النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: عروس الشعر العصية

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Mar 2004
    المشاركات
    228

    عروس الشعر العصية

    فن الشعر العربي وحيد في لغات العالم
    عباس محمود العقاد

    http://www.hindawi.org/blogs/1753194...7%D9%84%D9%85/

    من المقرر في تاريخ الأدبين العربي والفارسي أن اللغة العربية انفردت بفنِّ العَروض، وأنَّ بعض أوزان الشعر في اللغة الفارسية مستعارٌ من أعاريض العرب، ويغلب أن تكون الاستعارة من قبائل العرب التي اتصل بها أناس من رواد الشعر الموزون بين شعراء الفرس الأقدمين.
    وقد كان الجاحظ يقرر هذه الحقيقة على علم بوجوه المقارنة فيها، وقد ألمعنا إلى قوله في هذه المسألة وعقَّبنا عليه في أحد الفصول من كتاب اللغة الشاعرة.
    والأديب الفارسي «محمد عوفي» يعرض لهذه المسألة كما عرض لها الجاحظ، ويرى أن «بهرام جور» كان رائد الشعر الموزون بين شعراء الفرس الأقدمين؛ لأنه عاش بين العرب وتأدَّب بآدابهم، كما هو مشهور.
    ولقد مضى الرأي على هذا الاعتقاد إلى السنوات الأخيرة، ولكن المستشرق الفرنسي «بنفنست» Benviniste يستخلص من مطالعته في اللغة البهلوية القديمة رأيًا غير هذا الرأي، ويذهب في قراءته لبعض قصائدها مذهبًا يدعو إلى إعادة النظر في مسألة العلاقة بين الأوزان العربية والفارسية! وإلى مطالعاته هذه يشير الباحث الفاضل الدكتور محمد غنيمي هلال، فيقول في الطبعة الثانية من كتابه عن الأدب المقارن، بعد تمهيد عن أثر العرب في آداب الفرس: «إن الأدب البهلوي أو الإيراني القديم راجت فيه نزعة شعبية يقصد بها إلى شرح وجهتيْ نظر مختلفتين في شكل حوار أو جدل … وقد بقي لنا من الأدب الإيراني القديم حوار أدبي عنوانه «الشجرة الآشورية» وهي النخلة … موضوعه حوار بين النخلة والتيس أيهما أفضل من الآخر؟ وقد وصلت هذه القطعة إلينا مكتوبة على طريقة النثر، ولكن العالم الفرنسي «بنفنست» اكتشف أنها في الأصل ذات وزن وقوافٍ، وأن النساخ كتبوها في صورة النثر جهلًا منهم بالشعر الإيراني القديم، وهذا الوزن قريب من المتقارب المثنوي المعروف في العربية ثم في الفارسية الحديثة بعد الفتح الإسلامي.»
    ونحن لا نحسب — بعد اطِّلاعنا على خبر هذا الكشف الجديد — أن الحقيقة تتغير في أمر انفراد اللغة العربية بالفن العروضي؛ لأن المسألة في أساسها ليست بمسألة وجود الوزن الشعري في آداب اللغات الأخرى، فإن وجود الوزن في أشعار أمم غير الأمة العربية لم يكن قط موضع خلاف بين مؤرخي الآداب الغربيين أو الشرقيين، وإنما يدور البحث في هذه المسألة على حقيقة لا شك فيها كذلك: وهي انفراد الشعر العربي بفن عروضي مستقل عن الغناء، سواءٌ تغنَّى به الناظم أو اكتفى بإنشاده بغير تنغيم أو بغير «موسقة» كما يقال في الاصطلاح الحديث.
    فالأمر المحقق أن هذا الفن العروضي خاص بلغة العرب، لا نظير له في لغة أخرى من اللغات على اختلاف أصولها السامية أو الهندية الجرمانية.
    أما وزن الشعر وتطويعه للغناء، فلا خلاف في عمومه بين كثير من أمم العالم، ولكن الفرق بين الوزن الذي يتوقف على الغناء والوزن الذي يستقلُّ بنظمه على بحوره المختلفة وتفاعيله المتعددة: هو أن الشعر والنثر سواء في قابلية «الموسقة» والإيقاع. وعندنا في اللغة العربية الدارجة أغانٍ منثورة وقعها الملحِّنون، فصارت «أناشيد» تعزف على الآلات بمصاحبة الأصوات أو بغير مصاحبتها.
    ومن أمثلة هذه الأغاني النثرية أغنية بائعات اليانصيب في بعض المسرحيات الفكاهية، ونكتفي منها بهذه الكلمات:
    «خدلك نمرتين وإن كسبت ابق تعالى فسحنا.» ومثلها أكثر الأغاني في المسرحيات الفكاهية؛ فإنها تتوقف على الموسيقى لتحسب من الكلام المنظوم، تبعًا لنظم الغناء.
    أما الشعر الذي يقال عنه إنه موزون في اللغات الأجنبية، فليس له فن من الوزن مقدور بغير مقادير التلحين على اختلاف القاعدة في تقسيم ألحانه؛ فهم تارة يحسبونه بالسطر، وتارة بعدد المقاطع، وتارات أخرى بعدد النبرات أو عدد مواضع الوقوف، وحكمه من الناحية الفنية حكم الكلام المنثور الذي لا فرق بين المرسل منه والموزون في اعتماده على الغناء وتطويعه للألحان الموسيقية.
    وليس بالمتعذر على العارف بفن العروض العربي أن يقطع سطرًا من الشعر الإنجليزي بمقياس التفاعيل في توزيع الحروف الساكنة والمتحركة، دون أن يكون للتفاعيل أساس من بنية الكلمة التي تنتظم في اللغة العربية على قواعد مطردة للأوزان والحروف بالتحريك والتسكين.
    ومن أسباب هذا الفارق — فيما نعتقد — أن الكلمات في اللغات الأجنبية تتألَّف بلصق بعض الحروف ببعض على غير وزن مطَّرِد، ولكنها في اللغة العربية تتألف على قواعد من أوزان معلومة وقوالب مطردة، ويمكن أن تتقابل فيها السواكن والمتحركات بين التفاعيل وبين الألفاظ على نظام مطرد لا يتغير، وليست المدة الزمنية التي يتلى فيها السطر أو المقطع أو النبرة هي محور التقسيم والتنغيم، ولكن المحور الذي يدور عليه كل تقسيم وتنغيم في اللغة العربية هو أوزان الاشتقاق وجريان الكلمات كلها على أوزان متكررة حتى في الجوامد أو الأعلام التي تنقل إلى اللغة العربية، وتصاغ عند النقل بصيغة تشبه أوزان المشتقَّات.
    وشبيه بهذا السبب في هذا الفارق بين أوزان الشعر عندنا وأوزان الشعر عندهم: أن الحركة مقدورة في كلماتنا على حسب درجاتها من الامتداد، فعندنا الحركة التي يمثلها الشكل بالفتحة أو الكسرة أو الضمة أو السكون، وعندنا حركات حروف العلة كالألف والواو والياء، وعندنا حركات حروف العلة الممدودة أو المضاعفة التي تمتد بامتداد حرفين كألف الآمال وياء الإيمان والواو بعد الحرف المهموز في مثل كلمة الموءودة.
    فهذه الأوزان التي تلازم جميع المشتقات والجوامد، وهذه الحركات التي تختلف باختلاف مقاديرها الموسيقية، هي «الخاصة» التي انفرد بها الكلام العربي كله، ووجب أن يكون لها أثرها في استقلال فن الشعر عن فن الغناء، ويعمل على تمكين هذا الاستقلال الفني أن مصاحبة الشعر للغناء في حداء الإبل كانت تجري على وتيرة واحدة باختلاف السرعة أو الأناة في حركة البعير، ولعل هذه الوتيرة هي أساس التلحين في فن العروض وفن الغناء معًا عند شعراء العرب الأقدمين، وبين الإيقاع على وزن مطرد والإيقاع على وزن قابل للتغيير فرق ظاهر هو الفرق بين حركات سير الإبل وحركات الرقص عند الأمم الأخرى؛ فإن الرقص يجري على نغمات تختلف باختلاف حركاته ولا يلتزم قاعدة غير القواعد الموسيقية العامة؛ ولهذا سميت التقسيمات التي تقابل التفاعيل عندنا باسم الأقدام Feet في اللغات الأوروبية، وليس لها ضابط مستقل عن ضوابط الموسيقى. ونعود إلى الكشف الذي اهتدى إليه العالم الفرنسي فنقول: إنه مما يثبت استعارة الوزن الفارسي من الأعاريض العربية ولا ينفيها؛ لأن وجود بعض الشعر الفارسي موزونًا وبعضه الآخر غير موزون أو غير مضبوط بالأعاريض على جملة البحور دليلٌ على وجود أصل للشعر الفارسي مرسل في الكتابة وفي الإنشاد، وليس للشعر العربي أصل سابق للأعاريض من الكلام الموزون بوزن البحور والتفاعيل، فهو في مقام الاستعارة أَوْلَى بالأصالة والتقدم على الشعر الذي عرف فيه المنظوم وغير المنظوم.
    وبين أيدينا — ونحن نكتب هذا المقال — عدد شهر يناير من مجلة «الإنكاونتر» Encounter أو المساجلة والمناوشة في أقرب معنى لها باللغة العربية، وهي مجلة عالمية تنشر للمختصين بموضوعات الأدب والفن أحدثَ البحوث في النقط والتحليل على نمط الدراسات العصرية، ويغلب على بحوثها الاستقلال عن المذاهب والنزعات المتضاربة التي يتحيز لها بعض أصحاب الدعوات المتطرفة، وقد نشرت في هذا العدد الأخير منها فصلًا بعنوان «عروس الشعر العصية» للمستشرق دسموند ستيوارت، يعني بها فن الشعر العربي، ويخلُص من المقال كله إلى تقرير الرأي الغالب على العارفين بهذا الفن من أدباء الغرب: وهو الشهادة له بأنه أدق الفنون وأعصاها على المحاكاة وأحوجها إلى العناية عند النقل والترجمة؛ لأن مزاياه ليست من قبيل المزايا الشائعة في آداب الأمم، وليس له نظير في اللغات السامية نفسها التي تنتسب لها اللغة العربية … وهو يصف اللغة العبرية «بالبربرية» بالقياس إلى لغة الضاد التي وسعت ثقافة عالم واسع من عوالم الحضارة العالية.
    ومما قاله في هذا المبحث الفني العلمي في مقام المقارنة بين فنون الشعر، أن الشاعر اللاتيني الكبير هوراس كان يفخر بأنه استهوى عرائس الشعر اليوناني إلى زيارة وطنه الروماني، وهو يقصد بذلك محاكاة أوزان الشعر الغنائي في لغة اليونان … قال: ولكن ما من أحد يستطيع أن يفخر باستهواء عروس الشعر العربي إلى زيارة الجزر البريطانية، أو يفخر «بنجلزة» تلك العروس العصية، وكل ما يمكن أن يقال إن الشعر العربي قد يمثِّله مزيج من بلاغة الشاعر بوب اللفظية، ومن بلاغة الشاعر شلي العاطفية، ومن نزعة الشاعر لورنس الصريحة، ولكنه وصف لا يغني عن الحقيقة ولا يصلح بديلًا لها لمن لا يعرفها.
    قال: وإن اللغة العربية لغة نقية صافية على نحو لم يتوافر لغيرها من لغات الحضارة، وإنها مع ذلك تستطيع أن تؤدي العبارة التوراتية المقدسة كما تستطيع أن تؤدي عبارات الأدب. واستشهد الكاتب برأي الشاعر المعاصر المشهور «عزرا باوند» الذي يصف الشعر العربي وصفًا «اصطلاحيًّا» بأسلوبه المعروف، ويمكن أن يقابله باللغة العربية أن هذا الشعر جامع بين القدرة التصويرية والقدرة الموسيقية، أو أنه مما يروق البصر والسمع في آن.
    ولم نفهم من قول الكاتب عن عروس الشعر العربي إنها «أعصى عرائس الشعر» إلا أن مرامها صعب على غير أهله، وأن صعوبته إنما يحسها من يحاوله وهو غير مطبوع عليه، وليست فيه صعوبة على قرائه ولا على الموهوبين من ناظميه والمشغوفين بمحاسنه، وهي حقيقة واضحة من سهولة نظم أوزانه على المطبوعين من شعراء اللهجة العامية أو الزجَّالين الأميين والنائحات الأميات. ولا مصلحة للشعر في أن يستبيحه غير المطبوعين من المتعلمين أو غير المتعلمين إذا اقتحمه هؤلاء بإهمال أوزانه التي لا يقدرون عليها، فإن عجزهم عن نظمه شاهد على تجردهم من إلهام المطبوعين الذين يقدرون عليه بغير تعليم، وقد يكون من القادرين عليه من يجهل كلمة العروض ولا يدري معنى التفاعيل.
    وقد انفردت اللغة العربية بهذا الفن المطواع لأهله، العصي على الغرباء عنه، فليس من حقها علينا وليس من حقنا على أنفسنا أن نفقد مزاياها بأيدينا؛ لأنها بلغت تمامها عندنا ولم تبلغ هذا التمام عند غيرنا.
    تغن بالشعر إما كنت قائله ........ إن الغناء لهذا الشعر مضمار

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    المشاركات
    15,952
    أخي وأستاذي الكريم أبا إيهاب

    هذا موضوع مهم بمضمونه وما يثيره من خواطر وتداعيات وتساؤلات
    أتمنى أن يتاح لي من الوقت ما يمكنني من المشاركة حوله بما يليق به
    وأتمنى أن يساهم فيه من يرى أهميته.


    وقد رأيت أن أقرن به الموضوع التالي لما بينهما من تقاطع
    لعل استحضارهما معا يزيد الموضوع ثراء


    ***
    http://www.startimes.com/f.aspx?t=30928270

    تطوَّر موسيقا الشعر العربي

    د.خليل الموسى


    ـ الوزن والشعر:‏

    الوزن ركنٌ من أركان الشعر، والقافية جزء من هذا الركن، وإن كان كثير من النقاد فصل بين الوزن والقافية، وجعلهما ركنين أساسيين لا يقوم الشعر من دونهما، فالشعر عند قدامة بن جعفر: "قول موزون مقفَّى يدلُّ على معنى"(1) ، وهو عند ابن فارس: "كلام موزون مقفَّى دلَّ على معنى ويكون أكثر من بيت... لأنه جائز اتفاق سطر واحد بوزن يشبه وزن الشعر عن غير قصد"(2) ، وهو عند الباقلاني: "الكلام القائم على الأعاريض المحصورة المألوفة"(3) ، و"هو عند ابن خلدون:"الكلام الموزون المقفَّى ومعناهُ الذي تكون أوزانه كلَّها على رويّ واحد وهو القافية"(4) .‏

    الوزن في الشعر صناعة ضرورية، وهي ما يميّزه من النثر عند كثير من النقاد العرب القدماء، وبما أنَّ الشعر صناعة فالوزن والقافية قيدان من قيودها، وعلى الشاعر أن يلتزم بهما لتتمّ هذه الصناعة جماليَّاً، ومن هنا تكون صناعة الشعر أصعب من صناعة النثر، وهي مقيَّدة بقيود لا يلتزم بها الناثر، وهذا ما فسَّره ابن سلاّم الجمحي في قوله: "المنطق على المتكلّم أوسع منه على الشاعر، والشعر يحتاج إلى البناء والعروض والقوافي، والمتكلّم مطلق يتخيّر الكلام".(5) .‏

    إنَّ تحديد الشعر في النقد العربي القديم واضح في أهمية الوزن والقافية، وقد فصل معظم النقاد بين هذين الركنين، وهو عند الحاتمي: "اللفظ والمعنى والوزن والقافية"(6) ، ويبدو هذا الفصل واضحاً في كلام ابن رشيق: "إنَّ الشعر يقوم بعد النيَّة من أربعة أشياء وهي: اللفظ، والوزن، والمعنى، والقافية، فهذا هو حدَّ الشعر"(7) ، إلاَّ أن ابن رشيق يرى في مكان آخر أنَّ القافية جزء من الوزن، فيقول: "الوزن أعظم أركان حدَّ الشعر، وأولاها به خصوصية، وهو مشتمل على القافية وجالب لها ضرورة، إلاَّ أن تختلف القوافي فيكون ذلك عيباً في التقفية لا في الوزن، وقد لا يكون عيباً نحو المخمسات وما شاكلها"(8) ، ثمَّ يفصل بينهما في مكان آخر، فيقول: "القافية شريكة الوزن في الاختصاص بالشعر، ولا يُسَمَّى شعراً حتى يكون له وزن وقافية، وهذا على رأي أنَّ الشعر ما جاوز بيتاً واتفقت أوزانه وقوافيه"(9) .‏

    ولا تقتصر أهمية الوزن في الشعر على الشعر العربي، وإنّما هو صفة من أهمَّ صفات الشعر في العالم، ولم يكتفِ أرسطو بالحديث عن أهمية الوزن في الشعر، وإنما هو حدَّد الوزن الذي يلائم موضوع الشعر أو جنسه، فبعض الأوزان صالحة للرقص وأخرى للدراما، وسواها للملحمة، "والتجربة تدلّنا على أن الوزن البطولي هو أنسب الأوزان للملاحم. ولو أن أمرءاً استخدم في المحاكاة القصصية وزناً آخر أوعدَّة أوزان لبدت نافرة، لأنَّ الوزن البطولي هو الأرزن والأوسع، ولهذا يتلائم مع الكلمات الغريبات والمجازات كلَّ التلاؤم، إذ في هذه المسألة أيضاً تفوقُ المحاكاةُ القصصيةُ غيرها، أما الوزن الإياجي والوزن الرباعي الجاري التروكي) فمليئان بالحركة: فأحدهما أنسب للرقص، والآخر أنسب للفعل، وشرَّ هذا كلَّه أن نمزج بين هذه الأوزان كما فعل خاريمون. ولهذا لم يضع شاعر تأليفاً واسعاً في بحر آخر غير البحر الطويل.... إن الطبيعة نفسها هي التي تهدينا إلى اختيار أنسب الأوزان".(10) .‏

    وإذا كان أرسطو يعيب على الشاعر أن يمزج بين الأوزان في عمل شعري واحد، فهو يتنبَّه كذلك على قضية هامة، وهي أن الوزن وحده لا يصنع شعراً، فللشعر طبيعة مختلفة عن النثر لغةً وموضوعاً ووزناً، فيقول: "والواقع أنَّ من ينظم نظرية في الطبّ أو الطبيعة يُسمَّى عادة شاعراً: ورغم ذلك فلا وجه للمقارنة بين هوميروس وأنباذوقليس إلاَّ في الوزن، ولهذا يخلق بنا أن نسمَّي أحدهما هوميروس) شاعراً، والآخر طبيعيَّاً أولى منه شاعراً"(11) .‏

    ويرى كولردج الشاعر الناقد الفيلسوف الرومانسي أن الشعر ليس انفعالات لا ضابط لها، وإنما هو رؤية أو فلسفة خاصة في الوجود، وذلك ما يتحقّق في كل عمل فنّي في "التوفيق بين الخارجي والباطن، ويسمُ الوعيُ اللاوعي بميسمه فيظهر الوعي في اللاوعي...‏

    والرجل العبقري هو الذي يجمع بين الاثنين ولهذا السبب يجب أن يشارك فيهما معاً"(12) . وبهذا تدخل القصيدة عناصر متباينة، تتداخل وتتشابك وتتصارع، ثم تصل ضمن مسارات إلى بوتقة الانصهار، فتتفاعل مع العناصر الأخرى من لغة وصور وموسيقا في شكل عضوي، والوعي، في العملية الشعري، ضروري في الخيال الأوّليّ المادة والتوهّم)، إذ يقوم الشاعر بعملية الجمع من الواقع اليومي أو من الذاكرة، ولا يخلو الخيال الثانوي أساس الشعري) من الوعي، فهو نتيجة للتأمل الباطني، ومن شروط التأمل الوعي، ويغدو الوعي ملازماً للاّوعي في الخيال، حتى يحدث التوازن والانسجام. ولعلَّ الوزن من أهمّ ملامح الوعي في الشكل العضوي عند كولردج.‏

    يقول كوردج في خلاصة ما وصل إليه بشأن الوزن: "إنَّني أستخلص الغرض من كلَّ الأسباب المذكورة في غير هذا المكان الذي يجعل الوزن هو الشكل الصحيح للشعر، ويجعل الشعر ناقصاً ومعيباً بدون الوزن".(13) ، فالوزن ضروري في الشكل العضوي، وهو"بالنسبة لأيّ غرض من أغراض الشعر يشبه إذا كانت دقّة التشبيه تبرّر وضاعته) الخميرة لا تساوي شيئاً ومسيخة المذاق في ذاتها ولكنَّها تمنح الحيوية والروح للسائل الذي تضاف إليه بالقدر المناسب"(14) .‏

    ويبدو من خلال هذين القولين أنَّ كولردج يؤكّد ضرورة الوزن والشعر، وأنَّ الشعر بلا وزن ناقص ومعيب، والوزن هو روح الشعر ونكهته، وهو الذي يمنح الكلام شعريته، ويُضفي على الموضوع شيئاً غيرَ يسير من الرونق والجمال، ولكنَّ الوزن وحده لا يصنع من الكلام قصيدة، ولذلك يرفض كولردج في مكان آخر أن يكون الوزن أو القافية معياراً يُميزّ بوساطته بين ماهو شعري وماهو نثري، فيقول: "والقصيدة تحتوي على نفس العناصر كذا) التي يحتوي عليها التأليف النثري، ولهذا فالاختلاف بينهما لابدَّ أن يكون اختلافاً في ضمَّ بعضها إلى بعض، نتيجة لاختلاف الهدف المطروح، فاختلاف ضمَّ بعض العناصر إلى بعض يكون على حسب اختلاف الهدف، فمن الممكن أن يكون الهدف هو مجرّّد تيسير تذكّر حقائق أو ملاحظات معيّنة عن طريق الترتيب الصناعي، ويكون التأليف قصيدة لمجرَّد أنَّها تّتميز عن الثناء، بالوزن أو القافية أو بهما مجتمعين. وبهذا المعنى، وهو أحطَّ المعاني، يستطيع إنسان أن يُطلق اسم القصيدة على التعداد للأيام في الشهور المتعدَّدة"(15) .‏

    وواضح من كلام كولردج أنَّ وحدة القصيدة هي المعيار الحقيقي للتمييز بين النثر والشعر، أما الوزن والقافية فهما، وإن كانا عنصرين ضروريين في الشكل العضوي، لا يرتقيان إلى درجة الوحدة، وليسا وحدهما كافيين للتمييز بين النثر والشعر.‏

    ويرفض كولردج أن يكون الوزن مضافاً إلى الشعر من خارجه، فهو ثمرة الخيال، والإحساس بالمتعة الموسيقية نتيجة العبقرية الشاعرة، أما مصدر الوزن فهو العاطفة المشبوبة والإرادة الواعية، وهو جزء لا يتجزأ من تجربة الشاعر، وبتفاعل: "الوزن مع مادة القصيدة يمكن للشاعر أن يحقَّق عملاً فنيَّاً رائعاً، أما الوزن وحده فلا يمكنه أن يحقَّق قيمة غنية في ذاته"(16) .‏

    ويمكن القول: إنَّ الوزن في الشكل العضوي ضروري، وهو يحقِّق عملاً فنيَّاً رائعاً، ويكون خميرة لابدَّ منها لبعث الروح والنكهة في متعة العمل. أما الوزن في الشكل الآلي فلا يمكنه أن يحقِّق أيَّ قيمة فنيَّة، وكان كولردج يعدّ الوزن والموسيقا عنصرين جوهريين لا ينفصلان، عن العناصر الأخرى المكوَّنة للقصيدة، وكان في تحليله للنماذج الشعرية "يوضِّح كيف يؤكِّد الوزن المعنى، وكيف تؤثر العاطفة في الوزن والنغم، بل كيف يعبِّر النغم عن شخصية المتكلِّم. ولم يكن يعتبر كذا)، الوزن قالباً خارجيَّاً جامداً يفرض على التجربة فرضاً، وإنَّما كان يعتقد أنَّ الوزن والتجربة الشعرية بشتَّى عناصرها يولدان معاً في نفس كذا) اللحظة"(17) .‏

    ويبيّن ريتشاردز أنّ للوزن والقافية وظائفَ في بنية القصيدة وفي تفاعلاتها وتلقِّيها، ومن هنا أهميتهما، "والوزن هو الوسيلة التي تمكِّن الكلمات من أن يؤثر بعضها في البعض الآخر على أكبر نطاق ممكن، ففي قراءة الكلام الموزون يزداد تحديد التوقّع زيادة كبرى بحيث إنَّه في بعض الحالات التي تستعمل فيها القافية أيضاً يكاد يصبح التحديد كاملاً. وعلاوة على ذلك فإنَّ وجود فترات زمنية منتظمة يمكننا من تحديد الوقت الذي سيحدث فيه ما نتوقَّع حدوثه"(18) .‏

    ولإليوت رأيٌّ متقدِّمٌ في هذا المجال، فالشعر بحاجة إلى الوزن، وهو لا يقوم من دون الموسيقا، ولكنَّه يربط تطور هذه الموسيقا بتطور اللغة اليومية التي يستخدمها الإنسان في بيئة وزمن محدّدين، ومن هنا فإنَّ هذه الموسيقا غير منفصلة عن دلالات القصيدة التي تتطلّبها، وقد قال إليوت في محاضرة لـه بعنوان "موسيقا الشعر": "لكنَّني أودّ أن أذكَّركم أولاً بأنَّ موسيقا الشعر ليست شيئاً يوجد منفصلاً عن المعنى، وإلاَّ وجدنا شعراً له جمال موسيقي كبير دون أن يكون يعني شيئاً، ولم يحدث لي قطَّ أن اطلعت على شعر من هذا النوع"(19) .‏

    والوزن يقوّي حالات الاهتزاز والانفعال الطبيعي لدى الشاعر والمتلقي معاً، ويكون ذلك ضمن تموّجات صوتية دالة على الحالة الداخلية، وكلما ازداد الانفعال اقترب الحديث العادي من الوزن الشعري، ولذلك لم يكن الوزن شيئاً غريباً عن الحالة الشعرية، وليس هو قيداً، وإنَّما يتوالد الوزن من المعنى، ويتوالد المعنى من الوزن، وهما يتوالدان من الحالة الشعرية، ولذلك لا تجوز الترجمة في الشعر، فهو لا يفقد‏

    موسيقاه فحسب، وإنَّما هو يفقد جزءاً من معناه الكامل"(20) . ومن هنا أيضاً فإنَّ للقصيدة الواحدة معاني متعدَّدة، وتأويلاتٍ كثيرةً قد تصل إلى عدد قرّائها، وقد يكون المعنى الذي اكتشفه القارئ في القصيدة مخالفاً للمعنى الذي أراده الشاعر منها، قد يكون أفضل من ذلك، وهذا يكون بفضل ما توفّره موسيقا الشعر للقارئ الذي يختلف من متلقٍّ إلى آخر، "من هنا تعني القصيدة معاني مختلفة جدَّاً لمختلف القراء، وقد تكون هذه المعاني جميعها مختلفة عن المعنى الذي اعتقد الشاعر أنه يعنيه. فالشاعر ربَّما يكون قد تناول تجربة شخصية غريبة فذَّة، رآها غير مرتبطة بأيّ شيء خارجها، لكنَّ قارئ القصيدة قد يرى فيها وصفاً لحالة عامة، ويرى فيها مع ذلك صدى لتجربة فردية خاصة حدثتْ له هو، والمعنى الذي يرتئيه القارئ ربما لا يقلّ صحة عن المعنى الذي اعتقده الشاعر، بل ربما يكون أفضل، فالقصيدة قد تتضمن أكثر مما انتبه إليه ناظمها انتباهاً واعياً، والشروح المختلفة ليس كلٌّ منها سوى تفسير جزئي يتناول واحداً من حقيقة كلّية متعّددة الجوانب.‏

    "وهكذا ندرك أنَّ الشعر يحاول أن يحمل معاني أكثر مما يستطيع النثر أن يؤدي، وأنَّ موسيقا الشعر هي التي تمكنه من الوصول إلى تلك المعاني"(21) .‏

    وإذا كان أرسطو قد عدَّ الخروج على الوزن البطولي أو استخدام أكثر من وزن في الملحمة عملاً نافراً فإنَّ إليوت يرى ذلك ضرورة في القصيدة الطويلة، وعلى الشاعر أن يُتقن لغة النثر ويستخدمها إلى جانب لغة الشعر ليتمَّ التناسق النغمي في بنية القصيدة، فيقول: "والقصيدة ذات الطول يجب أن يكون فيها صعود وهبوط في درجتها من الحدَّة حتى تطابق ما يحدث فعلاً للعاطفة الإنسانية من تراوح بين الصعود والهبوط. وبهذا التراوح تتمّ الوحدة الموسيقية الشاملة لبناء القصيدة ككّل. وفي تلك الفترات التي تهبط فيها العاطفة وتهبط الموسيقا الشعرية سيكون الشعر شبيهاً بالنثر. ومن هنا نستطيع أن نقول إنَّ الشاعر الذي ينظم قصيدة طويلة لا يستطيع أن ينجح إلاَّ إذا أتقن لغة النثر بالإضافة إلى إتقانه لغة الشعر"(22) .‏

    وبالرغم من أنَّ إليوت ربط تطور موسيقا الشعر بتطور لغة الحياة اليومية، وهي لغة متطورة بالضرورة بين مكان وآخر، وعصر وآخر، وبالرغم أيضاً من أنَّه دعا إلى تطور موسيقا القصيدة وشكلها فإنَّه لم يذهب إلى مجاراة بعض الشعراء في التخلَّي عن الوزن، وهو شعر رديء، وما الدعوة إلى الشعر الحرّ سوى مرحلة تمهيدية للخلاص من أشكال جامدة، و"إنَّ الشاعر الرديءْ هو وحده الذي يرحّب بالشعر الحرَّ كوسيلة للخلاص من الشكل، كلَّ مافي الأمر أنَّ الدعوة إلى الشعر الحرّ قامت كثورة على الأشكال الميتة، وكانت تمهيداً لشكل جديد أو لتجديد شكل قديم"(23) . ولذلك هو يرفض أن يكون الشعر بلا وزن أو موسيقا أو شكل، فيقول: "إنَّ الأشكال تحتاج إلى أن تُحطِّمُ ويُعاد صُنْعُها من جديد، أما أن يتحرَّر الشعر تمام التحرَّر من كلِّ شكل فلا"(24) .‏

    2 ـ الوزن والإيقاع:‏



    إذا كان الوزن ضروريَّاً في الشعر فما صلته بالإيقاع:"RYTHME/ HARMONIE".‏

    فهل هما واحد؟ وهل هما مصطلحان مترادفان ومنطبقان تمام الانطباق، أو هما مختلفان في قليل أو كثير من جوانبهما؟ وإذا كانا يتفقّان في بعض الجوانب ويختلفان في بعضها الآخر، فأين يتّفقان وأين يختلفان؟ ثمَّ هل الإيقاع عند الأمم قاطبة واحد، أو أنَّ لكل أمَّة، أو لغة على الأقلَّ، إيقاعاتها وأوزانها وشخصيّتها التي تتجلَّى بوساطة ذلك كلَّه؟...‏

    لاشكَّ في أنَّ ثمَّة تداخلات وتقاطعات بين هذين المصطلحين، ولاشكَّ أيضاً في أنَّ قواسم مشتركة تجمع بينهما وأخرى تفرّقهما، وإلاَّ لكان واحد منهما يُغني عن الآخر، فإذا كانت الأسباب والأوتاد أدوات أساسية في بنية الأوزان العربية، فإنَّ النقر بشدَّته وانخفاضه، وصعوده وهبوطه، وبساطته وتركيبه، وسرعته وتباطئه هو أداة الإيقاع، وبخاصة في الغناء والشعر الغنائي والدرامي والملحمي، ولذلك فإنَّ‌ الإيقاع يتغيَّر تبعاً للأجناس الشعرية، وهذا يعني أن إيقاع الشعر الغنائي، والشعر الذي نُظم بقصد الغناء الموشَّح مثلاً)، غير إيقاع الشعر الملحمي أو الدرامي، وهذا يعني بالضرورة أنّ إيقاع شعر التفعيلة ينبغي ألاَّ يكون هو نفسه إيقاع شعر الشطرين، وهذا لا يعني أبداً المفاضلة بين الجنسين، لأنَّ هذه المفاضلة بعموميتها تعود إلى مراهقة نقدية، أو تعود إلى انحياز لهذا الجنس الشعري، أو ذاك، وهذا ما لا نرتضيه لأحد أو لأنفسنا.‏

    إنَّ الإيقاع الشعري في الوزن الشعري الواحد ليس واحداً، وهو مختلف بين قصيدة وأخرى، بين موضوع وآخر، بين عمل متقن صادق وآخر، فثمة إيقاع عضوي يكون أساس الحركة النفسية والدلالية، وهو يجمع ويضمّ ويصهر العناصر ويحرِّكها ويدفعها في تموّجات صوتية لتتباعد وتتلاقى، وتندفع، بعد ذلك، إلى غايتها، وثمة إيقاع آلي يكون هدفاً في ذاته، ثمّة إيقاع صاخب، وثمّة إيقاع خفّي دفين، ومن هنا تختلف قصيدة عن أخرى، وعمل أدبي عن آخر، وإن كانا يتّفقان في الوزن الواحد، وقد وقف أحد الدارسين عند قصيدتين لأبي الطيّب المتنبي من وزن واحد، هو الطويل، وبيّن فيها أن إيقاع القصيدة الأولى يُجلجل خطابية وحماساً، وأن إيقاع القصيدة الثانية يشجو ويشحب ويبّث إيقاعه الشكوى والحنين والأنين، ولذلك، فإنَّ ثمّة قصائد "يلج الإيقاع فيها بحالة الخلق وإبداع الحالة الشعرية، من تناغم الحروف والألفاظ والعبارة والوزن، وهو إهاب روحي تترنّح عبره القصيدة وتشجو وتعذب وتترقرق، فلا تدرك إذا كان الشاعر يوقِّع العبارة على إيقاع الوزن والقافية، أم أنه من قلب حالة شعورية شبه روحية، من الوجد والنشوة. فالمتنبي يحمل الوزن على إيقاعه من طبيعة التجربة"(25) .‏

    الإيقاع غير الوزن، هو داخلي، والوزن خارجي،. هو شعري والآخر، بالرغم من ضرورته، قد يكون آليَّاً نظميَّاً. الإيقاع روح والوزن جسده، الإيقاع يستولي على الشاعر ضمن حالة مناخية، وهو التوهَّج الداخلي، أو الإشراقة الروحية التي تشحذ الألفاظ وتشحنها بالحرارة التي ينجم عنها الإيحاء، وهو شحنة من التوتر الداخلي الناجم عن تفاعل النغم مع الإحساس الروحي، وهو أساس القصيدة، فالفكرة تنبثق منه، وهو الذي يولِّد القصيدة بأفكارها ومعانيها وموضوعاتها وبنيتها، وهذا ما أكَّده بول فاليري: "إنَّ القصيدة تبدأ بإشارة إيقاعية بسيطة تشكّل شيئاً فشيئاً معنىً ما"(26) .‏

    هل نستطيع بعد ذلك كلَّه أن نقول إن الإيقاع الشعري ، سواء أكان في شعر الشطرين أم في شعر التفعيلة أم في سواهما، هو المعيار الذي نميّز بوساطته الشعر من اللاّشعر النظم)؟!...‏

    الإيقاع غير منظور، كما شأن الوزن، ولكنَّ القارئ يحسَّ به بروحه، فهو نكهة الشعر، وعلامة على التجربة، ولذلك يشكَّل الحركة والتوهَّج والنمو العضوي، وإذا كان الوزن من علامات التخطيط والوعي فإن الإيقاع من علامات الروح واللاّتخطيط واللاوعي، ويتعذَّر على الإنسان أن يلج إلى عالم الحقيقة بالأوزان والتخطيط والبيّنات والقرائن في عالم الشعر، ولكنَّه يلج إلى عالم الحقيقة و الشعر بوساطة الإيقاع الروحي، ومن هنا كان لكل شيء إيقاعه، فللموت إيقاع وللحياة إيقاع آخر، للسكون والحزن والحركة والفرح وسوى ذلك إيقاعات مختلفة، ولذلك يختلف أسلوب عن أسلوب، وبيئة عن بيئة، وزمن عن زمن، ومن هنا يكون لكل مكان إيقاعه الخاصَّ به، ولكل زمان إيقاع آخر، ومادام وعي الإنسان وإحساسه يتغيّران، فلابدّ من أنَّ الإيقاع هو الآخر يتغيَّر. ولكنَّ ذلك يكون ضمن مبدأي الثوابت والمتغيَّرات.. أي ضمن الخصوصية لكل لغة وشعب على حدة، الإيقاع إذن، بما فيه من حالة نغمية وتجربة ورؤيا ومناخية خاصة، يحوّل اللاّشعري إلى شعر، ومن هنا يغدو لهذا الإيقاع قيم نفسية وتعبيرية وجمالية، كما ذهب إلى ذلك الأستاذ الشاعر عبد الكريم الناعم في دراسته المتأنيَّة"(27) . وإن اختلفنا معه في بعض التفاصيل التي لا مجال لمناقشتها هنا، وأوّلها هيمنة الشكلية على بحثه، وهذا ما وقعت فيه نازك الملائكة في كتابها الرائد "قضايا الشعر المعاصر"، ونذكّر، هنا، بما ذهب إليه إخوان الصفا من تأثيرات جمّة للإيقاع الشعري في نفوس المستمعين، فتحرّكهم نحو الأعمال الشاقَّة، وتقوّي عزماتها على الافعال الصعبة المتعبة للأبدان، كالقيام إلى الحروب، وإثارة الأحقاد الكامنة،‏

    وتحريك النفوس الكامنة، وإلهاب نيران الغضب... الخ. (28) .‏

    3 ـ تطور موسيقا الشعر العربي:‏

    لاشكَّ في أنَّ الإيقاع مرتبط بالوزن في كثير من تداخلاتهما، ولكنَّه، كما مرَّ معنا، ليس هو الوزن نفسه، ولذلك لا يكون التطوّر الشعري إيقاعيَّاً صرفاً، وإلاَّ كان هذا التطور خارجيَّاً، أي مضافاً إلى العمل الشعري، فالتطوَّر هو تغيير في البنية الشعرية لحاجة ضرورية، وعلينا، هنا، أن نقترب من هذه الحاجة، لأنَّ الإمساك بها في الشعر الحقيقي أمر متعذّر.‏

    أ ـ الموشَّحات والحاجة إلى الغناء:‏

    كانت الموشحات أول ثورة فعلية على قوالب القصيدة العربية ذات الشطرين(29) ، وإذا بحثنا في أسباب هذه الثورة فإنّنا نجدها في تقدّم الحياة الموسيقية، وإيقاعاتها في بلاد الأندلس على بنية الإيقاع في القصيدة، فلما رحل زرياب إلى الأندلس وتقدَّمت الإيقاعات الموسيقية تقدَّماً ملحوظاً هناك وجد القائمون على ذلك أنَّ ثمة حاجة غنائية ملحَّة في تغيير بنية القصيدة لملاءمتها للأوزان الغنائية الجديدة، وبخاصَّة أنَّ الأوزان الغنائية كانت تُصنع قبل نشأة الموشحات بعد صناعة القصيدة، فكان الإيقاع الموسيقي يخضع للإيقاع الشعري في القصيدة، فلما تطوّرت الأوزان الموسيقية كان لابدَّ من شعر جديد يناسبها، ولذلك صار اللحن يُصنع أولاً، ثمَّ تُصنع الكلمات المناسبة لهذا اللحن، وهكذا تحرَّرت الإيقاعات الموسيقية من سلطة الإيقاعات الشعرية"(30) .‏

    ب ـ محاولات التجديد في موسيقا الشعر العربي في العصر الحديث، والحاجة إلى التعبير العصري:‏

    وجد الشعراء العرب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.‏

    أنَّ ثمة حاجة ملحَّة للتغيير في بنية الإيقاع الشعري، وكان التململ الأول من سلطان القافية، لأنَّها تمثَّل في نظر بعضهم سدَّاً منيعاً إزاء التدفّق الشعري، وكان رزق الله حسَّون الحلبي الأرمني1825-1880م)، من أوائل الذين نظموا الشعر المرسل، قال شارحاً منهجه في ذلك: "وقد سنح لي أن أنظم الفصل الثامن عشر من سفر أيوب على أسلوب الشعر القديم بلا قافية لأنَّ حدَّ الشعر عندي نظم موزون وليست القافية تُشترط إلاَّ لتحسينه، فقد كان الشعر شعراً قبل أن تعرف القافية، كما هو عند سائر الأمم، ولم يُسمع للعرب بسبعة أبيات على قافية واحدة قبل امرئ القيس لأنَّه أوَّل من أحكم قوافيها"(31) .‏

    ثمّ انتقل هذا النوع من الإيقاع الشعري إلى الزهاوي إلى أن وصل إلى أحمد زكي أبي شادي الذي نظم عدداً من قصائده على الشعر المرسل، ومنها "صرار الليل"، و"مملكة إبليس"، و"ممنون الفيلسوف"، التي بدأها بقوله:‏

    شاء ممنون) أن يكون حكيماً بل إماماً وفيلسوفاً عظيماً‏

    وقليل همو الذين تخلوا دائماً عن مثيل هذا الخيال‏

    قال ممنون): ليس لي حين أرجو في جلال أن أصبح الفيلسوفا (32) .‏

    لكنَّ هذا النوع من النظم لم يلاقِ انتشاراً مقبولاً، وبخاصة أنَّ الشعراء الموهوبين ابتعدوا عنه، لإهماله القافية إهمالاً تامَّاً.‏

    وحاول جبران خليل جبران الخروج على سلطان القصيدة ذات الوزن الواحد، فكان عمله الطويل "المواكب"1919م، من وزنين: البسيط، ويمثِّله صوت الشيخ، ومجزوء الرمل، ويمثّله صوت الراعي الشابَّ، ثم انتقل هذا اللون إلى الشعر المعاصر عند بدر شاكر السيّاب، ومنها قصيدة "من رؤيا فوكاي"، وقصيدة "بور سعيد"، وقصيدة "رسالة"، وقصيدة "إقبال والليل"، وقصيدة "ليلى"، وكان يزاوج في هذه القصائد بين شعر الشطرين. وشعر التفعيلة.‏

    عمل خليل مطران منذ مطلع القرن العشرين، وبخاصة في شعره القصصي والدرامي، على التطوير الحذر في بنية القصيدة، فعمل على نظام الشعر المقطعي وإثراء الموسيقا الداخلية، ويمكننا أن نعدَّ المخمّسات ضمن هذا النظام، ومن ذلك قصائده "الوردتان"، و"الاقتران" و"فنجان قهوة"، و"حكاية عاشقين"، و"الطفلان"، و"هل تذكرين"، و"الجنين الشهيد"، وثمة المزدوجات، ومنها قصيدته "شهيد المروءة وشهيدة الغرام"، وسواها.(33) .‏

    وانتشر النظام الإيقاعي الشعري المقطعي في الشعر المهجري انتشاراً واسعاً في أعمال أبي ماضي ونسيب عريضة وميخائيل نعيمة، والياس فرحات، وسواهم، كما انتشر انتشاراً ملحوظاً وبإيقاعية شعرية رومانسية في أعمال جماعة أبولو في مصر الذين أكثروا من شعر المقطَّعات التي تتغيَّر فيها القافية بين مقطع وآخر، وشعر المزدوجات التي يتّفق فيها كلّ بيتين متتاليين بالقافية، وافتنَّ هؤلاء في الخروج على سلطة القافية، فنظموا المثلثات والرباعيات والمخمسات والشعر الحرّ، ومزجوا بين البحور المختلفة في قصيدة واحدة(34) ، وهذا ممّا أدَّى، فيما بعد، إلى ولادة شعر التفعيلة.‏

    ج ـ شعر التفعيلة والبناء الدرامي الهارموني: كان التجديد في إيقاع الشعر العربي ضرورة ملحّة، فقد غدت الموضوعات القديمة من فخر ومديح وسواهما بالية في عصر يتلمّس فيه الإنسان العربي مكاناً له في هذا العالم الذي يسير بسرعة هائلة، ففرض العصر الحديث موضوعاته الجديدة بقوّة، وهي موضوعات مختلفة في قليل أو كثير منها عن الموضوعات القديمة، ومنها موضوعات المدينة والزمن والموت ومواجهة الحياة الجديدة بكلّ قساوتها وضراوتها، ثمَّ إنَّ بنية القصيدة أخذت تتجه منذ بدايات القرن العشرين اتجاهاً ملحميَّاً ودراميَّاً ضمن بنية القصيدة نفسها، كما أنَّ الشاعر أخذ يبتعد عن روح الخطابة والوعظ والتقرير والمباشرة، فتسلّلت إلى القصيدة أصوات أخرى غير صوته الغنائي، فتعدَّدت الأصوات والأبعاد في بنية هذه القصيدة، ولذلك جنحت بعض القصائد إلى الإيقاع الهارموني تعدّد الأصوات)، بعد أن كانت، فيما مضى، على الأغلب، ذات إيقاع ميلودي الصوت المفرد)، ومن هنا كان الخروج على نظام شعر الشطرين الذي اتهمه المجدّدون بأنه ذو أفق محدود إلى أفق أكثر رحابة وأقلّ رتوباً.‏

    ويتوقّف المتلقي في شعر التفعيلة عند مرحلتين: مرحلة السطر الشعري ومرحلة الموجة الشعرية.‏

    كانت مرحلة السطر الشعري قريبة إلى حدٍّ بعيد جدَّاً من شعر الشطرين، والاختلاف بينهما بسيط جدَّاً، وهو في تنويع القوافي من جهة، والزيادة أو النقصان في عدد التفعيلات في البيت الواحد، ويمثّل هذا الاتجاه بكلّ قوّة الشاعرة نازك الملائكة في كتابها النقدي "قضايا الشعر المعاصر"، وفي شعرها، ولنقدّم مثالاً على ذلك من قصيدتها "مر القطار"، وهي مؤرخة بسنة 1948م، وتبدأ هكذا:‏

    ألليلُ ممتدُّ السكون إلى المدى ـ متْفاعلن متْفاعلنْ مُتْفَاعلن.‏

    لا شيءَ يقطعُهُ سوى صوتٍ بليدْ ـ‏

    متْفاعلن مُتَفاعلن متْفاعلانْ‏

    لحمامةٍ حَيْرَى وكلبٍ ينبَحُ النجمَ البعيدْ،ـ‏

    مُتَفاعلن مُتْفاعلن مُتْفاعلن متْفاعلان.‏

    والسَّاعَةُ البلهاءُ تلتهمُ الغدا ـ‏

    متْفاعلن متْفاعلن مُتَفَاعلنْ‏

    وهناك في بعضِ الجهاتْ ـ‏

    مُتَفاعلنْ متْفاعلانْ‏

    مرَّ القطارْ ـ متْفاعلانْ‏

    عجلاتُهُ غزلتْ رجاءً بِتُّ أنتظرُّ النهارْ ـ‏

    مُتَفاعلن متَفاعلن متْفاعلن مُتَفاعلانْ‏

    من أجلِهِ... مرَّ القطارْ ـ‏

    متْفاعلنْ مُتْفاعلانْ‏

    وخبا بعيداً في السَّكون ـ‏

    متْفاعلن متْفاعلانْ‏

    خلفَ التلالِ النائياتْ(35) .‏

    متْفاعلنْ متْفاعلانْ‏

    يُلاحظ على هذا المقطع من خلال التفعيلات المصاحبة للنّص أنَّ التغيير الذي طرأ على السطر الشعري بسيط للغاية، وهو يتجلَّى أولاً في اختلاف عدد التفعيلات في السطر الواحد بين أربع تفعيلات وثلاث واثنتين وتفعيلة واحدة، ويُلاحظ أيضاً التنويع في القوافي. أما التفعيلة فقد كانت متفاعلن) من وزن الكامل المعروف.‏

    أما المرحلة الأهمّ إيقاعيّاً فهي مرحلة الموجة الجملة) الشعرية، وهي نفسٌ واحد ممتدّ من أول الموجة إلى نهايتها، ومنها الموجة الأولى من قصيدة "البحار والدرويش"، وهي القصيدة النشيد) الأول من "نهر الرماد" لخليل حاوي:‏

    بعدَ أن عانَى دوارَ البحر، ـ‏

    فاعلاتُنْ فاعلاتُنْ فاعِ‏

    والضَّوءَ المداجي عَبْرَ عَتْماتِ الطريقْ ـ‏

    لاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتْ‏

    ومدى المجهول يَنْشَقُّ عنِ المجهولِ،ـ‏

    فعلاتُنْ فاعلاتن فعِلاتُنْ فاعِ‏

    عن موتٍ محيقْ ـ لاتن فاعلاتْ‏

    ينْشرُ الأكفانَ زُرْقَاً للغريقْ؛‏

    فاعلاتنْ فاعلاتن فاعلاتْ‏

    وتَمَطَّتْ في فراغِ الأُفْقِ أشداقُ كهوفٍ ـ‏

    فعِلاتنْ فاعلاتن فاعلاتن فعِلاتنْ‏

    لَفَّهَا وَهْجُ الحريقْ، ـ‏

    فاعلاتنْ فاعلاتْ‏

    بعدَ أن راوغَهُ الريحُ رماهُ ـ‏

    فاعلاتن فعِلاتُنْ فَعِلاتـُ‏

    الريحُ للشرقِ العريقْ.(36) . ـ‏

    نْ فاعلاتنْ فاعلاتْ.‏

    يُلاحظُ على هذه الجملة الشعرية من خلال التفعيلات المصاحبة للنّص أن التغيير الإيقاعي الذي طرأ على هذه الجملة أو الموجة يكمن في تدوير التفعيلات بين الأسطر، وهذا ما جعل بنية المقطع موجيّة متصلة إيقاعيَّاً حتى نهاية الجملة، وهذا ما أدَّى إلى البناء الهارموني تعدّد الأصوات) في بنية القصيدة المعاصرة.‏

    د ـ قصيدة النثر ومعمارية الرفض والرؤيا:‏

    لن نتوقّف في هذه العجالة عند آراء خصوم قصيدة النثر، وبخاصةٍ حول تسميتها وشرعيتها شعريَّاً، كما أنَّنا لن نتوقّف عند ردود أصحاب قصيدة النثر، سواء استمدَّت شرعيتها من التراث العربي أم من الشعر الأوروبي بعامةٍ، والفرنسي منه بخاصة، وليس، هنا، مجال البحث والأخذ أو الردّ في هذه الظاهرة الأدبية التي أصبحت واقعاً ملموساً في حركة الشعر العربي المعاصر، قبلنا بها أو رفضناها، ولكننا لابدَّ من أن نسوق، هنا، رأياً وحيداً يذهب إليه أصحاب هذه القصيدة، وهو أن الخروج على نظام شعر الشطرين في شعر التفعيلة لا يعدو أن يكون احتيالاً على التجديد الإيقاعي، وهو تقانة تلفيقية للتعبير عن العصر، والتفعيلة بنت الأوزان القديمة، وينبغي على الشاعر المعاصر أن يتجاوزها إلى نظام إيقاعي عصري، وأنَّ نظام التفعيلة لا يحلّ المشكلة حلاًّ نهائيَّاً".(37) .‏

    لقصيدة النثر إيقاعها الخاصّ بها، ولكنَّها لا تلتزم بوزن، أو هي لا تعتمد الوزن أساساً من أساسيات الشعر، وقد يكون إيقاعها ناجماً عن إيقاعية الصورة أو اللغة أو التكثيف والاقتصاد اللغوي أو التوهّج أو سوى ذلك، ومن هنا يحسن بنا أن نقف عند جوهر هذه الظاهرة الخلافية، لنتعرّف، على الأقل، على آراء بعض النقاد الذين درسوا هذا الجنس الشعري الجديد.‏

    تذهب سوزان برنار إلى أنَّ قصيدة النثر هي: "قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور...خلق حرّ، ليس له من ضرورة غيررغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية"(38) .‏

    يتّسم هذا الجنس الشعري، حسب التعريف السابق، بثماني سمات:‏

    السمة الأولى أنها نثرية، وهذا يشير إلى أنَّ إيقاعها ناجم عن علاقاتها النثرية الداخلية، وليس عن الأوزان المعهودة في هذه اللغة أو تلك، وإن كانت الباحثة سوزان برنار تتحدَّث عن قصيدة النثر في الشعر الفرنسي، وهذا واضح من عنوان بحثها الضخم: "قصيدة النثر بودلير إلى أيامنا"، وفي هذه السمة رفض لهيمنة الموسيقا على الأجناس الشعرية. السمة الثانية، إنها قصيدة شديدة الاختصار والتكثيف، وهذا يعني أنها بعيدة عن الثرثرة والاسترسال في الكلام والترهّل اللغوي، فالشاعر هو الذي يتكلَّم منذ طفولة اللغة، وكأنَّ القصيدة ما زالت صامتة، فعلى الشاعر أن يصمت قليلاً لتتكلّم اللغة، وقد كان فضاء الكلام أوسع من فضاء الصمت، فهل تستطيع قصيدة النثر أن تصنع فضاء للصمت في حيّز اللغة الشعرية؟ ومن هنا جاءت مقولة الاقتصاد اللغوي في قصيدة النثر.‏

    السمة الثالثة أنَّها موحّدة، وهذا يعني أنَّها ذات بنية عضوية، وهذه السمة منبثقة من السمة الثانية، فهي خلوّ من الزوائد، ولذلك كانت قصيرة، أو لمحة أو ومضة، أو القصيدة البرقية، أو كما يصفها ريفاتير: "المحدَّدة اختباريَّاً، بأنَّها وحدة دلالية قصيرة ومضاعفة الحتم وظاهرة للعيان"(39) .‏

    السمة الرابعة أنَّها متوهّجة كقطعة من بلّور). وهنا تكمن إيقاعية قصيدة النثر، في التوهّج... مرآة... حرارة... صدق، فإذا خلت من التوهّج فقدت شرعيتها الشعرية، لأنَّ التوهّج حالة شعرية، أو هي أهم سمة من سمات القصيدة دائماً.‏

    السمة الخامسة، أنَّها ذات بنية مستقلّة بذاتها، وهذا يعني أنها بعيدة عن النمطية والرتوب، ويعني الاستقلال الاختلاف، فهي تختلف مع الأجناس الشعرية الأخرى، وأهم ما تختلف به معها أنَّها ابتعدت عن العالم القديم بأوزانه وقوافيه ورؤاه، وهي لا تهتمّ بالأوزان من جهة، وهي قصيدة الرؤيا الجديدة من جهة أخرى، لأنَّها قصيدة الرفض والتعرية، ولأنَّ "الشاعر لا ينامُ على لغة"(40) . ثمّ إنَّ شاعر قصيدة النثر ـ على حدّ تعبير أنسي الحاج ـ ملعون غاز يستبيح كل المحرّمات(41) ، ومن هنا فإنَّ قصيدة النثر "عالم مسوّر، مغلق على نفسه، ويكتفي بذاته... كتلة مشعَّة، مشحونة، بحجم صغير، بلا نهاية في الإيحاءات"(42) .‏

    السمة السادسة أنَّها لا تُعرَّف لتحوَّلاتها المستمرة، وهي تختلف عن الأجناس الشعرية الأخرى اختلافاً واضحاً، فهي لا تنطلق من مرجعيات سابقة على بنيتها، كما هي الحال في الأجناس الأخرى، فللنظم هناك مرجعيات سابقة، وهي قبل نصيّة، في حين أن النظم في قصيدة النثر نصّي، أي نابع من النص ذاته، ولذلك هي: "تتطلّب مشاركة هامة من جانب القارئ. إنها توافق تعريف رولان بارط للقابل للكتابة، أي للأدب الواقعي الحيّ، الذي هو ذلك النوع الذي يقتضي "ناسخاً" لا قارئاً سلبيَّاً)، وهذا هو الفرق الحقيقي بينها وبين النظم: لأنَّ النظم، لا يحتاج إلى رحم، ولا يتوقف على رحم القصيدة: فهو موجود قبل النصّ، كأعراف أخرى، مثل النوع، وفي قصيدة النثر، يَسْتبدل الرحم شكلاً لهجيَّاً فرديَّاً خاصَّاً بها بشكل مصنوع مسبقاً. وبما أنَّ الثابت المحدّد لقصيدة النثر ينشأ معها ومنها، فإنه يكون بالتالي وافياً بالمرام تماماً"(43) ، ولذلك ذهب الشاعر لويس أراغون إلى أنَّ التمييز بين قصيدة النثر والقطعة النثرية أمر ليس سهلاً، فليس هناك أيَّ "قواعد تمكّن من تعرّف قطعة نثر معزولة من قصيدة نثر"(44) .‏

    يشير ما سبق إلى أنَّ قصيدة النثر جنس شعري لا يعرف الاستقرار، وأنَّ القبض على خصائصه، قبضاً تامَّاً أمر متعذّر، لاستقلال كلّ قصيدة على حدة من جهة، ولأنَّها جنس وليد مازال في مرحلة التشكّل والتغيير من جهة أخرى، وهو شبيه في ذلك بالأجناس الأدبيّة الوليدة ذات النشأة القريبة، كالرواية التي عرفت تغييرات متتالية في فترة قصيرة نسبيَّاً بالقياس إلى الأجناس الأدبية الأخرى التي استقرَّت إلى حدٍّ ما، كالملحمة والمسرحية والمقالة، وهي قد لاقت أيضاً شيئاً غير قليل من الاحتقار والمقاومة، وبخاصة في الشعرية العربية المعاصرة، وهذا ما عرفته الرواية في بداياتها، ولم تسلم منه قصيدة التفعيلة نفسها، ومع ذلك فإنَّ قصيدة النثر تقدّم متعة أدبية شعرية، وبخاصة في النصوص الجيّدة منها، وإن اختلفنا حول شرعيّتها الشعرية.‏

    السمة السابعة أنَّها ذات توتّرات في دلالاتها، وهي تقوم على التباين: "نثر وشعر، حرّية وصرامة، فوضوية مدمّرة وفنّ منظم، ومن هنا يبرز تباينها الداخلي، وتنبع تناقضاتها العميقة الخطيرة... والغنيّة، ومن هنا ينجم توترها الدائم وحيويتها"(45) .‏

    ويؤكّد ريفاتير هذه السمة في قصيدة النثر التي لابدَّ من أن تتميّز بالفكاهة والتنافرات النّصيَّة، لأنَّها "تخلق الفكاهة التي تعطي النّص مظهره وتخلق الشكل والمضمون الوافيين بالمراد واللذين يُحدثان الوحدة العضوية التي يتوقّعها المرء من قصيدة "(46) . ويكون تميّزها في أنّ مولِّدها يحتوي على بذور تناقض في الألفاظ (47) ، ولذلك تكمن دلالتها في التناص(48) ، وتكون حينئذٍ نصَّاً موحداً، وهي تقدّم لقارئها الإحساس بالوحدة، أي كليّة الأثر أو الانطباع(49) .‏

    السمة الثامنة أنَّها ثريّة بإيحاءاتها، وربّما كانت هذه السمة من أهمَّ سماتها الشعرية، فأيَّ عمل أدبي، وبخاصة الشعري منه، لا تتعدَّد دلالاته، يكون فقيراً، ويفقد شرعيته الأدبيّة والشعرية، سواء أكان على نظام الشطرين أم على نظام شعر التفعيلة أم قصيدة النثر، وهذا أمر لا خلاف حوله، وهو المعيار الذي يُميّز بوساطته بين الشعر والنثر من جهة، وبين النظم و الشعر من جهة أخرى، ولذلك ذهب ريفاتير إلى "أنَّ قصيدة النثر أيضاً يُفترض فيها أن تكون مصقولة كاملة، كأيِّ شكل فنّي آخر ـ أيْ أن تكون رائعة، منتوجاً كاملاً"(50) .‏

    وتنبغي الإشارة أخيراً أنَّ الإيقاعية الشعرية هي المعيار الحقيقي للشعرية، ولذلك فإنَّ كثيراً من الشعر ذي الشطرين أو شعر التفعيلة أو قصيدة النثر الذي يخلو من هذه الإيقاعية هو نظم، أو دخيل على الشعر باسم الشعر والشعرية.‏

    هذه صورة عن تطور موسيقا الشعر العربي منذ القديم إلى يومنا هذا، وهي صورة وصفيَّة لما هو كائن، بعيدة عن المفاضلات والموازنات، وذلك لأنَّ لكلِّ جنس من الأجناس الشعرية إيقاعاته وخصوصياته ودلالاته واستقلاله.‏


معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
الاتصال بنا
يمكن الاتصال بنا عن طريق الوسائل المكتوبة بالاسفل
Email : email
SMS : 0000000
جميع ما ينشر فى المنتدى لا يعبر بالضرورة عن رأى القائمين عليه وانما يعبر عن وجهة نظر كاتبه فقط