغيرهم من أبناء اللغات الأخرى، وتسلّط غير العَرَب على العَرَب، ليأتي من الخَلَف من يُحاول تحويل تلك الإفرازات إلى أجساد مستقلّة في أحسن تقويم، بل ليؤسّس لعملقتها، كأنما قد باتت الجسد لا الدمامل! كما يأتي من لا يُفرّق بين فائدة تلك اللهجات في دراسة مرحلة تاريخيّة عابرة غابرة، وفي بحث ظروف بيئيّة معيّنة، أو استقراء تطوّرٍ لغويّ ما، وبين تكريسها لغة منافسة أو بديلة، لها شِعْرها، ونثرها، وإعلامها، وأعلامها، ومحافلها، وأكاديمياتها، وأكاديميّوها، ومهاجروها وأنصارها. فتراه يحتجّ بأن العاميّة ثروة، ويا لويله مَن ينتقص الثروة أو يُشكّك في مصادرها! ومفهوم "الثروة" هاهنا لا يعدو كونها ماضيًا، متشعّبًا، فوضويًّا، ورُكامًا من خرائب لغةٍ ورثناها، وعلينا حملها على ظهورنا وظهور الإبل مهما كلّف المسير! مع أن منطق الحضارة، إن كان في العاميّات من ثروة، أن يُجعل موقعها في متحف التاريخ والآثار، مادةً للدارسين، فقيمتها في ما عدا البحث التاريخيّ أو اللغويّ المتخصّص لا تُذكر. وهل رأينا مهتمًّا بالآثار والمأثورات يرى أن نلبس مقتنيات الماضي الرثّة من الثياب بدل ثيابنا، ونسكن في خرائبه بدل مساكننا، بحُجّة أنها تراثٌ ثمين؟ ذلك ما يراه بعض أنصار العاميّات، ومهما تطوّر بنا الزمان، وتغيّر المجتمع، وانتقل الإنسان من بيئاته الأولى التي فرضتْ اللهجات والعادات فرضًا لا خيار للناس فيه، وكأنّ ما تمخّضت عنه عصور الانحطاط الثقافيّ قَدَرٌ مقدور، لا فكاك لنا منه، ما دام فينا من يستحييه، ويزيّنه، ويدعمه، ويفرضه على الأجيال.

    ( للحديث بقيّة ).

    ـــــــــــــ

    (1) (1984م)، دلائل الإعجاز، قرأه وعلّق عليه: أبو فهر محمود محمد شاكر (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 81.

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    May 2005
    المشاركات
    133
    ننتظر معك تتمة المقال استاذنا الراقي

    دمتَ بخير
    (( وبشر الصابرين )) / (( إنّ الله مع الصابرين ))

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    المشاركات
    15,965
    الأخت الكريمة الأستاذة يسرى

    كل عام وأنت بخير

    الدكتور عبد الله الفيفي مسلم عربي بار بعروبته وإسلامه ولا أظنهما ينفصمان، وأنى ذلك والقرآن عربي وبه تنزهت العروبة عن دعاوى الجنس والعنصر وصارت وعاء للإسلام، فما أخلص مخلص لدين الإسلام إلا وحلت العربية في قلبه، ولا أحب العرب محب إلا وأجل الإسلام مسلما كان أو إسلاميا ككثير من بني أمتنا من المسيحيين.
    تحية بالمناسبة للدكتور الكريم. وها أنا أتشرف بنشر ما يصلني من مقالاته فور وصولها.


    مساقات

    د. عبدالله بن أحمد الفيفي


    http://www.al-jazirah.com.sa/culture...7/fadaat19.htm


    http://www.al-jazirah.com.sa/culture...092007/T08.pdf

    والذين يرون أن الكتابة حول قضايا اللغة والفكر ضربٌ من الترف، وأن الأجدى أن نكتب عن قضايا أكثر حيويَّة، تمسُّ حياة الناس، كارتفاع أسعار الرُّزّ مثلاً، بدل انشغالنا بالكتابة حول العاميَّة والفصحى، أولئك الذين يردِّدون بحقّ أو بباطل شعار: أين هموم المواطن العربي اليوميّة مما تكتبون؟ قد لا يدركون أن الحديث في اللغة ليس ترفًا، بل فيه أُمُّ معاركنا المعاصرة؛ فكل إشكاليَّاتنا الحضاريَّة ومشكلاتنا التنمويَّة منظومة واحدة، تنبثق من الحرف واللغة وتصبُّ فيهما، بشكلٍ أو بآخر، فالإنسان هو لغته، فكراً وتربية وإنتاجاً وتنمية، ومواجهة مع الذات والآخر.

    لا هويَّة، ولا وحدة، ولا تقدَّم، ولا حتى فهماً قوميّاً أو تفاهماً أُمميّاً، في ظلّ بلابل لغويّة تُفسد العقول فيفسُد الواقع والمجتمع، ليس على مستوى اللغة في ذاتها فحسب، ولكن على مستوى ما تحمله اللغة من معطيات قيميّة وفكريّة كذلك.

    ولقد كتبتُ منذ قرابة عشر سنوات أو تزيد، في صحيفة (المسائية) أوّلاً- عبر زاوية (شفق)، بملحق (إبداع)- ثم في صحيفة (الجزيرة)، في ملحقها ومجلّتها الثقافيّة، سلسلة من المقالات حول هموم العربيّة ومصادر ضعفها وهوانها، تحت عناوين مختلفة تعالج شتّى قضايا اللغة، مثل:

    (دعوة إلى تجديد الخطّ العربي)، (مصادر الضعف اللغوي: هوان العربيّة على العرب)، (مصادر الضعف اللغوي: عصور الانحطاط)، (تاريخ الجزيرة العربيّة مع العاميّة)، (العاميّات ومصاحف صِفّين)، (جَدِّي الشاعر العاميّ.. وأنا)، (عاميّة البيت والمدرسة)، (تعليم أولادنا بالعاميّات)، (النُّفرة من الفصحى)، (عُقدة مدرِّس اللغة العربيّة)، (مصادر الضعف اللغوي: وسائل الإعلام)، (مصادر الضعف اللغوي: الازدواج اللغوي)، (حالات الازدواج في اللغة)، (تعليمنا.. والحَول الإملائي)، (وحدة الوطن= وحدة اللغة)، (مجمع اللغة العربية السعودي)، (العاميّ والفصيح)، (التفصيح.. والتعميم)، (لغة الفنّ والإعلام)، (الغناء واللغة)، (في الثقافة غير الرسميّة)، (الأطفال يفضّلونها فصحى، أيّها الكبار)، (الحميّة اللَّهجيّة)، (نحو معجم تاريخيّ للغة)، (الأنباط والشعر الشعوبيّ)، ممّا لعلّي أجمعه مستقبلاً في كتاب، إن وُجد الناشر.

    وبعد عِقد من السنوات والكتابة يحقُّ لي أن أحتفل بالخيبة المؤزَّرة، فإذا صحَّ أن (لا يأس مع حياة)، فالأصح أن (لا حياة لمن تنادي)، الحال هي الحال، والعرب ما يزالون هم العرب، بل إن الواقع إلى تردّ مطّرد.

    ولقد باتت الإشكالية الآن، كما أوضحتها في مساقات سابقة، غير قاصرة على الجانب اللغويّ، على خطورته، وما ينبغي لها أن تبقى كذلك، بل هي اليوم ثقافيّة، لما تنطوي عليه من ترسيخ قِيَم البداوة، واستحياء مظاهر التخلّف وتنميتها، وتمجيدها، في مقابل ازدراء قِيَم الحضارة، أو تهميشها وتسفيهها، مع التشكيك فيها، ورميها بكل الموبقات، حيث لا شِيَم هناك، ولا عادات كريمة، ولا تقاليد اجتماعيّة سامية؛ لا كَرَم، ولا شجاعة، ولا نُبل، ولا أصالة مَحتد، فهذه كلها - كما يحلو لنظرتنا السائدة - حكرٌ على بيئة البوادي أو المجتمعات المنغلقة.

    فيما الحواضر- القريبة فضلاً عن البعيدة- وحسب مخيالنا البالي، مرتعٌ للفساد والإفساد! ويأتي ترسيخ تلك القِيَم العمياء والمفاهيم المضلّلة من خلال اللغة والآداب الشعبيّة، وباسم المحافظة، والأصالة، والعراقة، وشِيَم العرب، وتراثهم الشعبي أو الوطني.

    حيث باتت مفاهيم (التراث)، و(الشعب)، و(الوطن)، تُختزل في تلك البقايا الباهتة من موروثات قَبَليَّة وإقليميَّة، تعود إلى عصور التخلُّف من تاريخ الأُمّة العربيَّة والإسلاميَّة.

    هذا ناهيك عمَّا لا تخلو الحمولة منه من بعث نعراتٍ اجتماعيَّة، لها رصيدها الوافر من ذاكرة التنافر وثارات الأمس غير المأسوف عليه.

    وما أنا حول هذه القضايا إلا واحد ممّن تضيع صرخاتهم في وادي العروبة.

    لعلي أذكر من جملتهم على سبيل الشاهد ما كتبه الأستاذ الدكتور عبدالسلام المسدي قبل سنين قائلاً، ربما في صحيفة (الرياض):

    إن هناك تمويلات ضخمة لتشجيع اللهجات المختلفة، وإحياء المندثر منها، واللعب على وتر الخصوصيَّات، كتكتيكٍ مرحليّ للقضاء على اللغة الأمّ أولاً، ثم تعميم اللغة الكونيّة الأقوى ثانياً. لقد مثّلت اللغات الأجنبية في السابق عدوَّاً أيديولوجيًاً، أمَّا اليوم فقد أصبحت اللهجاتُ المحليَّة هي العدوُّ الموضوعيُّ.

    وأزعم أن اللغة العربيّة، كحامل للهويّة وضامنة لها، ما يتهدّدها هو صمت المثقّف على زحف اللهجات الذي يغزو الإبداع الثقافي.

    المثقف العربي اليوم بكل أسف ومرارة يتحوَّل إلى متواطئ على اللغة، بقصدٍ وبدون قصد؛ وهو بالتالي متواطئ على الثقافة والهويَّة الثقافيَّة ومتواطئ على ذاته، ويبدأ بنفسه أوَّل مشهدٍ على تراجيديّةٍ انتحاريّة! لقد سكتنا كمثقَّفين على تلهيج الإعلام، فإيَّانا أن نسكت على تلهيج الثقافة، كي لا نرى في ذلك نهايتنا المحتومة. وتحت ستار الحداثة أصبحنا نقرأ قصّة عن النوبة بلهجتها، ومقالاً باللهجة العاميّة المبتذلة الخالية من الجمال.

    زَحْف اللهجات هذا يهدِّد اللغة الأمَّ في مقتل. وبدلاً من معالجة الأُمّيّة استسلمنا إلى ما يُرضي العامَّة. ولا أكتمكم أن المثقّف العربي قد يعرف لغة أجنبيَّة ويُتقنها كأهلها، ولا يعرف لغته العربيَّة بالقدر نفسه. وهذا هو المطلوب تماماً في ظلِّ الكونيَّة الثقافيّة المزعومة: أن نتحدث لغة واحدة، وننتمي إلى ثقافة واحدة، هي ثقافة الأقوى بالتأكيد.

    ومع حلكة الليل يظل بصيص الفجر أقوى. ها هي مثلاً رسالة قارئ لا أعرفه، بعث إليَّ فيها تحية، يقول:

    (تحية مودة ومحبة لك... لقد تابعتُ ما كتبته بين الشعر العامي والفصيح، وكان آخرها يوم الاثنين الماضي في الملحق الثقافي للجزيرة - الاثنين 7 شعبان الماضي.. أحييك كثيراً على شجاعتك وقراءتك العلمية الرصينة لما يحدث في هذا المجال.. وأفيدك بأن أثر برامج (العاميّة) وما تبعها من سلوك اجتماعي خليجي والكتابات المتوالية في هذا المجال منك ومن غيرك كان لها أثر (هام) في عقول الكثيرين وبعضهم قريبون منّي بحكم مجال عملي وعلى الأخص كتاب وشعراء النبط الذين بدؤوا يدركون في الأساس ضعف اللهجة العامّة وقصر أدواتها في التعبير الشعري أو الأدبي الكبير كما هو حال الفصحى..... أعتقد يا أستاذي العزيز أن تفاؤلك مبرر بحضور حتمي للفصحى في المشهد الاجتماعي للجيل القادم على الأقل.. حتى وإن كانت المسألة معقدة بعض الشيء كونها مبنية على تأثير الكثير من العناصر الأخرى غير الشعر حيث تكون مصلحة في استمرار الجهل وإعادة إنتاجه عبر تشجيع ثقافة الصحراء والقبيلة والطائفة... إلخ. ولو ألقيت نظرة على تلفزيون (...) مثلاً لوجدت حتى لوحات المتابعة للبرامج تكتب بالعاميَّة، ومن قبل ترجم التلفزيونُ ذاتُه أفلامَ الكرتون بالعاميَّة (الخليجية) وتم عرضها.. ولا أدري ما هو الجميل في تلك اللهجة حتى تربي الأطفال عليها..؟!

    تحياتي يا دكتور لك مرة أخرى.. وأؤكد لك أن هناك الكثيرين من المهتمين والمهتمات والمتابعين بحرص.

    عبد العزيز).

    هذا صوت نموذج من نماذج على أن الرؤية واضحة لولا العواطف الغلاَّبة. فمن الصعب تجرُّد صاحب الهوى، ومن العسير على المتورِّط في مجال العاميَّة إلاَّ الدفاع عنها بكل ما أوتي من حيلة؛ لأن في ذلك دفاعاً عن نفسه، وإن رأى الحقَّ أبلج. أمَّا صاحب الفِكر والأيديولوجيا فقضيَّته واضحة، ولا يجدي معه حوارٌ أو جدال أو حِجاج.

    وحقّاً ما ذَكَره القارئ عبدالعزيز، فقد اتسع الخرق على الراقع، ومنذ حرب الخليج الثانية، والمرء يلحظ انحداراً متوالياً، وتداعيات شتّى في الوطن العربي، لا على المستوى السياسي فحسب وإنما أيضاً، وتبعاً لذلك، على صعيد الثقافة والإعلام والتربية والتعليم.

    وفي المساق الآتي تفصيل.

    لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

    - الرياض aalfaify@hotmail.com

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    المشاركات
    15,965

    جرش اللغة

    http://www.al-jazirah.com.sa/culture/24092007/fadaat15.htm

    مساقات
    جَرْشُ اللغة!
    د.عبدالله بن أحمد الفَيفي


    عرضتُ في المساق السابق ما أشار إليه القارئ عبد العزيز في رسالته إليّ من تردّي حالنا اللغويّة والثقافيّة، وتفشّي العاميّة والدفاع عنها عبر التقنيات الحديثة بشكلٍ لم يسبق له مثيل. وليس بخافٍ - في هذا الإطار - أن كثيراً من إعلاميينا، ومعلّمي مدارسنا، بل بعض أساتذة جامعاتنا، وفي مجال اللغة العربية نفسها، هم شعراء شعبيّون أو شعراء نبط بالأصالة، منغمسون في الحركة العاميّة، منافحون عنها، منظّرون لأدبها، مساهمون في مشروعها التاريخيّ الواسع، بولاء راسخ غالباً، فطرةً، واكتساباً، أو مداهنة، وتسليماً للضغوط الاجتماعية، التي يصعب أن تُنتزع من النفوس أو تُنازَع!

    وكما أشار القارئ الكريم فقد استبدل إعلامنا في السنوات الأخيرة ببرامج الأطفال التي كانت تستعمل اللغة الفصحى، كبرنامج «افتح يا سمسم»، مثلاً، برامج سمجة المحتوى واللغة، تُقدّم للأطفال باللهجات العاميّة، المصريّة، أو الكويتيّة، أو السعوديّة، أو اللبنانيّة. هذا فضلاً عن شبكة من (اللهوجة) اللغويّة عبر الفضاء و(الإنترنت)، حتى إن المتابع لبعض المواقع الخليجيّة على (الإنترنت) ليشعر اليوم بالقطيعة اللغويّة مع بعض ما يُكتب فيها، فهو وإن بدا بحروف عربيّة إلا أنه في خليط لغويّ عجيب، لا تدري أهو هنديّ أم فارسيّ أم بلهجة خليجيّة مختلطة عربيّتها بعُجمتها؟!

    كما أن الأذهان العربيّة - في مثال آخر - قد تفتّقت مؤخراً عن ترجمة بعض الأفلام والمسلسلات الأجنبيّة و(دبلجتها) بالعاميّات أيضاً، بعد أن كان ذلك يتمّ بالعربيّة الفصحى في القرن الماضي! ذلك وهذا.. كأنما لكي يُغلق على الذاكرة العربيّة أي منفذٍ يمكن أن تتنفّس فيه الفصحى، بكلّ ما تعنيه الفصحى من عروبة وحضارة وإسلام! بل لقد أشرنا في مساق سابق إلى أن أمواج الإعصار قد شملت كذلك بهِباتها الدّعاةَ الدينيّين، الذين بات بعضهم يتبنّى العاميّة في خُطَبه ومواعظه عبر التلفزة أو شبكات الاتصال الحديثة، ولم يبق إذن من خطوةٍ رياديّة أمامهم إلا أن يُترجموا آيات القرآن الكريم للعامّة بلهجاتهم المحليّة؛ لأن القرآن أولى بالفهم، والجمهور لم يعد يحسن لغة الضاد ولا يطيقها ولا يستسيغها، وكفى الله المؤمنين النحو والصرف والبلاغة!

    وهذه التنازلات، والتدانيات، والتبذّلات، والإسفافات العامّة المتعاقبة - حتى ممّن يعدّون في زمرة المثقّفين، وبهدف استرضاء العوامّ، واكتساب ودّهم - لم يعد لها اليوم حدّ ولا ردّ. وقد أضحى دور المثقف، بدل أن يكون الرائد في أهله، لرفع وعي الجماهير، والسموّ بذائقتهم عن واقعها البدائي البسيط، أن يمدّ صفحة عنقه لتمتطيه الجماهير، ويهبط بذوقه إلى حضيض الدهماء، إنْ كان له من ذوق يرتفع شيئاً عن أذواقهم أصلاً.. ثم لا يبعد أن يَحتبي بعدئذٍ كي يُنظّر لروائع واقعٍ متخلّف، ويحلّل جمالياته الخارقة، باسم التراث والمأثور وفرائد (الفلكلور)!

    إن العربيّة الفصحى نفسها قد مرّت بمراحل تطوّر عبر عصورها، وما زالت، ويجب أن تستمرّ، فلغةٌ لا تتطور تَضْمُر، فتَجْمُد، فتموت. غير أن التطوّر الصحيّ معنى غير التغيّر المرضيّ، أو الانحراف عن جهل، أو التخلخل المعزول عن البنية الأصليّة، التي تمثّل نسغ الارتباط الحيويّ بالماضي والحاضر والمستقبل في أي لُغة إنسانيّة حيّة. أمّا العاميّة فشذوذ، نجم لأسباب تاريخيّة معروفة، لا هي ذات أصل مستقل عن الفُصحى، ولا هي قابلة للتطوّر الذاتي، اللهم باتجاه العودة إلى الفُصحى، أو الاستمرار في تيهها الطويل وتشظّيها المطّرد، الذي لا يُهدّد الفُصحى فحسب، ولكن يُهدّد العاميّات أيضاً، وبخاصة أدبها الضائع بلا هويّة ولا انتماء، مقطوعاً من شجرة العربيّة، لا إليها ولا إلى غيرها، وتلك خسارة لأدبٍ لا يخلو - من الناحية الفنيّة - من جمال.

    أمّا البلاغيّة في حدّ ذاتها، معزولة عن قواعد اللغة، فهي موجودة في كل لغة، حتى في لغة النحل والطير، فيها أشياء من جمال وبلاغة على نحو من الأنحاء، ولكل لغة نحو! كما أن الشعريّة قائمة بخصائصها في كل اللغات البشريّة، لغة الهنود الحمر، ولغة التبت، والواق واق! أفتلك حُجج يدلي بها المُدْلُون من المشغوفين بذلك الشعر، والمحسوبين عليه، والمسوّغين لانتشار لغته، حين لا يملكون أنفسهم ولا حريّة التجرّد من العاطفة في الحُكْم؟!

    ثم إن وظيفة الشعر ليست جمالية صِرف، بل هي كذلك، وقبل ذلك وفي أثنائه وبعده، وظيفة لُغويّة ثقافيّة قوميّة. وقضية الشعريّة الحقّة هي أن يستمدّ الشعر من أصوله امتداداته الأرحب وأَوْجَ ارتقاءاته الأسمى، لغةً وفكراً، وأن يكون حلقة وصلٍ بين التراث والحاضر والقادم. ولذلك فإن من العجز أن لا يهفو شاعرٌ إلى لغةٍ أرقى من لغة الحياة اليوميّة المبتذلة، ولا يطمح إلى أن يصل بكلمته عبر المكان والزمان إلى كل من نطق لغته الأُمّ، وأن لا يُسهم في خدمة ثقافته ولغته بشيء، ناهيك عن أن يكون ضالعاً - درى أو لم يدر - في تشتيت شملها، وتمزيق أصلها، وتمييع نظامها، ومزاحمة حضورها الفاعل، تحت أي شعار أو عاطفة أو ضوء.

    ونحن نعلم أن اختلاف اللهجات العربيّة ليس بالجديد، وإنما تركة ثقيلة من انقسام اجتماعيّ وتَعازُل، وهذا ابن حزم الأندلسي (-456هـ= 1063م)، مثلاً، يشير في (الإحكام في أصول الأحكام، ج1: الباب الرابع: في كيفية ظهور اللغات، أعن توقيف أم عن اصطلاح؟) إلى: أن اللغة تبدّلت بتبدّل مساكن أهلها، فحَدَث فيها جَرْش، كالذي يحدث من الأندلسي إذا رام نغمة أهل القيروان، ومن القيروانيّ إذا رام نغمة الأندلسيّ، ومن الخراسانيّ إذا رام نغمتها. ونحن نجد من سَمِعَ لغة أهل فحص البلوط، وهي على ليلةٍ واحدة من قرطبة، كاد أن يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة. وهكذا في كثير من البلاد، فإنه بمجاورة أهل البلدة بأُمّة أخرى تتبدّل لغتها تبديلاً لا يخفَى على من تأمّله. ونحن نجد العامّة قد بدّلت الألفاظ في اللغة العربيّة تبديلاً، وهو في البُعد عن أصل تلك الكلمة كلغةٍ أخرى، ولا فَرْق، فنجدهم يقولون في العنب: (العينب)، وفي السوط: (أسطوط)، وفي ثلاثة دنانير: (ثلثدا). وإذا تعرّب البربريّ، فأراد أن يقول الشجرة، قال: (السجرة)، وإذا تعرّب الجليقي، أبدل من العين والحاء هاء، فيقول: (مهمّداً)، إذا أراد أن يقول: (محمّدا)، ومثل هذا كثير. فمن تدبّر العربيّة والعبرانيّة والسريانيّة أيقن أن اختلافها إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان، واختلاف البلدان ومجاورة الأمم، وأنها لغة واحدة في الأصل.

    وعليه، فاللهجة قد تتمخّض عن لغة انفصاليّة مفارقة، واختلافها عن الأصل الجامع إنما هو من نحو ما ذكر ابن حزم من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان، واختلاف البلدان ومجاورة الأمم. والمنطوق يختلف بين الناس في كل زمان ومكان، واللكنات واللهجات لا سبيل إلى التغلّب عليها في أي لغة، إلا أنه من المهمّ إدراك أنه حين يتحوّل المنطوق اللهجيّ إلى منصوصٍ مكتوب، ولاسيما الشعريّ، وحينما تتصدّر عناصر نخبويّة لتزيينه في أذهان الأجيال، فيما يوشك أن يكون دعوة إليه، وحين نأخذ في التأصيل لوجوده، والتأريخ لأطواره، والتنظير لفنّياته والتقعيد لبنياته، حينئذٍ يبدأ التأسيس للغة انفصاليّة، اعترفنا أم لم نعترف، ويطلّ الخطر الداهم على اللغة الأُمّ، التي تمثّل عامل توحيدٍ لغويّ وثقافيّ بين أبناء أي شعبٍ من الشعوب.

    وبالنظر إلى واقع العربيّة غير المشرّف، لا دهشة إذن أن تُعلن منظمة اليونسكو اليوم نتيجة متوقّعة، مفادها: أن اللغة العربيّة ستنقرض بنهاية هذا القرن، ولن تعود لغة عالميّة، متراجعةً إلى مثواها - الذي نرجو (وما يغني عن الموت الرجاء!) أن لا يكون المثوى الأخير! - ذلك بعد أن عادت إليها بعض أنفاس الحياة في غرفة الإنعاش التي أُقيمت لها على عَجَل خلال القرن العشرين!

    لماذا؟ لأن العرب أُمّة كثيراً ما لا تكون لما يقولون أو يفعلون مصداقيّة؛ فهم شعراء بامتياز، يقولون ما لا يفعلون، وكلام ليلهم يمحوه النهار، وما بنوه بالأمس يهدمونه اليوم، وعلى الصُّعِد كافّة.

    وفي المساق الآتي نعرف: كيف؟

    لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

    * عضو مجلس الشورى aalfaify@yahoo.com

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Sep 2008
    الدولة
    أرض الإسلام
    المشاركات
    3,396
    الموضوع يثير شجوني و يكاد يصيبني بالكآبة ، إذ أجد نفسي أحيانا عاجزة عن مواجهة الهجمة الموجّهة إلى لغتنا الحبيبة ، و بخاصّة حين أرى أهلها هم أنفسهم من يقوم بضربها من حيث لا يعلمون

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    84
    موضوع قيم جدا جدا يستحق الرفع والتثبيت
    وهو وإن كان يثير الشجون يا أستاذتي الحبيبة زينب هداية إلا أنه لابد أن يوقظ أيضا الهمم ويشعر كل فرد بمسؤوليته تجاه هذا الأمر
    كلنا مسؤولون ومامنا من أحد إلا وعليه واجب تجاه لغتنا العربية الجميلة ...لغة القرآن الكريم .....
    تقديري للغالية زينب هداية
    ولأستاذي الفاضل خشان خشان

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Sep 2008
    الدولة
    أرض الإسلام
    المشاركات
    3,396
    هو ذاك ، أختي الغالية ندى ، علينا أن نرفع أصواتنا بالحقّ و لا نخاف في الله لومة لائم

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
الاتصال بنا
يمكن الاتصال بنا عن طريق الوسائل المكتوبة بالاسفل
Email : email
SMS : 0000000
جميع ما ينشر فى المنتدى لا يعبر بالضرورة عن رأى القائمين عليه وانما يعبر عن وجهة نظر كاتبه فقط