[وجهة نظر خاضعة للتقويم.]

http://www.alnoor.se/article.asp?id=76771

نظرة عابرة إلى الصرف والنحو من وجهة نظر العروض والقافية

د. يحيي معروف
09/05/2010
قراءات: 4358
لا يزال منذ العصور و لحدِّ الآن تُحَملق الأبصار نحو الصرف والنحو كمفتاح للوصول إلى فهم القرآن وما فيه من المضامين العالية السَّمحَى؛ وقد اهتم المسلمون منذ العهد الإسلامي إلى عصرنا الراهن اهتماماً بالغاً بهذه اللغة؛ فبهذه الظاهرة تمتاز اللغة العربية من بين سائر اللغات الحيّة، فتجعلها غنيةً يوماً بعد يوم.
إنَّ آلاف الكتب المؤلَّفة في الصرف والنحو من قِبَل علماء العرب وغيرهم، تكفي لتثبت اهتمام المسلمين بهما؛ وأَعْجبُ من ذلك نری الكثيرين من أعلام أساتذة الصرف والنحو المشهورين من غير الناطقين بالضاد، تركوا لغتهم التي خُلِقُوا على جبلتها فتعاطَوْا العربية وألَّفُوا في قواعدها كتباً كثيرة، ناهيكَ عن ذكر بعضهم كسيبويه (وهو من مواليد ضواحي شيراز في جنوب ايران الاسلامية) وأبي علي الفارسي وهكذا دَوَالَيْك. فهؤلاء مع ذلك خدموا لغةً غيرَ لغتهم الأصلية. هذا و من جهة أخرى ومع الأسف الشديد بمحاذاة التطور الملحوظ في الصرف والنحو، بدلاً مِنْ تيسير العلماء لهذين العلمَيْن للناشئين الذين يحبون تعلُّمَ القواعد العربية، نرى عدداً غير قليل من الآراء الشاذة الشاردة الحاصلة عن بعض الأبيات الشعرية أحياناً، تُثْقِل كواهلَ المتعلمين، حيث جَعَلهم يفرّون منها مُحْتَجّين على صعوبة تعلّمها و كثرة الشواذ فيها.

موضوع مقالنا هذا يتناول الشواهد الشعرية التي استشهد عليها النحويون من وجهة نظر علمَي العروض و القافية دون تعصب لأحد أو على آخر بغير حق و منطق سليم.

في مستهل الكلام نطرح سؤالاً وهو: هل للشعر بما فيه من الضرورات العروضية كمراعاة الوزن والقافية والموسيقَى اللفظية وغيره قيمةٌ للاستشهاد به في الصرف والنحو؟ وهل يستطيع الشعر أن يكون مصدراً موثوقا للقواعد الصرفية و النحوية؟ وبتعبير آخر، هل للشعر قيمةٌ علميةٌ ولو كان شاعرُهُ موثوقاً؟
لاشكَ أن الشعر لم يَبْرَح طوال العصور كوسيلة لخدمة النحويين القدامى، فاعتمدوا عليه و بَنَوا القواعدَ النحوية على أسّه. فباعتقادهم هذه الأشعار خاصة ما ترجع إلى الجاهليين وبعض المخضرمين معايير صحيحة لصحة القواعد النحوية أو رفضها وعدم قبولها. هذه النظرية تَابعَها كثير من علمائنا. فنحن اليوم عندما نتأمل في هذه الشواهد وما استُشهد عليها من القواعد، نواجه عدم تطبيقها، فلذلك تحتاج إلى بعض الملاحظات.

اولاً: ميزان الاعتماد على الشواهد الشعرية

أول ما يقلّل اعتمادنا على الشعر، في الاستشهاد، هو الضرورة الشعرية التي يلجأ اليها الشاعر لتقييم الوزن في شعره، ليطرب الأسماع لدى الإنشاد. فمن البديهي ألا يفكر الشاعر إلا بالوزن والقافية. فمن السهل أمامه أن يطأ القواعد النحوية التي تسد طريقه أو يراها مخالفاً لما ينهجه. و ها نحن اليوم نجد في الكتب العروضية جواز مخالفة الشاعر للقواعد النحوية و الصرفية لدى الحاجة، نحو(نقلا عن : العروض العربي البسيط /20 ):
1- فكّ الإدغام عند وجوب الإدغام ،نحو : الأجَلّ الأَجْلَل ، في قول أبي النجم )من الرجز (:
الحمدُ لِلّهِ العَلِّيِ الأَجْلَلِ....الواحدِ الفردِ القديمِ الأول

-2تسهيل الهمزة ، نحو : (سَأَلْنَا ــ سَالنا) في قول حرب بْن الْمُنذَرِبْنِ‏الْجَارودِ؛ )من الطويل)(البيان و التبيين،.365/3)

فَحَسْبِي مِنَ الدُّنيا كَفَافٌ يُقِيمُني.... وَ أثوابُ كَتّانٍ أزُورُ بِهَا قَبْري
وَ حُبِّي ذَوِي قُرْبَي النَّبيّ‏مُحَمّدٍ.... فَمَا سَالَنا إلاّ المودَّة مِنْ أجْرِ
3- صرف الممنوع من الصرف، نحو «فاطمةٍ» بالتنوين في قول الشريف الرضي؛ (من الرمل(:
كَمْ رِقابٍ مِنْ بني فاطمة...... عُرِقَتْ ما بينَهُمْ عَرْقَ المِدَى
(المِدَى جمعُ المِدْيَة : الشَّفْرَة و هي نوعٌ مِنَ السكّين)

ونحو: (مَعَاقِلُ ــ مَعَاقِلٌ) في قول العُمَرِىّ‏ الفاروقي ، ينعت أهل بيت النبي صلی الله عليه و آله و سلم (من الرجز) (ديوان الباقيات الصالحات ،ص10 )
سُفْنُ النَّجا مَعَاقِلٌ لِلالْتِجا....تَلُوحُ شُرَّعاً و تَبْدُو هِضَبا

4- اعتبار همزة القطع همزةَ وصلٍ ، أو عکسها.
أنتَ‏المُهْتَمُّ بِحِفْظِ الدِّي...... نِ و غيرُكَ بِالدُّنيا يَغْتَرْ

5- تسكين المتحرك إما في وسط الكلمة نحو : (الكَرَم ـ الكَرْم)

6- تحريك الساكن في وسط الكلمة نحو نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيالخُلْق ـ الخُلُق)

هذه كانت نزرا يسيرا من جوازات الشعراء في أشعارهم ،حيث ذكرناها باختصار. بالله عليكم ما هو رأيکم لو قال أحدٌ: يجوز فك الإدغام في «الأجلّ» و ما شابهه واستشهد لصحة ماادّعاه ببيت لأبي النجم «الحمد لله العلي الأجلل ... » ؟ هذا هو ما يؤلمنا لدى مواجهة شاهد من الشواهد النحوية.
ثانياً :دور الموسيقى اللفظية في الشعر

لا شك أن للشعر موسيقى خاصة و تنقسم إلى قسمين :

1-الموسيقى الداخلية : و تكون في الشعر و النثر دون التزام من قبل الشاعر أو الناثر و بعبارة أخرى التزام حروف هامسة رقيقة في بنيان الكلمات و العبارات هو الموسيقى الداخلية التي تشبه سقسقة المياه العذبة في جدول نمير أو دفقها من ميزاب على حوض ماء غزير أو تَسلْسُلها من فُسقيَّةٍ في قاعة قصر معمور . (راجع : الموسيقى اللفظية، عبد القادر مايو ،ص2)

2-الموسيقى الخارجية : و يلتزم بها النص الشعري غالباً عن طريق الوزن العروضي و القافية .
عدم اهتمام النحويين بالموسيقى الشعرية أحياناً سَبّبَ ظهور بعض القواعد الغريبة في النحو كما نراه لدى ابن عقيل في شرحه على ألفية ابن مالك .

قال ابن عقيل ( شرح ابن عقيل ، ج 1 ،ص50) في باب الأسماء الستة حول ال" أب " : "...و اللغة الأخرى في " أب "و تاليه أن يكون بالأَلِف : رفعاً و نصباً و جرّاً نحو : هذا أباهُ و أخاهُ و حَمَاها ، و رأيتُ أباه و أخاه و حماها و مررتُ بأباهُ و أخاهُ و حَمَاها و عليه قول الشاعرنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي الأبيات لابي النجم العجلي ؛ جامع الشواهد ، ج 3 ص 122)

وَاهاً لِلَيْلَى ثُمَّ وَاهاً وَاهَا....هي المُنَى لَوْ أَنَّنَا نِلْناها
ياليتَ عَيْناهَا لنا و فاها....بثمنٍ نُرْضِي بِها أَباها
إنَّ أَباها وَ أبا أبا أباها....قد بَلَغا في المجدِ غايتاها

هذه الأبيات منسوبة إلى أبي النجم العجلي و حسب رأي آخر منسوبة إلى رؤبة بن العجاج (شرح محيي الدين عبدالحميد على شرح ابن عقيل 51/1 ) و يعتقد ابن مالك و ابن عقيل في « أب » ، أن هذه الكلمة تأتي ندوراً بالألف رفعاً و نصباً و جراً و استشهد ابن عقيل بالبيت الثالث من هذه الأبيات و احتج بأنه لم تأت «أبا أبيها» بالياء في حالة الجر .

هذا و وجدت ايضاً في موضع آخر ، أن «عيناها» من حقها أن تكون «عينيها» بالياء نصباً و ...
نحن لو أَمْعنَّا النظر إلى الأبيات المذكورة لوجدنا فيضان موسيقَى " الألف " مرات عديدة حتى تصل سبعةً و عشرين ألفاً ،و لو كان يذكر " أبا أبيها " و " عَيْنَيْها " لَقَلَّل أَلِفَينِ اثنينِ من مجموع سبعة و عشرين . و لذلك حاول و كما رأيت من خلال ذلك إضافة ما بوسعه من الأَلِفَات حتى يكون الإيقاعُ موزوناً مطرباً للآذان ، فمن حقِّه ألاّ يُفَكِّر في القواعد النحوية و لا يُضَحّي الموسيقى اللفظية لأجل قاعدتيْنِ نحويتين . فاذن هل يمكننا تصديقَ ما قاله النحويون في » أب « و تالييه ؟

و من مصاديق سيادة الموسيقى اللفظية على النحو ما جاءت في الآيات الكريمة في سورة »الإنسان « في صرف " قواريراً " الممنوعة من الصرف :

و جَزَاهُمُ اللهُ بما صَبَروا جَنَّةً و حريراً ة مُتَّكئينَ فيها على الأرائكِ لا يَرَوْنَ فيها شمساً و لا زمهريراً ة و دانيةً عليهم ظلالُهاو ذُلِّلَتْ قُطوفُها زمهريراً ة و يطافُ عليهم بِآنِيَةٍ مِنْ فضَّةٍ و أكوابٍ كانَتْ قواريراً (من آيات11 الى15 )

وللقافية أيضاً أثر في مخالفة القواعد الصرفية و النحوية و صياغة الكلمات ،ليستقيم الوزن الشعرى و بالأحرى الموسيقى الشعرية .

القافية و أثرها في البيت الشعري
القافية لغةً :مِنْ مادة " قَفَا يَقْفُو قَفْواً و قُفُوّاً : تَبِعَهُ . قال ابن سيدة: القفا ، وراء العنق .و قافيةُ كل شى‏ءٍ : آخره . و (لسان العرب ، مادة قفو ) قفا (ج 11 ،ص262) القافية اصطلاحاً :هي التي تقفو البيت الشعري . قيل : سُمِّيَت بذلك لأنها تقفو البيت أي تجى‏ء في آخره ،أو لأنها (أي القافية) فاعلة بمعنى مفعولة (أي المقفوة) كما يقال " عيشة راضية " بمعنى " المَرْضِيَّة" .و قد اختلفت في تسميتها فكل قوم ذهبوا مذهباً فبعضهم يزعم أن القافية آخر كلمة في البيت و إنّما قيل لها قافية لأنَّها تقفو الكلام و هذا قول الأخفش .و قال الخليل (نفس المصدر ،ج 11 ،ص264) القافية مِنْ آخر حرف في البيت إلى اول ساكن يليه مع الحركة التي قبل (نفس المصدر و الصفحة) الساكن .و يقال من المتحرك الذي قبل الساكن كأن القافية على قوله
من قول لبيد :
عَفَتِ الديارُ مَحَلُّهافَمُقَامُها.... بِمِنىً تَأَبَّدَ غَوْلُها فَرِجَامُهَا

مِنْ فتحة القاف إلى آخر البيت أي "امُها" و على الحكاية الثانية من القاف الى آخر البيت أي "قَامُهَا" .
فالقافية جزء مهم في البيت الشعري و هي المقاطع الصوتية التي تأتي في أواخر أبيات القصيدة و يلزم تكرار نوعها في كل بيت .فلو فَرَضْنا أنَّ الشاعر أنهى قصيدته في البيت الأول بكلمة "يسألُ " يلزم عليه أن يختم بقية الأبيات بلام مضمومة مثل " يعدلُ " و " مرسلُ "و " يعملُ". و المثال لذلك قول السيد الحِمْيَرِىُّ : (الأميني ،الغدير227/2)

أُشْهِدُ باللَّهِ وَ آلائهِ.. وَالْمَرْءُ عَمَّا قَالَهُ يُسْأَلُ
:إنَّ عَليّ‏بنَ أبي طَالبٍ.. خَليفَةُ اللَّهِ الذَّي يَعْدِلُ
وَ إنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أحْمَدَ كَمِثْلِ هَارونَ وَ لاَ مُرسَلُ
لكِنْ وَصِيٌّ خازِنٌ عِنْدَهُ.. عِلْمٌ مِنَ اللَّهِ بِهِ يَعْمَلُ
فالقافية هي " يُسْأَلُو " ، "يَعْدِلُو "، "مُرْسَلُو " ، "يَعْمَلُو " .

للقافية دور هام لدى الشعراء جميعاً لأنها بمنزلة مفتاح للدخول إلى الأسماع و إن لم يجد الشاعر كلمة مناسبة للقافية يتوسل إلى خلق كلمة جديدة و لو كانت مهملة ،كما تكون الحال لدى بشَّار بن برد في خلق " الشَّيْفَران " في شعره (من الرمل):

سيدي خُذْ بِي أَتَاناً.... عِنْدَ بابِ الأَصْبهَانِي
(خُذْ بِي : طالِبْ بِدَمي ؛ إِتان : أنثى الحمار)
تَيَّمَتْنِي بِبَنَانٍ.. وَ بِدَلٍّ قد شَجَانِي
(تَيَّمَتْنِي : استبعدتْنِي بِحُبِّها ؛ الدَلّ : اجتراء و دلّ بغنج ؛ شَجَانِي : أحْزَنَنِي )
تَيَّمَتْنِي يَوْمَ رُحْنَا.. بِثَنَايَاهَا الحِسَانِ
(الثنايا : اربع اسنان فى مقدم الفم ؛ ثنتان من فوق و ثنتان من تحت ، وحدتها ثَنِيَّة)
وَ بِغُنْجٍ وَ دَلالٍ.. سَلَّ جِسْمِي و بَرَانِي
( سَلَّ جِسْمِي : أمْرَضَنِي و ذهب بِصِحَّتِي ؛ بَرانِي : أهزلنِي)
وَ لَها خدٌّ أَسِيلٌ.... مِثْلُ خدِّ الشَّيْفَرانِ
(أسيل : لين طويل)
فلذا مُتُّ ،و لَوْ عِشْتُ....إذَا طالَ هَوانِي

ماتَ لبشار حمارٌ فزعم أنه رآه في النوم فقال له : لِمَ مُتَّ ؟ أَلَمْ أَكُنْ أَحسن إليكَ فأَجابَهُ بهذه الأبيات قائلاً :" سيدي ... الخ . سأل أحدهم بشاراً : ما معنى الشيفران ؟ فأجاب مايُدْرِيني ! هذا من غريب الحمار فإذا لَقِيَتَهُ فَاسْأَلْه!

في الواقع كلمة «الشيفران» ليس لها معنى يليق بها و إنما اخترعها الشاعر لحاجته الماسة إلى كلمة القافية فقط. وقد نجد مثل هذه القوافي المهملة نماذج متعددة منها ايضا ما قاله ابن شُهَيْد الأندلسي (ابو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد الاندلسى ، ولد فى قرطبة و كان من اعلم اهل الاندلس ، و كان متفنناً بارعاً فى فنونه ، يظهر تفننه فى طريقة نقده التى بنى فيها آراءه على تأثير الكاتب فى إنشائه ؛ و فى تصانيفه الغريبة البديعة ، أمثال كتاب " الزوابع و التوابع "أى " الشياطين و الجن " و هو كناية عن رسالة نثرية ، وصف بها رحلة قام بها الى بلاد الجن ، يصحبه فيها جنى دعاه زهير) عن لسان " دَكينِ الحمار في وادى الجن : (المجانى الحديثة ، ج 3 ،ص50)

دُهِيتُ بِهَذا الحبِّ منذُ هَوِيثُ.... و رَاثَتْ إراداتي فلستُ أَرِيثُ
كَلِفْتُ بِإِلْفِي منذُ عشرينَ حِجَّةً.. يَجُولُ هواها في الحَشَا و يَعِيثُ
و ما لِي مِنْ بَرحِ الصَّبَابَةِ مَخْلَصٌ.. و لا لي مِنْ فَيضِ السَّقامِ مَغِيثُ

قال ابن شهيد : سألتُ عن المنشدة ما هويثُ ؟! قالت : هو هَويتُ بِلُغةِ الحَمِيرِ .

إننا لو أمعنا النظر إلى كلمة « هويث » نرى أن الشاعر لم يجد كلمة مناسبة ليكمل قافية شعره و لذلك خلق كلمة جديدة غير مستعملة ، و نسبها إلى لغة الحَمِير .

فلنكتفي بهذين النموذجين و نستنتج منهما : أن الشاعر لدى الحاجة ، يخترع كلمة مهملة و يغيّر كل ما يريد .
مخالفة الشاعر للقواعد النحوية لأجل القافية

مخالفة الشاعر للقواعد النحوية و الصرفية أمر شائع لدى كثير من الشعراء القدامى و المعاصرين. فالنحو عندهم يُضحَّى في سبيل القافية مراراً . هنا نأتي بعدة أمثلة من مخالفة الشعراء لهذه القواعد ذاكراً السبب الذي حمل الشاعر عليه. قال ابن مالك :

و نُونُ مَجْموعٍ و ما بِهِ الْتَحَقْ.. فَافْتَحْ و قَلَّ مَنْ بِكَسْرِه نَطَقْ
و نونُ ما ثُنِّيَ و المُلْحَقِ بِه....بِعَكْسِ ذاكَ اسْتَعْمَلُوهُ فَانْتَبِهْ

و يقول ابن عقيل في شرحه على ألفية ابن مالك : حق نون الجمع و ما أُلحِق به ،الفتحُ ،و قد تُكْسَرُ شذوذاً و منه قوله : ( شرح ابن عقيل ،ج 1 ص 67)

عَرَفْنَا جَعْفَراً و بني أَبِيهِ.. و أَنْكَرْنا زَعَانِفَ آخرينِ
(الزَّعانِفُ ، جمع زَعْنَفَة : الأتباع ، و قيل كل جماعة ليس لهم أصل)

و قوله :
أَكُلَّ الدَّهرِ حِلٌّ و ارْتِحالٌ.... أَمَا يَبْقى علي و لا يقيني
و ماذا تَبْتَغِي الشعراءُ مِنِّي.. و قد جَاوَزْتُ حَدَّ الأرْبَعِينِ

لو نظرنا إلى البيت السابق و اللاحق لما ذكرناه، لوجدنا أن القصيدة نونية أى رَوِيُّها نونٌ مكسورة و على الشاعر أن يراعي مراعاة الروي و حركته ابتداءاً من أول القصيدة و انتهاءاً الى آخر القصيدة كي لايقع في فخِّ " الإِقْوَاء " .و الإقواء في الحقيقة هو الخطأ في الإعراب ، فإذا حدث في الشعر ،وقعَ شاعره في مضيقٍ (الاقواء من عيوب القافية و هي تُخِلُّ موسيقى الكلام و تسبب الاضطراب في النغم .

1- الإقواء :لغةً :مِنْ قوَّةِ الحَبْلِ أي كأنه نقصُ قوَّة مِنْ قواها (لسان العرب ، مادة قَوَى) و اصطلاحاً :و هو اختلاف حركة الروىّ‏ ،و قيل :الإقواء هو اختلاف إعراب القوافي ، أي بعضه مرفوع و بعضه مجرور أو منصوب و قيل أيضاً : الإقواء :هو اختلاف الروى بكسر و ضم . و الإصراف :هو اختلاف حركة الروى بفتح و ضم أو (بفتح و كسر) لا يَخرجُ منه إلا بعد وقوعه في خطأ إعرابي آخر. ففي البيت السالف يجب على الشاعر أن يأتي بالنون المكسورة مراعاة لسائر القوافي في الأبيات السالفة و اللاحقة و ذلك كما يلي :
هذه الأبيات لجرير بن عطية بن الخطفي ، التي خاطب بها فضالة العُرَنِي ( هامش شرح ابن عقيل ،ج 1 ، ص67 )

عَرِينٌ مِنْ عُرَيْنَةَ ، لَيْسَ مِنَّا.. بَرِئْتُ إلَى عُرَيْنَةَ مِنْ عَرِينِ
عَرَفْنَا جَعْفَراً و بَنِي أَبِيهِ.... و أَنْكَرْنَا زَعَانِفَ آخَرِينِ

والأبيات الأخرى لسحيم بن وثيل الرياحي من قصيدة له يمدح بها نفسه و يعرض فيها بالأبيرد الرياحي ابن عمه: (هامش شرح ابن عقيل ،ج 1 ، ص68)

أَكُلَّ الدَّهرِ حِلٌّ و ارْتِحالٌ.... أما يَبْقَى عَلَيَّ و لا يَقِينِي
و ماذا تَبْتَغِي الشعراءُ مِنِّي.... و قَدْ جَاوَزْتُ حَدَّ الأرْبَعِينِ
عَذَرْتُ البُزْلَ إنْ هِيَ خاطَرَتْنِي.... فَمَا بَالِي و بَالَ ابْنِي لَبُونِ
أَخُو خَمْسِينَ مُجْتَمِعٌ أُشَدِّي.... و نَجَّذَنِي مُدَاوَرَةُ الشُّؤُونِ

و هكذا في التثية قال ابن مالك(نفس المصدر ، ج 1 ،ص 70 ) : و ظاهر كلام المصنف ؛ أن فتح النون فى التثنية ككسر نون الجمع في القلة و ليس كذلك ، بل كسْرُها فى الجمع شاذ و فتحها فى التثنية لغة ، كما قَدَّمْنا ،و هل يختص الفتح بالياء أو يكون فيها و فى الالف ؟ قولانِ ؛ و ظاهر كلام المصنف الثاني . و من الفتح مع الالف قول الشاعر :

أَعْرِفُ مِنْهَا الجِيدَ وَالْعَيْنَانَا.... وَ مِنْخَرَيْنِ أَشْبَهَا ظَبْيَانَا
و قد قيل إنه مصنوع ؛ فلا يُحْتَجُّ به "... (انتهى كلام ابن عقيل ( .

الشرح و النقد
الأبيات لرجل من ضَبَّة كما قال المُفَضَّل وقيل : الأبيات لرؤبة (من الرجز): (هامش شرح ابن عقيل ،ج 1 ،ص 71 )
إنَّ لِسَلْمَى عِنْدَنا دِيوَانَا.. يُخْزِي فُلاناً و ابْنَهُ فُلانَا
كَانَتْ عَجُوزاً عُمِّرَتْ زَمَانَا و هِيَ تَرَى سَيِّئَهَا إحْسَانَا
أَعْرِفُ منها الجِيدَ وَ العَينَانَا.. وَ منْخرَيْنِ أَشْبَهَا ظَبيَانَا

قال السيوطي ؛ في شرح البيتينِ اللذيْنِ ذَكَرْناهما سالفاً » و نونُ ما ثُنِّيَ و المُلْحَقِ بِه ...« لابن مالك : (شرح السيوطي ، صادق الشيرازي ،ج1 ، ص49 )" ...و جاءَ ضَمُّها ( أي ضَمُّ نون المثنی) ..
و كقول الشاعر : (شرح السيوطي ، ج1 ، ص 49)


يا أَبَتَا أَرَّقَنِي القِذَّانُ.... وَ النَّومُ لا تَأْلَفُهُ العَيْنَانُ
(القِذَّان :جمع (غذو) ، البَرْغُوث ؛ و المعنى : يا أبي أسهرني البراغيثُ فالعينان أصبحا لا تألفانِ النوم .{ الشرح و النقد :
الشعر لأبي علي البغدادي و قيل : أنشدها تغلب لرؤبة بن العجاج بن شدقم الباهلي (الفوائد فى توضيح الشواهد ، ص ({ . 17 جامع الشواهد ، ج 3 ص{ . 312

قَالَتْ لَهُ و قَولُها أَحْزَانُ....ذِرْوَةُ و القولُ لَهُ بَيَانُ
يا أَبَتَا أَرَّقَنِي القِذَّانُ.... وَ النَّومُ لا تَأْلَفُهُ العَيْنَانُ
مِنْ عَضِّ بَرْغُوثٌ لَهُ أَسْنَانُ.. و لِلْخُمُوشِ فوقَنا تَطْنَانُ

هذا و قال ابن مالك :

و قَبْلَ "يا" النَّفْسِ مَعَ الفِعْلِ الْتُزِمْ.. نون وقاية و "لَيْسِي" قد نُظِمْ

إذا اتَّصَلَ بِالفعلِ ياء المتكلم لَحِقَتْهُ لُزُوماً نونٌ تُسَمَّى نونَ الوقاية ، و سميت بذلك لأنها تقي الفعل من الكسر و ذلك نحو » أكرمَنِي ،و يُكْرِمُنِي ،و أَكْرِمْنِي « و قد جاء حذفها مع »ليس « شذوذاً ، كما قال الشاعر :

عددتُ قومي كعديدِ الطيسِ.... إذْ ذَهَبَ القومُ الكرامُ لَيْسِي

تحليل البيت:
هذا البيت نسبه جماعة من العلماء و منهم ابن منظور في لسان العرب مادة ) طيس ( لرؤبة بن العجاج و ليس موجوداً في ديوانه و لكنه موجود في زيادات الديوان .

عَدَدْتُ قَوْمِي كَعَدِيدِ الطَّيْسِ.... إذْ ذَهَبَ القومُ الكرام لَيْسِي

عَهْدِي بِقَومِي كَعِدِيدِ الطَّيْسِ.... و يقول ابن عقيل أيضاً :

(شرح ابن عقيل ، ج1 ، ص114) ثُمَّ ذَكَر (ابن مالك) أنَّ « مِنْ و عَنْ» تلزمهما نون الوقاية ، فتقول منِّي و عنِّي بالتشديد و منهم من يحذف النون ،فيقول : «مِنِي و عَنِي» بالتخفيف و هو شاذّ ، قال الشاعر :
أَيُّهَا السَّائِلُ عَنْهُمْ وَ عَنِي.... لَسْتُ مِنْ قَيْسٍ و لا قَيْسُ مِنْي

تحليله :
هذا البيت كما أشار اليه محمد محيي الدين الذي شرح و حقَّقَ شرحَ ابن عقيل من الشواهد المجهول قائلها، بل قال ابن الناظم أي ابن ابن مالك أنه من وضع النحويين .مهما يكن لو قَبِلْنا هذا البيتَ صحيحاً ففيه ضرورة شعرية، و لا يرتبط هذا بالاستعمال الشائع لهاتين الكلمتين لان البيت من البحر الرمل المحذوف و إذا قلنا «مِنِّي و عَنِّي» لاختلَّ الوزن كما ياتى :

أَيُّهَا السَّائِلُ عَنْهُمْ وَ عَنِي......لَسْتُ مِنْ قَيْسٍ و لا قَيْسُ مِنْي
فَاعِلاتُنْ فَعِلاتُنْ فَعِلا (فَعِلُنْ(.... فَاعِلاتُنْ فَاعِلاتُنْ فَعِلا (فَعِلُنْ(

ملخص الكلام
يتعرض الشعر خلافاً للنثر لكثير من التحول و التغير .و لذلك اعتمادنا على بيت شعري لإثبات قاعدة شاذة من القواعد النحوية أمر غير مقبول