هل يمكن للمرء أن يكون عروضيا وشاعرا في الوقت ذاته ؟ صحيح أن كثيرا من العروضيين كانوا شعراء ، ولكن علينا أن نعترف أنهم كانوا شعراء مقلين وأولهم الخليل رحمه الله . غير أنا لم نسمع يوما بأن الخليل ابتدع بحرا جديدا ونظم عليه قصيدة. ولكني رأيت أخي غالب الغول ينظم قصيدتين على بحرين ابتدعهما وظن أنه لو استطاع النظم عليهما فسيكون في صنيعه هذا تأكيدا على صدق آرائه العروضية، وهو ما نشك فيه. والقصيدتان منشورتان على موقع الكتاب العرب على هذا الرابط:
WWW.arab-ewriters.com/ghool
وقد رأيت أنه قصد بنظمهما ونشرهما على الملأ أن يكونا مثالا حيا على صدق تصوراته النظرية في العروض.
ولقد كانت القصيدة الأولى تطبيقا عمليا لفكرته بوجود تفعيلة تسمى ( فاعلاتك ) بحيث تكون ( فاعلاتن ) زحافا لها، وأطلق على هذا الوزن اسم (المرمل)، ومنه الأبيات التالية:
هل قرأتَ اليوم أخبار الثكالى في فلسطين الحـــبيبه
ما أنا اليوم بِقارئْ : يا أمــــــير
هلْ تَجهمْتَ بشعرٍ تشْتمُ الأعداءَ في الأرض السليبه
لا تلمني إنني اليوم ضــــــــرير
لستُ من يهجو كأخطلَ أو جرير
كيف لا تهجو عدواَ قد أذاق القوم آلاماَ عـــــــــجيبه
وأنا لا أدري لم لم يعد الوزن من الرمل ، وهو من الرمل فعلا ولكن به زحافا بغيضا هو تثقيل آخر سببي التفعيلة.
ثم ألم يعلم أن محاولته هذه قد سبقتها محاولة لعروضي قديم أراد أن يضيف وزنا جديدا في دائرة المؤتلف أسماه بحر المتوفر، ونظم عليه بيتين رددتهما معظم كتب العروض التراثي، وهما :
ما وقوفك بالركائب في الطلل *** ما سؤالك عن حبيبك قد رحل
يا فؤادي ما أصابك بعدهم *** أين صبرك يا فؤادي، ما فعل
فأين القصائد التي نظمت على هذا الوزن العروضي. إن الخليل، رحمه الله ، لم يجرؤ على أن يفرض بحرا ابتدعه من تلقاء نفسه ، بل إنه لم يأت بشاهد ، حتى وإن كان مصنوعا، إلا وله أمثلة من الشعر المروي تكفي لقبوله ولو في مرحلة معينة من الزمان.
وأما القصيدة الأخرى فعلى بحر جديد سماه (الخاتم) ومنها هذه الأبيات:
كان فيـــك حبي عـــطراً رغيـــــــــدْْ
للسمـــــاء أرنو وبه سعيـــــــــــــدْ
كــنتُ هــائماً بـحـبـكَ الفـريـــــــــــدْ
لا لن أشـــتهي غير الـــذي أريــــــدْ
وهو على مفعولات بزحافاتها التي قررها لها الأستاذ الغول وهي : مفعلات، مفعولت،مفعولن، مفعولان، مفعولات،مفعلات
حيث وجد هذه المرة شاهدا قديما لهذا البحر هو قول ابن الفارض:
روحي لك يا مواصل الليل فـــدا*** يا مؤنس وحدتي إذا الليل هدا
إن كان فراقنا مع الصبح بدا*** لا أسفر بعد ذاك صـــــبح أبدا
فجعل للدوبيت تجزئة جديدة، آمل من أخي عمر خلوف أن يتنبه لها ويضيفها الى التجزئات التي عرضها لهذا البحر في كتابه (البحر الدبيتي). وإذا لقيت هذه التجزئة من قبل الشعراء والنقاد قبولا فإنها تكون أقوى دليل على عروبة هذا الوزن الذي ظل الفرس قرونا طويلة يزعمون أنهم أضافوه من وحي إبداعاتهم في العروض التي لا تقل شأوا عما جاء به العرب.
لا، بل إن الدكتور أحمد مستجير ليقوي هذه الفكرة، حول عروبة أصل الدوبيت، التي لا نشك في صدقها، بما أثبته من خلال نظريته العروضية أن هذا الوزن يرجع في تجزئته إلى نسق (مفعولات)، ودليله الرقمي:4ـ 8ـ 12 وكأن بين مستجير والغول توارد أفكار عجيبا.
والخلاصة، أنني كنت آمل من الأخ غالب أن يقتصر في إبداعه الشعري على النظم وحده دون التنظير لهذا النظم ، وأن يترك هذه المهمة لعروضي غيره، فهو إن جمع بين المهمتين معا اتهم بما كان يتهم به الخليل بأنه يصنع الشواهد ليدلل على صدق نظريته .
وما أدراه، أخي غالب، فقد يجيء عروضي ما، في زمن ما، ليستشهد بالأبيات السابقة تمثيلا لبحرين جديدين. ويحضرني ما قرأته أول من في صحيفة الرياض أن المرحوم محمد حسن عواد نشر في صحيفة القبلة الحجازية عام 1921 قصيدة تفعيلية على بحر الرمل فكان بذلك أول من أطلق رصاصة الثورة لتدشين عهد جديد من الشعر، وحسم بذلك النزاع الذي طال أمده حول من هو المؤسس الحقيقي لهذه الثورة وهل كان هو السياب، أو نازك الملائكة، أو علي أحمد باكثير، أو..أو.
الطريف في الأمر أن لدي كتابا في العروض من تأليف العواد لم يذكر فيه شيئا عن هذه المحاولة، لا.. بل إنه وقع على قصيدته تلك بالأحرف الأولى من اسمه.
هنا كان العواد شاعرا مستقبليا في شعره، وعروضيا صاحب رؤية متميزة في فكره ، ولم يخلط بين الاثنين معا.