دراسة حديثة تؤكد أن ” لغة الضاد ” دعامة رئيسية من دعائم الوجود العربي وتدعو إلى إعادة الحياة الحقيقية للغة العربية وتحذّر من فوضى ” التغريب” وتشيد بتجربة بن يهودا في إحياء العبرية بعد مواتها.
*************
القاهرة – “رأي اليوم” – محمود القيعي:
أكد الناقد الكبير د. أحمد درويش الأستاذ بكلية دار العلوم جامعة القاهرة أن التراث العريق للغة العربية يعدّ دعامة رئيسية من دعائم الوجود العربي ذاته ، ومعه الوجود الحضاري الاسلامي المشرّف للعرب أيا كانت عقائدهم أو نزعاتهم الفكرية، بل الوجود الحضاري الإنساني بعامة ، مشيرا الى أن هذا التراث العريق هو الذي شكّل الجذور القوية التي تحافظ على شجرة الهوية القومية من الاقتلاع ، رغم ضراوة الريح التي تهب عليها من كل جانب طوال فترات التاريخ المتعاقبة والتي اتسمت – بحسب درويش- بالتدبير والتخطيط طوال العصر الاستعماري، واستهدفت بوضوح اللغة باعتبارها مقوما رئيسيا للوجود .
وحذّر درويش في كتابه الصادر أخيرا بعنوان ” لغتنا العربية وهويتنا القومية ” ( كتاب الجمهورية ) من الانحسار الشديد الذي تتعرض له العربية ، وهو الانحسار الذي من شأنه أن يوجد التصدع في البناء العريق لتراث العربية، ومن شأنه – بحسب درويش – أن يكون مقدّمة لامتداد التقليص والتدمير الى الساحة الداخلية للغة ، وهو ما تكفلت به موجات التخبط الجديد في ثقافة ما بعد الاستعمار في عصر العولمة .
ودعا درويش الى العمل على إعادة الحياة الحقيقية للغة العربية داخل مجالها القومي من خلال تفعيلها الحقيقي في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والاعلامية ، مشيرا الى أن تلك المجالات تنعش اللغة ، وتعمل على زيادة كفاءة رئتيها في تصفية الهواء وانعكاس مردوده على الدم نقاء وجريانا ، وعلى الجسد صحة وانتعاشا ، ومؤكدا أن إصلاح طرائق تعليم اللغة نحوا وصرفا وبلاغة وإملاء مدخل أولي لإعادة الحياة للغة في المجالات المشار اليها .
وانتقد درويش غياب السياسة القومية اللغوية، مشيرا الى أن غياب تلك السياسة أدى الى استشراء فوضى التغريب على كل المستويات ، بدءا من تصريحات وخطب المسئولين في المحافل الاقليمية والدولية والتي تجيء في كثير من الأحيان بلغات أجنبية على عكس الأعراف الدبلوماسية السائدة ، والتي يحرص من خلالها كل مسئول على الحديث بلغة قومه، فلا نجد دبلوماسيا إسرائيليا يصرّح بغير العبرية ، ولا إيرانيا يتحدث بغير الفارسية ، وتجيء خطب الصينيين والروس بلغاتهم الأصلية .
وقال درويش إن المسئئولين العرب هم أكثر الناس تطوعا بالتخلي عن حقهم وحق لغتهم عليهم في هذا المجال .
وتابع درويش :
” وتبلغ الفوضى مداها في عالم التجارة والاقتصاد والسياحة وعالم الأزياء والمأكولات والمشروبات ، ويكفي أن ينظر الانسان الى أسماء محلات بيع المأكولات والمشروبات والملابس ، ليبدو له وكأن العربية عاجزة عن أن تجد اسما لهذا النوع من النشاط ، مع أن اللغات الأوروبية استعارت منها في الأصل اسم المكان الذي يمارس فيه هذا النشاط ، فكلمة Magazine في الفرنسية مأخوذة من كلمة ” مخزن ” العربية وهي شديدة الشيوع في الفرنسية المعاصرة ، أما نحن فقد فضلنا كلمات أخرى مثل ” سوبر ماركت ” و ” مول” و ” كوفي شوب” و ” شوبنج سسنتر” وغيرها من المصطلحات الوافدة، إضافة الى آلاف الأسماء الأجنبية التي تستخدم دون وعي ودون حاجة ” .
وذكّر درويش بفكرة أليعازر بن يهودا ” لا حياة لأمة بدون لغة ” والتي أحيا بها اللغة العبرية بعد موات ، فأصبحت لغة شديدة الحيوية تدرّس بها كل العلوم الحديثة في الكيمياء والفيزياء والصيدلة والطب والهندسة والاحصاء ، فضلا عن العلوم الانسانية بكل فروعها ، وتعقد بها كل المؤتمرات .
واختتم درويش كتابه قائلا :
” إن المحافظة على اللغة والتمسك بها لا تتعارض أبدا مع فتح باب الحوار والنقد على مصراعيه، بشرط أن يكون قائما على أسس علمية ، من شأنها أن تهب اللغة مزيدا من التماسك وتلافي نقاط الضعف والاستجابة لمتطلبات الحياة ، وبهذا كله نستطيع أن نجمع الى عراقة التراث وحيوية التطور ، الأمل في المستقبل الواعد للغة والشخصية القومية معا