تحميل - مجمع اللغة العربية الأردني
http://www.majma.org.jo/majma/res/da.../.../m73_3.doc

توظيف اللسانيات الحاسوبية
في خدمة الدراسات اللغوية العربية
" جهودٌ ونتائج "
د. عبدالرحمن بن حسن العارف
جامعة أم القرى
مقدمـة:
تعد دراسة اللغة العربية باستخدام اللسانيات الحاسوبية (المعلوماتية) من أحدث الاتجاهات اللغوية في اللسانيات العربية المعاصرة .
ويتناول هذا البحث جهود الباحثين المعاصرين العرب – بصفة عامة، واللغويين – بوجه خاص – في تطويع تقنيات الحاسوب لخدمة الدراسات اللغوية العربية، أصواتاً، وصرفاً، ونحواً، ومعجماً، ودلالة، ومدى إفادتها منه في معالجة قضاياها المختلفة .
وكما هو معروف فإن العلاقة بين الحاسوب واللغة العربية تقوم على محورين أساسيين : أولهما المحور النظري، والآخر التطبيقي .
وفي ضوء هذا يستعرض الباحث نشأة الاتجاه الحاسوبي في دراسة علوم اللغة العربية، والظروف والملابسات التي أسهمت في تكوينه بوساطة الجهود الفردية، أو الجهود المؤسساتية والرسمية، والمشكلات التي واجهته في ضوء خصوصية اللغة العربية، والبرمجيات، والحاسوبات، وما قدم من حلول لمعالجة تلك المشكلات .
كما يتناول البحث نتائج استثمار هذا الاتجاه في مجال تعليم العربية لأبنائها، وللناطقين بغيرها من اللغات، وفي مجال الترجمة الآلية، والتعريب، والإحصاء اللغوي، والمعالجة الآلية للأصوات، والصرف، والنحو، والمعجم والدلالة. ويخلُص إلى تحديد ملامح هذا الاتجاه الحديث في اللسانيات العربية المعاصرة، وأثره في تطوير اللغة العربية وتنميتها في العصر الحديث .
تمَّ اختراع جهاز الحاسوب – كما تذكر المصادر – في أَواخر النصف الأول من القرن المنصرم (القرن العشرين)، وتحديداً عام 1948م( )، وأصبح منذ ذلك التاريخ متاحاً للإفادة منه في جميع مجالات الحياة، ومختلف العلوم والمعارف الإنسانية.
وتطورت تقنية هذا الجهاز عبر السنوات تطوراً مذهلاً، منذ ظهور الجيل الأول من الحواسيب الآلية سنة 1951م، وحتى ظهور الجيل الخامس منه سنة 1991م .
أما بدء استخدام الحاسوب في دراسة اللغة على مستوى العالم، فمن الصعوبة بمكان وضع تأريخ زمني محدد له ؛ وذلك لأنه لم يحدث دفعة واحدة، بل تمَّ نتيجةً لمحاولات متفرقة، وعلى مراحل زمنية مختلفة، وفي دول متعددة.
فعلى المستوى الأمريكي يذكر الدكتور مايكل زار تشناك (M.Zarechnak) أستاذ علم الدلالة ومنظم البرمجة اللسانية الآلية بجامعة جورج تاون، أن العمل في اللسانيات الآلية بدأ في قسم اللسانيات بجامعة جورج تاون سنة 1954م، وذلك في حقل الترجمة الآلية من اللغات الأخرى إلى الإنجليزية( ). وهذا يعني أن بداية الخمسينيات من القرن الماضي شهدت ولادة المعالجة الآلية للغات البشرية.
أما على المستوى الأوروبي فتذكر المصادر أن أقدم محاولة لدراسة اللغة بوساطة الحاسوب تمَّت سنة 1961م، بجامعة قوتبرغ (Goteborg) السويدية، لكن هذه المحاولة ظلت ذات طابع محلي، ولم ترق إلى مستوى الذيوع والانتشار والتأثير في محيطها الأوروبي .
والبداية الفعلية لهذا الاتجاه كانت – كما تقر المصادر – لمركز التحليل الآلي للغة بمدينة (قالارات Gallarat) بإيطاليا، الذي كان يشرف عليه روبارتوبوزا (Roberto Busa)، حيث وضع سنة 1962م الدعائم الأولى لاستخدام الحاسوب في دراسة اللغة .
ثم توالى بعد ذلك افتتاح المراكز الحاسوبية للغة في أوروبا والاتحاد السوفيتيي، كما هي الحال في المركز الحسابي لدراسة الأدب واللغة في جامعة كامبردج سنة 1964م، والمركز المعجمي بمجمع دالاكروسكا (Dellacrusca) بإيطاليا سنة 1964م، ومعهد الألسنية التابع لمجمع العلوم بكيف في أوكرانيا (الاتحاد السوفييتي سابقاً) سنة 1964م – أيضاً-( ) .
أما بالنسبة للعلوم النظرية عند العرب في العصر الحاضر فقد كانت العلوم الشرعية من أسبق العلوم الإنسانية استخداماً لتقنية الحاسبات الإلكترونية ونظم المعلومات، حيث بُدئ بالعمل بها والإفادة منها في السبعينيات من القرن الماضي( ). وظلت علوم اللغة العربية في منأى عن الانتفاع بها بعض الوقت، حتى قيض الله لها من رأى أنه يمكن لهذه العلوم أن تفيد من الحاسوب فائدة كبرى .
وتبدأ قصة الاتصال العلمي بين الحاسوب والبحث اللغوي العربي – كما يذكر الدكتور إبراهيم أنيس (1906-1978م) – حينما فاتحه الدكتور (الطبيب) محمد كامل حسين (1901-1977م) متسائلاً عن إمكانية الاستفادة من الكمبيوتر – (الحسَّابة الآلية) كما يحب الدكتور أنيس أن يطلق عليه – في البحوث اللغوية، فصادفت هذه الفكرة في نفسه قبولاً واستحساناً، خاصة أنها كانت تداعب خياله مُذْ نما إلى سمعه المجالات المتوافرة لتطبيقه في البحث العلمي .
ويضيف الدكتور أنيس بأنه انتهز فرصة زيارته لجامعة الكويت سنة 1971م للعمل بها أُستاذاً زائراً، وهناك التقى بالدكتور علي حلمي موسى، أستاذ الفيزياء النظرية في جامعة الكويت، وطرح عليه فكرة الاستعانة بالحاسوب في إحصاءات الحروف الأصلية لمواد اللغة العربية، بُغْية الوقوف على نسج الكلمة العربية. وقد رحب بهذه الفكرة واستحسنها، وبدأ بالتخطيط لها وتنفيذها في النصف الأول من عام 1971م، وكان من ثمرة ذلك صدور الدراسة الإحصائية للجذور الثلاثية وغير الثلاثية لمعجم الصحاح، للجوهري (324هـ)( ) .
أما خطوات العمل في هذا الإحصاء فتوزعت على ثلاث مراحل : الأولى إدخال المواد اللغوية في ذاكرة الكمبيوتر، والثانية وضع برنامج له بإحدى لغات الكمبيوتر، والثالثة التنفيذ الفعلي لهذا البرنامج( ) .
وجاءت نتائج هذه الدراسة في صورة جداول إحصائية لجذور اللغة، وحروفها، وتتابع أصواتها، وخصائص حروفها، مقرونةً بدراسة تحليلية موجزة عن التفسير اللغوي لما ورد بتلك الجداول( ) .
واستقبل الباحثون والعلماء هذا العمل العلمي بقبول حسن، رغم وجود فئة حاولت أن تُشَكِّك وتُهَوِّن من جدوى هذه الدراسة، وفائدتها على الدرس اللغوي( ) .
ومما لاشك فيه أن اللغة العربية بعلومها المختلفة، كالأصوات، والبلاغة، والعروض والقافية، أفادت أيما فائدة من نتائج هذه الإحصائيات الدقيقة.
وتبع ذلك صدور دراسة ثانية لإحصاء جذور معجم لسان العرب لابن منظور (711هـ)، وكان هذا عام 1972م، ودراسة ثالثة لإحصاء جذور معجم تاج العروس للزُّبيدي (1205هـ)، واشترك في هذا العمل الأخير الدكتور عبد الصبور شاهين، وكان هذا عام 1973م .
وقد صدرت هذه الأعمال جميعها عن جامعة الكويت، وكانت بحق ابتكاراً جديداً لم يسبق إليه من قبل، بل هي المرة الأولى في العالم العربي التي تجري فيها هذه الإحصائيات على أسس علمية حديثة ودقيقة .
كما تَمَّ – ربما لأول مرة أيضاً – تعاون الفيزيائيين واللغويين حول إحصاء كلمات اللغة العربية الواردة في أشهر المعاجم اللغوية، وتحليل ما نتج عن ذلك من جداول تحليلاً لغوياً قوامه استخراج مادة اللغة (جذورها)، سواء كانت ثلاثية أو رباعية أو خماسية، وتردد الحروف، وتتابعها، ومقارنة نتائج هذه المعاجم الثلاثة بعضها ببعض( ) .
ويذكر الدكتور علي حلمي موسى أنه بدأ عام 1974م بالبحث في ألفاظ القرآن الكريم بقصد حصرها، ومن ثمَّ تحليلها ومقارنتها بألفاظ معجم الصحاح، كما أنه أخذ بالبحث عن دراسة العلاقة بين الحروف والحركات في القرآن الكريم، ومقارنة السُّور المكية بالسُّور المدنية، مستعيناً في ذلك بالآلات الحاسبة الإلكترونية، ومشيراً في هذا الصدد إلى أنه قَدَّم أجزاء من هذه البحوث في مؤتمرات علمية عالمية( ) .
ولعلي لا أبالغ في القول بأن هذا التوجُّه في الفكر العربي المعاصر قد فتح الباب واسعاً للباحثين في الدراسات اللغوية والأدبية للولوج من خلاله إلى عالم الكمبيوتر، وتسخيره لخدمة البحث اللغوي والأدبي.
وأقرب مثال لهذا ما قامت به الباحثة -آنذاك- وفاء محمد كامل في رسالتها للماجستير عن كعب بن زهير بن أبي سلمى – دراسة لغوية، من الاستعانة بالحاسوب في دراسة شعر هذا الشاعر، وذلك للمرة الأولى – كما يذكر الدكتور حسين نصار – في الدراسات اللغوية في مصر( ) .
وهكذا كان حقل الإحصاء اللغوي هو الميدان الأول لتطبيق اللسانيات الحاسوبية على اللغة العربية .
لقد كانت هذه الإرهاصات بداية لظهور فرع جديد من فروع علم اللغة، يطلق عليه (علم اللغة الحسابي) أو (اللسانيات الحاسوبية) Computational Lingustics أو (اللسانيات الإعلامية) .
وإذا أردنا تعريف هذا العلم بشكل مختصر قلنا إنه العلم الذي يبحث »في اللغة البشرية كأداة طيِّعة لمعالجتها في الآلة (الحاسبات الإلكترونية = الكمبيوتر)، وتتألف مبادئ هذا العلم من اللسانيات العامة بجميع مستوياتها التحليلية : الصوتية، والنحوية، والدلالية، ومن علم الحاسبات الإلكترونية (الكمبيوتر)، ومن علم الذكاء الاصطناعي، وعلم المنطق، ثم علم الرياضيات » ( ) .
وكانت البداية الحقيقية لهذا العلم لدى الغرب قد جاءت بعد بزوغ فجر النظرية التوليدية التحويلية، حيث قامت بتطبيق الأسس والمعادلات الرياضية على التحليل اللغوي، ومن ثَمَّ صياغة اللغة صياغة رياضية من أجل برمجتها في الحاسوب، وذلك بغرض استنباط قواعد مقننة ودقيقة . وإن كان هذا لا يمنع من القول إن المدرسة البنيوية قد مهدت الطريق أمام العلماء لربط الدراسات اللغوية بالحاسوب، لكنها لم تستطع بعد ذلك تطوير أفكارها لتساير ذلك المدّ التكنولوجي المتنامي .
وتقوم اللسانيات الحاسوبية على جانبين رئيسين هما : الجانب النظري، والجانب التطبيقي. فأما الجانب الأول (النظري) فيبحث «في الإطار النظري العميق الذي به يمكننا أن نفترض كيف يعمل الدماغ الإلكتروني لحل المشكلات اللغوية»( )، وأما الجانب الآخر (التطبيقي) فهو يُعنَى « بالناتج العملي لنمذجة الاستعمال الإنساني للغة... وإنتاج برامج ذات معرفة باللغة الإنسانية » ( ) .
والواقع أن جهود العلماء العرب المعاصرين والمؤسسات العلمية في هذه المجال يمكن نظم عقدها في أربعة صور: الأولى تتمثل في مؤلفات خُصِّصت للعربية والحاسوب، أو الحاسوب والعربية، وجاءت الثانية على هيئة مقالات وبحوث نشرت في المجلات والدوريات العلمية، أو ضمن أعمال المؤتمرات، ووقائع الندوات والملتقيات العلمية، أما الثالثة فكانت خاصة بالبرامج والنظم التي وضعت لحوسبة العربية، أو لعوربة الحاسوب، سواء ما كان منها فردياً محضاً، أو نتاجاً مشتركاً، أو عملاً تجارياً عاماً .وأما الصورة الرابعة فتمثلت في إنشاء بعض الكليات الجامعية قسماً خاصاً لعلم اللغة الحاسوبي، كما هي الحال في جامعة الأمير سلطان الأهلية بالرياض (المملكة العربية السعودية). وسوف نعرض بالتفصيل لكل ذلك ما أمكننا، في إطار الهدف الموضوع والخطة المرسومة لهذه الدراسة .
وإذا أردنا عرض مراحل التطور لعلم اللغة الحاسوبي في الدراسات العربية المعاصرة أمكن القول بأن كتاب الدكتور نبيل علي(*) (اللغة العربية والحاسوب) يُعَدُّ أول مؤلَّف يتناول موضوع اللسانيات الحاسوبية مطبقةً على أنظمة اللغة العربية، صوتاً، وصرفاً، ونحواً، ومعجماً، مع المعالجة الآلية لهذه النظم اللغوية جميعها .
وكان تأريخ صدوره لأول مرة سنة 1988م( ). وقد حالف التوفيق المؤلف في كثير من القضايا المتصلة بالحاسوب واللغة، وذلك حينما انطلق في عمله هذا من وضع دراسات تقابلية بين العربية والإنجليزية شاملة لكل النظم اللغوية، بالنظر إلى أن الإنجليزية هي اللغة الأم لتقنيات نظم الحاسوب والمعلومات، وهذا ما نتج عنه معرفة أوجه الاختلاف والاتفاق بين اللغتين، وكان هذا النهج بمثابة الأرض الصُّلْبة والقاعدة المتينة التي هيأت للمؤلِّف منهجية وموضوعية، ومكَّنته من الإسهام الإيجابي في جهود تعريب الحاسوب من جهة، والمعالجة الآلية للغة العربية من جهة أخرى .
إن هذا الكتاب يمثل – في نظري – حجر الزاوية في مسيرة البحث اللغوي العربي في اللسانيات الحاسوبية، بل إنه كما وصفه الدكتور نهاد الموسى – بحق – «خطوة واسعة واثقة، تنتظم مشروعاً مستوعباً لتأسيس اللسانيات الحاسوبية في العربية، على أساس نظري وتطبيقي في آن واحد معاً»( ) .
صحيح أنه لم يستوعب جميع قضايا اللغة من باستعمال الحاسوب، إلا أن هذا أمر متوقع فيمن يفتتح التصنيف، أو يرد الطريق لأول مرة في أي فن غالبا .
وبعد نشر هذا الكتاب بسنوات ثمان – أي سنة 1996م – صدر كتاب الدكتور عبد ذياب العجيلي (الحاسوب واللغة العربية)( )، وهو – كما يقول الدكتور نهاد الموسى - : «خطوة جزئية إيجابية نحو معالجة مسائل متنوعة من العربية بلغة برولوج Prolog .وهو يمثل جهداً حميداً في هذا الاتجاه البيني (اللسانيات العربية الحاسوبية)»( ) .
وآخر هذه المؤلفات في اللسانيات الحاسوبية – فيما أعلم – كتاب الدكتور نهاد الموسى (العربية – نحو توصيف جديد في ضوء اللسانيات الحاسوبية)، الذي صدر سنة 2000م( ) .
ويُعَدُّ هذا الكتاب أول مؤلَّف في هذا العلم اللغوي الحديث يصدر عن متخصص في اللغة العربية وعلومها – حسب علمي –، ولذا فهو يمثل فيما أرى نقلةً نوعية في توظيف اللسانيات الحاسوبية لخدمة علوم اللسانيات العربية.
والكتاب – كما يذكر مؤلفه – «محاولة في الانتقال من وصف العربية إلى توصيفها، وذلك في ضوء الأطروحة العامة للسانيات الحاسوبية»( ) .
وقد اشتمل الكتاب على رؤى حاسوبية حاول المؤلف إسقاطها على أنظمة العربية، وخاصة النحو (الإعراب)، والصرف (البنية)، والمعجم، إضافة إلى التصويب اللغوي (الأخطاء النحوية، والصرفية، والإملائية) .
إن هذه الجهود التي تمت ضمن هذا الإطار كانت – كما يلاحظ – فردية الطابع، لكن ذلك لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما أصبحت متعددة الأطراف، بعد أن احتضنتها المراكز والمعاهد التقنية، والجمعيات الحاسوبية في الوطن العربي وخارجه، والمؤسسات والشركات التجارية المحلية والعالمية، وذلك عقب حدوث ثورة المعلوماتية Infomatization) )، والتفجر المعرفي في عالم اليوم، وشعور الجميع أفراداً وجماعات بأنهم أمام تحدٍّ حضاري كبير، وإيمانهم بضرورة نقل هذا الصراع العلمي الثقافي – إن صح التعبير – إلى حوار منهجي وتكامل معرفي، يؤدي في نهاية المطاف إلى ردم الهوَّة، أو تقليص مسافة الفجوة – على أقل تقدير – بين الغرب والشرق العربي، وذلك ما سينتج عنه تصحيح لتلك المفاهيم الخاطئة، والتصورات المغرقة في التشاؤم، عن العلاقة بين اللغة العربية والحاسوب، ومن ثم بلورة صياغة لغوية تقنية لاستخدام الحاسوب وتوظيفه في خدمة علوم العربية .
أما البحوث والمقالات الخاصة باللسانيات الحاسوبية، فمنها ما نشر في مجلات علمية، ومنها ما أُلقي أو قُدِّم في الندوات والمؤتمرات التي خُصِّصت أصلاً للغويات الحاسوبية، أو اللسانيات التطبيقية، أو لتكنولوجيا الحاسوب ومجالات استخدامه في العلوم الإنسانية، ثم نشرت هذه البحوث ضمن أعمال تلك المؤتمرات والندوات( ) .
وتلك البحوث من الكثرة بمكان، بحيث يصعب – بل يستحيل – حصرها في بحث كهذا، وقد كفانا شيئاً من مؤونة ذلك الدكتور نهاد الموسى ؛ إذ أورد في أدبيات كتابه السابق ذكره طائفة من تلك الأعمال العلمية( )، وكان عمله في ذلك أشبه بكتابة تقارير علمية، ومراجعات نقدية، لما قُدِّم في تلك المؤتمرات والندوات العلمية من أبحاث أو ورقات عمل .
والجدير ذكره في هذا المقام أن هذه البحوث والمقالات قد أضحت تمثل تياراً واضحاً في الجهود اللسانية الحاسوبية، وهذا ما جعل كلاًّ من الدكتور وليد العناتي وزميله الدكتور خالد الجبر، من جامعة البترا الأهلية (الأردن)، يقومان بوضع دليل بيبليوغرافي لها أسمياه (دليل الباحث إلى اللسانيات الحاسوبية العربية)( )، حاولا فيه أن يستقصيا جميع ما وقفا عليه من أعمال علمية تنتظم في هذا الميدان. وبلا شك فإن هذا الكتاب سَيَسُدُّ – بعد صدوره إن شاء الله – ثغرة واضحة في المكتبة اللغوية بعامة، واللسانيات الحاسوبية بخاصة.
وقبل أن أبدأ الحديث عن الصورة الثانية من صور جهود العرب المعاصرين في ميدان اللسانيات الحاسوبية، يجدر بي أن أثبت حقيقة تأريخية، وهي أن بحوث الدكتور إبراهيم أنيس التي كتبها بآخرة من العمر، تُعَدُّ – فيما أعلم – من أوائل الأعمال التي وجهت الأنظار إلى الاستعانة بتقنية الحاسوب، وتوظيفها لخدمة البحث اللغوي( ). ليس هذا فحسب، بل إنه (يرحمه الله) دلف بنفسه إلى هذا الميدان واستثمر نتائج تلك الجداول الإحصائية اللغوية التي كان يخرجها له الكمبيوتر الموجود بمعهد الإحصاء -آنذاك - جامعة القاهرة لصالح تفسير إحدى الظواهر اللغوية، وهي ظاهرة القلب المكاني( )، وهذه سابقة علمية في مجال اللغة تُحسب للدكتور أنيس، وتُذكر له في مضمار الحاسوب واللغة، أو اللسانيات الحاسوبية العربية .
وباستعراض سريع لتلك البحوث نجد أنها كُتبت بالعربية، والإنجليزية – أيضاً –، وجاءت عناوينها شاملة للمستويات اللغوية كافَّة، أصواتاً، وتراكيبَ، وبنيةً، ودلالة، ومعجماً، ولبعض قضايا اللغة من المنظور الحاسوبي، كالترجمة الآلية، وبنوك المصطلحات، وتعليم اللغات، والذكاء الاصطناعي .
أما أصحابها فنجد أن جُلَّهم من اللغويين الأكثر حضوراً وفاعليةً على الساحة اللغوية، من أمثال الدكتور محمد الحناش (المغرب)، والدكتور محمود إسماعيل صيني (السعودية)، والأستاذ أحمد الأخضر غزال (المغرب)، والدكتور عبد القادر الفاسي الفهري (المغرب)، والدكتور مازن الوعر (سورية)، والدكتور محمود فهمي حجازي (مصر)، والدكتور عبد الرحمن الحاج صالح (الجزائر)، والدكتور سالم الغزالي (تونس)، والدكتور داود عبده (الأردن)، وبعضهم من المتخصصين في الحاسوب أو الهندسة الحاسوبية، كالدكتور يحيى هلال (المغرب)، والدكتور محمد مراياتي (سوريا)، والدكتور نبيل علي (مصر)، والدكتورة نادية حجازي (مصر). ويلاحظ على أغلب هذه البحوث أنها انتقلت باللسانيات الحاسوبية من مجالها النظري أو التنظيري إلى الجانب التطبيقي، وهو تطور إيجابي يُحسب لأصحاب هذا الاتجاه .
ومن المعروف أن الجانب التطبيقي – وهو الجانب الأهم في اللغويات الحاسوبية – يتمثل في تسخير العقل الإلكتروني لحل القضايا اللغوية، وهنا يبرز الدور الرئيس والأثر الفاعل لالتقاء اللغويين والحاسوبيين، والتعاون فيما بينهم، وما يثمر عنه من نتائج تسهم إلى حد كبير في تذليل العقبات وحل المشكلات التي تواجه التحليل الحاسوبي للغة العربية، هذه العقبات والمشكلات بعضها يتصل بطبيعة اللغة العربية، أصواتاً، وبنيةً، وتركيباً، ودلالة، ومعجماً، وبعضها يتعلق بنظام الكتابة العربية، وبعضها يتصل بالمصطلح العلمي التكنولوجي للسانيات العربية، كما أن هناك مشكلات أخرى تتعلق بالبرمجيات، إعداداً، واختياراً للمادة اللغوية العربية (أنموذج لساني عربي)، وتعريباً للبرمجة. وثالث هذه المشاكل يكمن في الجهاز الحاسوبي (الكمبيوتر)، وأنظمة تمثيل المعرفة على الحاسوب باللغة العربية .
وقد بُذلت جهود كبيرة من الأطراف المعنية كافة بهذه القضية للتغلب على تلك الإشكالات، ومن ذلك ما قدمه الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح (الجزائر) من تصور حول وضع أنموذج لساني للعلاج الآلي للغة العربية، وما طرحه الدكتور محمد عبد المنعم حشيش (مصر) من تصميم قاعدة للمعلومات بغرض تغطية الثروة اللفظية للغة العربية، والمشروع الذي تبنته مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية (الرياض) حول إنشاء وتطوير بنك آلي للمصطلحات أطلق عليه (باسم)، وما وضعه الأستاذ أحمد الأخضر غزال (المغرب) من تصميم طريقة تكنولوجية آلية لتعريب الحاسوب، ووضع اللغة العربية في الحاسوبات الإلكترونية وفق هويتها وخصوصية ومارفهما ورسومها، وتعرف اختصاراً بمجموعة (العمم – شع)(*) .
إن معالجة اللغة العربية حاسوبياً أصبحت اليوم أمراً لا حيدة عنه ولا مفرّ منه، وخاصة أن استثمار الدراسة الحاسوبية والمعلوماتية – بصفة عامة – يحقق نتائج كبيرة للغة العربية، في مجال التعريب، والإحصاء اللغوي، والمعالجة الآلية، وتعلم اللغات، والترجمة الآلية، وفي مجال التربية والتعليم .
ففي مجال التعريب، ونعني به هنا تعريب الحاسوب من حيث أنظمته وبرامجه ومصطلحاته، فقد اتجهت جهود التعريب فيه إلى إعداد أنظمة وتصميمها لكي تكون قادرة على العمل باللغة العربية بدلاً من اللغة الإنجليزية، إضافة إلى إصدار المؤلفات الخاصة بعلوم الحاسبات وتقنيتها باللغة العربية، وترجمة ما كان مؤلفاً بغير العربية .
ولعل من أهم الإنجازات في هذا المجال ما قامت به الشركات العربية والأجنبية العاملة في مجال الحاسوبات، كالشركة العالمية للبرامج (صخر)، وشركة (آي. بي. إم )، والجريسي للتقنية، من تطوير الحواسيب الشخصية PC)) باللغة العربية، ووضع معالج النصوص(*) (عربستار 2001) بالعربية أيضاً، وتعريب نظام قواعد المعلومات الخاص بتخزين المعلومات واسترجاعها، وتعريب البرامج اللاتينية...إلخ، علاوة على الهيئات العلمية العربية، كالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الأليكسو)، ومعهد الكويت للأبحاث العلمية، ومعهد الدراسات الإحصائية بجامعة القاهرة، ومعهد العلوم اللسانية والصوتية بالجزائر، ومعهد الدراسات والأبحاث للتعريب بالمغرب...إلخ( ) .
أما مصطلحات الحاسوب – وهي مسألة لا تقل أهمية عن سابقتها – فقد أسهم فيها الأفراد، والمؤسسات، والشركات .وقد طُرحت في هذا المقام اقتراحات عدة من قبل خبراء الحاسوبيات، وكذلك اللغويين( )، وقام عدد من المتخصصين في المدرسة الوطنية للمهندسين بجامعة تونس بتعريب المصطلحات الخاصة بالحاسوبات الصغروية( )، كما قامت بعض المؤسسات العلمية، كمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية (الرياض)، ومعهد الدراسات والأبحاث للتعريب (الرباط)، ومجمع اللغة العربية الأردني، والمعهد القومي للمواصفات والملكية الصناعية بتونس، بإنشاء بنوك للمصطلحات، تهدف إلى توفير المصطلحات المعرَّبة وتوثيقها، وتنميطها وتقييسها وتوحيدها( ) .
والواقع أن موضوع التعريب والمصطلح كان وما زال من أهم القضايا التي تشغل الأمة العربية وحضارتها المعاصرة، ورغم ما بذل من جهود في هذا الإطار فإن النتائج لم تكن على مستوى التقدم التقني الهائل في عصر المعلوماتية والعولمة !!.
أما في مجال الإحصاء اللغوي – وهو كما سبق الميدان الأول لتطبيق استخدام الحاسوب في البحث اللغوي العربي المعاصر – فلا يخفى أن استخدام الإحصاء الرياضي في اللغة يحقق تقييماً كمياً «لبعض الخواص النوعية للغة، كمعدلات استخدام الحروف، والكلمات، والصيغ الصرفية، والموازين الشعرية، وأنواع الأساليب النحوية، أو التوزيع النسبي للأفعال المعتلة والصحيحة، أو للإفراد والتثنية والجمع، أو لحالات الإعراب المختلفة» ( ). كما يحقق توصيفاً كمياً لبعض العلاقات اللغوية، كالعلاقة بين طول جذر الكلمة وعدد مرات تكراره، والعلاقة بين طول الكلمة ومعدل استخدامها داخل النصوص .
ويقوم الإحصاء بتفسير بعض الظواهر اللغوية وتحليلها( ). ليس هذا فحسب، بل هناك «إحصاء جديد يستطيع أن يتعامل مع البنية المعقدة للسياق اللغوي، حتى يكشف لنا عن علاقات الترابط والتماسك بين فقراته وجمله وألفاظه، وتلك التي تربط بين ظاهر العبارات وما تبطنه من معان وإشارات» ( ) .
ومن المشاريع العلمية القيمة في هذا المجال – بالإضافة إلى ما ذكر سابقاً – ما قام به كل من الدكتور يحيى مير علم، والدكتور محمد حسان الطيان والأستاذ مروان البواب (سورية)، تحت إشراف الدكتور محمد مراياتي، من دراسات إحصائية لدوران الحروف في الجذور العربية، وللمعجم العربي، ولدوران الحروف العربية المشكولة، ولحروف اللغة العربية( ). وهناك دراسات إحصائية أخرى صدرت باللغة الإنجليزية في الجامعات الأمريكية والأوروبية لجوانب لغوية متعددة، كالأصوات، والصرف، والنحو للغة العربية( ) .
أما في مجال المعالجة الآلية(*) للغة العربية، فقد شملت الجهود مستويات اللغة كافة، كالمستوى الصوتي، والصرفي، والنحوي، والمعجمي، والدلالي، يضاف إليها الترجمة الآلية، والكتابة العربية .
فالمستوى الصوتي تمت معالجته آلياً بوساطة تحليل طيف الصوت، وتوليد (إنتاج) الكلام، وتخزين الأنماط الصوتية للشخص المتكلم. وتبعاً لهذا تمَّ تصميم أجهزة تخليق الكلام وتحليله، وتوليد الكلام المنطوق آلياً بتحويل النصوص المدخلة في جهاز الحاسوب إلى مقابلها الصوتي، وعلاج عيوب النطق.
وقد أنجزت دراساتٌ عدة في هذا المجال، من بينها دراسة الدكتور منصور الغامدي (السعودية) عن الإدراك الآلي للتضعيف( )، وهي محاولة لكيفية حل مشكلة التفريق بين الأصوات اللغوية الطويلة والقصيرة في اللغة العربية، قد تعين مبرمجي الحاسوب على الإدراك الآلي للأصوات اللغوية. كما تأتي دراسة الدكتور محمد مرياتي (معالجة الكلام – تطبيق على اللغة العربية)( ) ضمن هذا التوجُّه في تمثيل النظام الصوتي للغة العربية آلياً. ويلحق بهذه الدراسات أيضاً ما كتبه الدكتور سالم غزالي عن (المعالجة الآلية للكلام المنطوق، التعرف والتأليف)( ) .
ويوجد ببعض الجامعات العربية، والمعاهد العلمية، والمؤسسات التقنية أقسام خاصة للصوتيات، أو مراكز للسمع والنطق، أو معالجة الكلام، تجري فيها أبحاث صوتية تعتمد في المقام الأول على أجهزة الحاسوب، ويتولى الإشراف عليها أساتذة متخصصون في علم الأصوات، كالدكتور محمد صالح الضالع (جامعة الإسكندرية)، والدكتور سمير استيتية (مدير مركز السمع والنطق بجامعة اليرموك)، والدكتور سالم غزالي (مدير مخبر معالجة الكلام العربي بالمعهد الإقليمي لعلوم الإعلامية والاتصال عن بُعْد I.R.S.I.T. بتونس) والدكتور منصور الغامدي بمركز علوم وتقنية الأصوات بمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، والدكتور محمد صالح بن عمر (معهد بورقيبة للغات الحية بتونس)، والدكتورة تغريد السيد عنبر(*) (كلية الألسن بجامعة عين شمس)، والدكتور سلمان العاني (جامعة انديانا) .
وهناك إنجازات أخرى صدرت باللغة الإنجليزية عن معالجة الكلام العربي آلياً( )، ومع كل ما ذكر من جهود فما زال العمل في هذا المجال ينتظر بذل المزيد من الجهود، لا على مستوى الأفراد بل على مستوى الفريق البحثي المتكامل «نظراً للطبيعة الخاصة لمعالجة الكلام الآلي»( ) .
أما في المستوى الصرفي، فقد تمت المعالجة الآلية له في ضوء أهمية الصرف العربي بالنسبة لنظام اللغة ككل. وقد تناولت هذه المعالجة الآلية بعض جوانب الصرف العربي، كالخاصية الثلاثية للجذور العربية، وأصل الاشتقاق، والأنماط الصرفية، وثنائية الصيغة الصرفية والميزان الصرفي، والإنتاجية الصرفية، والفائض الصرفي، واللبس الصرفي( ) ... إلخ .
وفي هذا الصدد قَدَّم الدكتور نبيل علي إطاراً عاماً لمعالجة الصرف العربي آلياً، وأورد عدة نماذج للتحليل الصرفي الآلي بوجه عام، مبيناً مدى ملائمتها لمطالب الصرف العربي. وتبعاً لهذا قام بعرض نموذج وضعه لمعالجة الكلمات العربية صرفياً في أطوار التشكيل المختلفة، وهو نموذج التحليل بالتركيب، وأطلق عليه اسم (المعالج الصرفي المتعدد الأطوار). ويشتمل هذا النموذج المبتكر على عناصر أربعة هي : المعالج الصرف – نحوي، والمعالج الاشتقاقي، والمعالج الإعرابي، ومعالج التشكيل( ) .
ويذكر صاحب هذا النموذج أنه قام بمعاونة إحدى المتخصصات في اللسانيات الحاسوبية (أمل الشامي) بتطوير هذا المعالج الصرفي على ضوء أصول الصرف العربي وخصائصه المميزة، وعمد بعد ذلك إلى إخضاعه لاختبارٍ قاسٍ في مجالين اثنين هما : تحليل النص القرآني كاملاً، مع إعادة توليده آلياً، ومفردات المعجم الوسيط، وبعد اجتيازه هذا الاختبار بنجاح – كما يقول – تم استخدامه في عدة تطبيقات أساسية، شملت ضغط النصوص، واسترجاعها، واكتشاف الأخطاء الإملائية، وتحليل النصوص صرفياً، وميكنة المعجم العربي، مع دمج هذه التطبيقات في قاعدة للنصوص العربية الكاملة .
وقد أسهمت إدارة البحوث والتطوير بشركة العالمية للبرامج في هذا النموذج التطويري للمعالج الصرفي، وتُعَدُّ موسوعة الحديث الشريف – وهي من إنتاج هذه الشركة – من أهم أنظمة استرجاع النصوص التي استخدمت تقنية التحليل الصرفي( ) .
وليس هذا هو الأُنموذج الأوحد أو المحاولة الأولى لتطوير نظام آلي للتحليل والتركيب الصرفيين، بل هناك نماذج ومحاولات أخرى، قدمها على حدة كل من الدكتور يحيى هلال( )، والدكتوراة نادية حجازي بالاشتراك مع عبد الفتاح الشرقاوي( )، والدكتور مأمون الخطاب بالاشتراك مع الدكتور حسان عبد المنان( ) ... إلخ .
وبطبيعة الحال كانت هناك إشكالات كثيرة واجهت معالجة الصرف العربي آلياً، جُلُّها يندرج تحت طبيعة الصرف العربي( )، وفي مقابل ذلك أمكن التغلب على تلك المصاعب، وإجراء عمليتي التوليد والتحليل الصرفيين الآليين ضمن الإطار العام للمعالجة الآلية للصرف العربي( ) .
وقد أنجز العديد من الدراسات المعالجة للصرف العربي آلياً، كما هو الشأن في النماذج السابقة، وقريباً منه ما قدمه الدكتور نهاد الموسى في كتابه (العربية...)( )، وكذلك دراسة الأستاذ مروان البواب وزملائه عن نظام اشتقاق الكلمة العربية بالحاسوب( ) .
أما المستوى النحوي فتمت معالجته آلياً بوساطة تشخيص أزمة النحو العربي أولاً، ثم إدراك خصائص هذا النحو وتحديد أنسب النماذج النحوية التي تتلاءم مع هذه الخصائص ثانياً، والكشف عن موقع هذا النحو بإزاء النظريات النحوية الحديثة ثالثاً، وخاصة نظرية تشومسكي التوليدية التحويلية. وتبعاً لذلك جاءت معالجة النحو العربي آلياً ذات جانبين: أحدهما تحليلي، والآخر توليدي. فعلى الجانب الأول يقوم المحلل النحوي الآلي بتفكيك الجملة إلى عناصرها الأولية (أي تحليلها إعرابياً)، واستظهار العلاقات النحوية المختلفة .أما على الجانب الآخر فيقوم المولد النحوي بتكوين الجمل على صورتها الأصلية، وبعد ذلك تُجرى عليها عمليات التحويل النحوي المختلفة، كالحذف والإضمار، والتقديم والتأخير( ) ... إلخ .
والجهود في هذا المجال كثيرة على المستويين النظري والتطبيقي، فنجدها – على سبيل المثال لا الحصر – في بحث الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح عن (منطق النحو العربي والعلاج الحاسوبي)( )، وبحث الدكتور نبيل علي عن (الحاسوب والنحو العربي)( )، وهو بحث لا يكاد يخرج عما أورده في كتابه (اللغة العربية والحاسوب) .
ويضاف إلى هذه الأعمال العلمية في ميدان المعالجة الآلية للنحو العربي بحثٌ للدكتور مازن الوعر بعنوان (التوليد الصوتي والنحوي والدلالي لصيغ المبني للمجهول في اللغة العربية – معالجة لسانية حاسوبية)( )، وكذا ما أورده الدكتور نهاد الموسى عن تمثيل النظم، وتمثيل الإعراب، ضمن كتابه (العربية...)( )، كما أقيمت دراسات متعددة للمعالجة الآلية في ترتيب عناصر الجملة العربية باستخدام برامج ذات شبكات موسعة، ومن أبرزها نظام المعمدني، ونظام بن حماد وسعيدي، ومحاولة الدقاشي( ).
ويذكر الدكتور نبيل علي في معرض تناوله للعناصر الأساسية المكونة للمعالج النحوي الآلي متعدد الأطوار للجمل العربية المكتوبة، أنه بصدد تطوير معالج آلي للنحو العربي، يقوم بالمهمة الأساسية للتحليل النحوي الآلي وهي توفير المعطيات اللازمة للتحليل اللغوي الأعمق، التي تتمثل في المصحِّح الآلي للأخطاء النحوية، والتخاطب مع قواعد البيانات باللغة الطبيعية، والترجمة الآلية من وإلى العربية، وتعليم النحو بواسطة الحاسوب، وإعراب الجملة العربية آلياً( ). وهذه – على وجه العموم – هي جملة ما تفيده العربية (النحو) من استخدام المعالج النحوي .
أما المستوى المعجمي فمساحة استفادته من الحاسوب واسعة جداً، وبسبب من هذا ظهر ما يسمى بالمعاجم الحاسوبية أو المعاجم الآلية، بل إنه بدأ يأخذ بالبروز بوصفه علماً مستقلاً، أو فرعاً من فروع علم اللغة الحاسوبي يطلق عليه علم المعجم الحاسوبي (MRD) Machine Readable Dictionary وبظهوره بدأت الصناعة المعجمية تتحول من المعاجم اليدوية أو الورقية إلى المعاجم الآلية أو الإلكترونية .
والمعجم الحاسوبي قطاع عام يضم معاجم لا حصر لها، سواء أكانت هذه المعاجم للناطقين بالعربية، أم معاجم للمصطلحات العلمية، أم معاجم من أنواع خاصة، أم معاجم مفهرسة(*)، أم معاجم نصية... إلخ. ويتميز هذا المعجم بميزات هائلة لا تتوافر في المعاجم التقليدية، كالشمول، والانتظام، والاطراد، والدقة والوضوح، والقابلية للتوسع والتعديل( ) .
ونظراً للقضايا الشائكة التي تحيط بهذا النوع من المعجم، من حيث مستوياته، وحقله المعجمي، ومحتوياته، فقد عقدت له ندوة خاصة نظمتها مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة (المغرب) عام 1995م، وكان عنوانها (التقنيات الحاسوبية في خدمة المصطلح العلمي والمعجم المختص)( ). كما خُصص له جلسة نقاش بعنوان (بناء المعجم حاسوبياً) ضمن ندوة استخدام اللغة العربية في تقنية المعلومات( )، ولا تكاد تخلو ندوة من الندوات أو مؤتمر من المؤتمرات في مجال اللسانيات الحاسوبية من بحوث عن المعاجم الآلية .
ويقف الدكتور محمد الحناش (المغرب) في صدارة اللغويين العرب المعاصرين الذين يولون المعجم الحاسوبي عناية خاصة، وجهداً كبيراً. وقد تمثل هذا في دراساته المتعددة عن بناء المعاجم الآلية في اللغة العربية، والمعجم الإلكتروني، والمعجم التركيبي للغة العربية( ) ...إلخ. وهو صاحب مشروع علمي كبير عمل عليه لسنوات طويلة من البحث اللساني الحاسوبي، تُوِّج بإصداره كتاب (المعجم التركيبي للغة العربية – مقدمات في المعالجة الحاسوبية للغات الطبيعية)( ) .
وأسهم في هذا الإطار نظرياً كل من الدكتور نهاد الموسى، والدكتور أحمد مختار عمر، والدكتور عبد القادر الفاسي الفهري، بما كتبوه من بحوث عن حوسبة المعجم العربي، كما أسهم فيه عملياً الدكتور محمد مراياتي وزملاؤه بوساطة نظام خبير للغة العربية( ) .
ومن المشاريع العلمية ضمن هذا التوجه أيضاً ما قام به معهد اللغة العربية بجامعة الملك سعود بالرياض (السعودية) من إصدار المكنـز Corpus الوجيز (معجم في المترادف والمتوارد)، ومعجم التعبيرات الاصطلاحية، بإشراف – الدكتور محمود إسماعيل صيني( ) .
وهناك جهود أخرى تبذل لميكنة المعجم العربي من قبل المراكز العلمية والمؤسسات التجارية، كما هي الحال في مشروع الشركة العالمية للبرامج (صخر) بالكويت، ومشروع الشركة العالمية لبرامج الحاسوب بالقاهرة عن المكنز الآلي أو قاعدة بيانات المادة المعجمية العربية، ومشروع المركز العلمي لشركة آي.بي.إم بالقاهرة لتطوير قاعدة بيانات معجمية( ) ... إلخ .
وينبغي أن أشير هنا إلى أن استخدام الحاسوب في الصناعة المعجمية، رغم كل تلك الميزات والإيجابيات التي تتحقق للمعجم ومستخدميه، هناك بعض السلبيات التي تنتج عنه جراء ذلك، لعل من أبرزها التكاليف المادية الباهظة التي يتطلبها هذا النوع من المعاجم، وما يقتضيه من مهارات خاصة قد لا تتوافر لكثير من مستخدميه( ) .
على أن ذلك بطبيعة الحال لا يمكن أن يقلل من هذا التوجه المعاصر في حوسبة المعجم العربي، ولا ريب أن صياغته وفق أهداف واضحة، وغايات محددة، ومنهج علمي، ومن ثمَّ توظيفه التوظيف الصحيح، سيحقق للعربية، والمعجمية بوجه خاص ما كانت – وما زالت – تصبو إليه من شمولية، ومرونة، ودقة، ومعاصرة، كما سيحقق لعلمائها وباحثيها ما كانوا يظنون أنه من الأحلام والرؤى، بل المستحيل عينه .
أما المستوى الدلالي فيعد من أعقد الأنظمة اللغوية، وأشدها تعصِّياً على جهاز الحاسوب؛ وذلك عائد إلى أن الدلالة من أقل المستويات اللغوية فيما يخص التباين اللغوي – كما يقول الدكتور نبيل علي( )، كما أنه يشيع فيها عدة ظواهر تُخرجها من واقع الاستخدام اللغوي وحقيقته إلى المجاز، كالاستعارة، والكناية، والتشبيه، وهذا أمر يتطلب تحديد تلك التعابير غير الحقيقية وتصنيفها دلالياً بما يساعد النظام الحاسوبي على تمثلها، ومن ثم معالجتها آلياً .
ويمثِّل المعنى مشكلة كبرى بالنسبة للنظم الآلية، فتعدد المعنى للكلمة الواحدة، وحساسية السياق في تحديد دلالة الكلمة، واختلاف الدلالة باختلاف الثقافات...، كل ذلك يجعل المعالجة الآلية للدلالة تنطوي على مفارقات يصعب بسببها تمثيل هذا المستوى أو توصيفه حاسوبياً، وبسبب من هذا تجاوزت أول دراسة صادرة عن اللسانيات الحاسوبية العربية الحديث عن المعالجة الآلية لعنصر الدلالة في العربية !.
على أن هذا لا يعني أن المعالجة الآلية لجانب الدلالة في اللغة العربية قد أُغفلت تماماً، بل إنه كان لها حضورها ضمن المستويات اللغوية الأخرى، كالمستوى الصوتي، والصرفي، والنحوي، والمعجمي، وضمن قضايا لغوية ذات صلة وثقى بالدلالة، كالترجمة الآلية. وهذا ما نلمسه في الجهود التي بذلت لتغطية هذا الجانب من اللسانيات الحاسوبية، سواءً أَكان ذلك في صورة بحوث نظرية، أو برامج تطبيقية .
فمن تلك البحوث ما كتبه الدكتور محمد غزالي خياط – وهو متخصص في الهندسة – عن تمثيل الدلالة الصرفية في النظم الآلية لفهم اللغة العربية( )، وقد خصَّصه صاحبه لأوزان الأفعال في العربية، معتمداً في ذلك التمثيل الدلالي على استخدام نظم القواعد الشرطية، والجمل الإخبارية، والأنماط التقليدية، وقَدَّم في ضوء هذا طريقة مقترحة لتمثيل الدلالة الصرفية لأوزان الأفعال .
ومن ذلك أيضاً ما ذكره الدكتور محمد عز الدين (تونس) أثناء حديثه عن تصميم برنامج للترجمة الآلية أُطلق عليه (الناقل العربي)( )، من أن هذا البرنامج يعمل على مستويات خمسة، من ضمنها مستوى التحليل الدلالي. وقد أوضح الدكتور عز الدين أن التمثيل الدلالي للجملة في هذا البرنامج يهدف إلى تحديد معنى كل كلمة في الجملة حسب السياق، مستعيناً في ذلك بمعطيات معجمية ودلالية، وبقواميس التعبير الاصطلاحية( ). وللسيد نصر الدين السيد بحث عن التحليل الدلالي للجملة الخبرية العربية باستخدام الحاسوب( ).
ومجمل القول في هذا إن المعالجة الآلية للدلالة العربية ما زالت في مراحلها الأولى، وهي تحتاج إلى بذل المزيد من الجهود لتصل إلى مرحلة متقدمة من مراحل التنظير والتطبيق والبرمجة .
ويفضي بنا هذا الأمر إلى الحديث عن الترجمة الآلية Machine Translation التي تعد من أقدم مجالات استخدام الحاسوب في اللغة .
وقد نال هذا الجانب من اللسانيات الحاسوبية العربية حيزاً كبيراً ومساحةً واسعةً من الجهود المبذولة، وذلك بالنظر إلى أنها الأنموذج الآلي للمنظومة اللغوية( ) .
وكانت فكرة الاستعانة بالحاسوب في الترجمة قد طرحت عام 1949م بأمريكا، ثم تحولت إلى مشروع علمي عام 1951م في معهد ماساشوستس للتقنية (M.I.T)، وكان عام 1954م ميلاد الترجمة الآلية الفعلي، التي سرعان ما انتقل الاهتمام بها إلى المراكز البحثية والجامعية في أوروبا والاتحاد السوفييتي، ودخل القطاع الخاص (التجاري) في السبعينيات منافساً لتلك المركز العلمية في العناية بالترجمة الآلية( ) .
أما واقع الترجمة الآلية(*) في الوطن العربي فقد حدث في التسعينيات من القرن المنصرم (العشرين) تطور نوعي في مشروعات الترجمة الآلية على المستويين النظري والعملي (البرامج) .
فعلى المستوى النظري نجد طائفة من البحوث التي تعنى بهذه المسألة، سواء أَكانت مؤلفة أو مترجمة. وقد اقتصرت الأبحاث النظرية على تحديد الصعوبات التي تعترض الترجمة الآلية، وكيفية التغلب عليها، وميزات هذا النوع من الترجمات، مع ذكر عمليات هذه الترجمة وأنظمتها المختلفة( ).
أما المستوى الآخر، وهو برامج الترجمة الآلية العلمية منها والتجارية، فقد أسهمت فيها جهود ذاتية (فردية)، وشركات تجارية، منها ما هو عربي، ومنها ما هو غربي، ومنها ما هو مشترك بينهما. ومن ذلك برنامج شركة صخر المسمى (القاموس Dictionary)، وبرنامج الناقل العربي، وبرنامج ترجمان، وبرنامج المترجم، وبرنامج عرب ترانز Arabtrans ... إلخ( ). وقد بدأت هذه البرامج بالعمل الفعلي، ومازال التطوير يلاحقها يوماً بعد يوم، وتتم الترجمة فيها من الإنجليزية إلى العربية، والعكس، وهذا تطور إيجابي يعكس الرغبة في نقل الثقافة العربية إلى الآخرين، مما يعد تحولاً ذا دلالة عميقة في الانتقال بالترجمة من الاستيراد إلى التصدير، بلغة الاقتصاديين .
ومن الملاحظ أن الترجمات الآلية كانت في بدء أمرها مقتصرة على ثنائية اللغات، أو ما يعرف باللسانيات التقابلية Contrastive Linguistics، أما الآن وبعد النقلة الكبيرة في هذا المضمار فقد أصبحت تقوم بترجمة عدد كبير من اللغات في وقت واحد، وهو ما يعرف بالترميز الرقمي Digital Coding ( ) .
وبعد، فلئن كانت هناك في الماضي صيحات تحاول أن تُهوِّن من شأن الترجمة الآلية، وتُشَكك في نجاحاتها، فإنها الآن بدأت تطالب بإلحاح بتطوير أنظمة هذه الترجمة، بعد أن حققت نتائج ملحوظة وخاصة في ميدان النصوص العلمية. واللغويون والحاسوبيون العرب مطالبون أكثر من أي وقت مضى بالإفادة القصوى من معطيات الترجمة الآلية المعاصرة لدى الغرب، وتسخيرها لخدمة اللغة العربية .
أما الكتابة العربية ومعالجتها آلياً، فتعد الكتابة العربية من ضمن أهم المشكلات التي واجهت التحليل الحاسوبي، حيث تتعدد الأشكال البصرية للحرف الواحد تبعاً لموقعه من الكلمة، كما أن اتجاه الكتابة العربية هو من اليمين إلى اليسار، يضاف إلى ذلك أن حروفها متصلة وليست منفصلة... إلخ( ) .
وتبعاً لهذا قامت عدة محاولات لتلافي مشاكل الكتابة العربية في الحاسوب، وكان من بينها مشروع الأستاذ أحمد الأخضر غزال، الذي أطلق عليه الطريقة المعيارية للطباعة العربية، أو العربية المعيارية المشكولة – الشفرة العربية، والتي تعرف اختصاراً بـ(العمم-شع)، كما سبق، وقد تم هذا عام 1954م، ثم طُورت لتتلاءم مع التقدم التقني في الحاسوبات عام 1974م( ) .
ويذكر الدكتور مازن الوعر أنه مع تطور الإلكترونيات أصبح هذا التصميم غير واقعي، مما جعل بعض الباحثين يضع تصميماً آخر عرف بـ(معالجة السياق)، أي استنباط الحرف من سياق الحروف، وليس من سياق المعنى( ) .
وهناك أيضاً الشفرة العربية الموحدة للكتابة العربية التي تعرف بـ(الشفرة سباعية العزوم) التي أقرتها سنة 1983م المنظمة العربية للمواصفات والمقاييس( ). وفي الحقيقة أنني لا أعلم الآن ماذا تم بشأن تطوير هذه الشفرة خاصة أنه مضى عليها زمن طويل .
ومن تلك المحاولات ما قدمه الدكتور عاصم عبد الفتاح نبوي، والدكتور صبري عبد الله محمود، من تطوير نظام للتعرف على حروف العربية باستخدام شبكة عصبية ذات انتشار رجوعي( ) .
ومن الجوانب الأخرى التي أمكن للغة العربية الاستفادة منها من الحاسوب تعليم اللغة، سواء للناطقين بها من أبنائها، أو للناطقين بغيرها من اللغات. لقد استطاع الحاسوب أن يقدم للناطقين بالعربية نظماً حاسوبية وبرامج لإكساب المتعلمين المهارات اللغوية المتعددة، كالقراءة، والكتابة، والمحادثة، والاستماع، إضافة إلى معالجة الخطوط العربية معالجة حاسوبية، والتدقيق الإملائي والنحوي، ووضع معاجم لغوية حاسوبية لمراحل التعليم العام، وتعليم الأطفال الأرقام والحروف والكلمات .
كما استطاع الحاسوب أن يسهم في مجال تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، بإمكاناته وقدراته الهائلة في التعليم المبرمج( )، ويوجد بمعهد اللغة العربية بجامعة أم القرى (مكة المكرمة) حالياً معمل حاسوبي لتعليم العربية للناطقين بغيرها، وهي تجربة فريدة ذات أبعاد علمية وحضارية، نأمل أن تتوسع دائرتها ومجال تطبيقاتها، وأن يكتب لها النجاح .
وبدهي القول إن الإفادة من الحاسوب في هذا المجال (المجال التعليمي) مرهونة بالنجاح في المعالجة الآلية للغة العربية أولاً .
هذا ما يتعلق بالمعالجة الآلية للنظم اللغوية العربية، أما البرامج الموضوعة لذلك، وهي كما يقول الدكتور نهاد الموسى : «منجزات تطبيقية تستثمر التوصيف في وجوه من التوظيف»( )، فإنها أكثر من أن تحصر، وخاصة أن الشركات التجارية العاملة في مجال الحاسوبيات تدفع يومياً إلى السوق برامج علمية وتعليمية، تتفاوت فيما بينها دقةً ومنهجيةً وأهدافاً، وهي تحتاج من الباحثين تقييماً وتقويماً، وهذه الدراسة الحالية لا تفي مطالبها باستعراض مجمل هذه البرامج ؛ إذ إن الخوض فيها يتطلب وقفة مطولة، وعسى أن نفرغ لها – أو غيرنا – في المستقبل المنظور إن شاء الله( ) .
وأما الصورة الأخيرة لرصد الجهود في ميدان اللسانيات الحاسوبية العربية فتتمثل – كما تقدم – في إنشاء قسم خاص لعلم اللغة الحاسوبي (اللسانيات الحاسوبية) في جامعة الأمير سلطان الأهلية بالرياض (السعودية)، وهو – على حد علمي – أول قسم متخصص في هذا المجال بالجامعات العربية، ولا شك أن إنشاءه جاء نتيجة لمتطلبات السوق الاقتصادية من جهة، وتتويجاً – من جهة أخرى – للجهود الحاسوبية العربية التي أصبحت تشكل اتجاهاً عاماً في الدراسات اللغوية المعاصرة .
وبعد، فلقد تبين لنا بهذا العرض الموثق بما لا يدع مجالاً للريبة والشك أن اللغة العربية هي المستفيد الأول من استخدام تقنية الحاسوب، وأن الحاسوب يمكن تطويع آلياته وأنظمته لتتواءم مع خصوصية اللغة العربية، على جميع مستوياتها اللغوية، الصوتي منها، والصرفي، والنحوي، والمعجمي، والدلالي. وتم بجهود الباحثين العرب، اللغويين منهم والحاسوبيين، تمثيل الكلام المنطوق وتوليده آلياً، وتحليل الكلمات المفردة وتركيبها آلياً، وتوصيف الجمل وتوليدها وإعرابها آلياً، وقراءة النصوص المكتوبة وتصحيحها ومعالجتها آلياً، وصناعة المعاجم الآلية، وإنشاء البنوك المصطلحية، وتصويب الأخطاء النحوية والصرفية والإملائية آلياً، وتصميم البرامج الحاسوبية للترجمة الآلية، وتعليم اللغة العربية لأبنائها وغير أبنائها بوساطة الحاسوب .
إن هذه الجهود مؤشر حقيقي على نجاح الحاسوب في خدمة اللغة العربية، وتوظيفه في معالجة قضاياها المختلفة، تحليلاً، وتوليداً، وترجمة، وتعليماً، وصياغتها صياغة رياضية دقيقة وفق علاقة متبادلة بين المقاييس العلمية والمقاييس اللغوية .
والمحصلة النهائية لهذه الجهود تصب في خانة قدرة العربية على استيعاب لغة العصر، وتمثل تقنياته التكنولوجية بكل كفاية واقتدار، وهذه قضية من القضايا التي واجهتها - وما زالت تواجهها - كينونة الأمة العربية وحضارتها اللغوية، وهويتها الثقافية .
ومع كل ما ذكرته من إسهامات في اللسانيات الحاسوبية وتوظيفها لخدمة العربية – وهناك الكثير من تلك الإسهامات لم أتمكن من الاطلاع عليها، أو عرضها في هذه الدراسة – فإن الطريق في هذا المضمار مازال شاقاً وطويلاً، والأمل معقود على جميع العلماء والباحثين الذين أوقفوا أنفسهم على هذا المجال النادر من مجالات العلم والمعرفة الإنسانية، أن تتكاتف جهودهم لتذليل العقبات وحل المشكلات التي تحيط بلغة القرآن الكريم إزاء الثورة المعلوماتية – الحاسوبية المعاصرة .
واختتم هذه الدراسة بإبداء جملة من المقترحات، أحسب أنها تسهم في توطين هذا التوجه في الدراسات اللغوية المعاصرة، وتدفع به نحو الأمثل والأفضل، وهي على النحو الآتي :
أولاً : أن تتضافر الأعمال في مجال اللسانيات الحاسوبية العربية وتتآزر بين اللغويين والحاسوبيين في أي مشروع علمي يهدف إلى برمجة الأنظمة اللغوية للعربية، وتحليلها، ومعالجتها آلياً. وأرى في هذا المقام أن أي عمل منفرد، أو مستقل عن الطرف الآخر من المعادلة، أو غير منسق بين هذه الفئات العلمية، إنما هو بمثابة جهد ضائع لا طائل من ورائه .
إن التعاون والتنسيق في هذا الميدان – إن تَمَّ – ستكون نتائجه غاية في الأهمية، وستدفع به خطوات واثقة إلى الأمام، وسوف تتغير قناعات ومسلمات كانت أشبه بالحقائق التي لا تقبل الجدل والنقاش حولها، كما ستتأكد قضايا في اللغة كانت أقرب ما تكون إلى الاحتمال والرجحان والظن، وهذا ما توفره اللسانيات الحاسوبية للعلوم الإنسانية بعامة .
والواقع أن هذا الأمر، أعني التقاء علماء اللغة وعلماء الهندسة والحاسوب، كان – ومازال – مطلباً ملحاً، وضرورة قصوى، لأي عمل ناجع في هذا الميدان على وجه الخصوص، وهو ما أكدت عليه جميع المؤتمرات التي عقدت لمناقشة قضية الحاسوب واللغة العربية .
ثانياً : ترجمة جميع الأعمال العلمية في مجال اللسانيات الحاسوبية العربية، التي كتبت باللغات الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، وغيرهن من اللغات، التي وضعها باحثون عرب وأجانب، ونقلها إلى العربية.
ثالثاً : عدم ترك أمر البرمجيات الحاسوبية العربية بيد الشركات ومراكز البحوث الغربية، بل ينبغي أن يصممها أبناؤها، فهم أقرب الناس رحماً بهذا المجال .
رابعاً : صناعة معجم موحد لمصطلحات اللسانيات الحاسوبية، بالعربية والإنجليزية، وفق المتعارف عليه علمياً في هذا النوع من المعاجم الاصطلاحية أو المصطلحية( ) .
خامساً : أن يكون علم اللغة الحاسوبي مقرراً دراسياً معتمداً في أقسام اللغة العربية بكليات الآداب، والتربية، كما هي الحال في كلية الآداب بجامعة الكويت .
سادساً : إنشاء قسم خاص للغويات الحاسوبية في الكليات والجامعات العربية يمنح درجة البكالوريوس في هذا التخصص، على غرار ما هو موجود بجامعة الأمير سلطان الأهلية بالرياض .
سابعاً : نشر تلك الرسائل العلمية التي كتبت أصلاً باللغة العربية عن قضايا استخدام اللغة العربية في الحاسوب، وهي تُشَكل فيما اطلعت عليه إسهاماً فاعلاً في ترسيخ هذا الاتجاه، ومعالجةً موضوعيةً وعلميةً لكثير من مشكلات تعامل العربية مع الحاسوب .
ثامناً : أن ما طرحه الدكتور نبيل علي في كتابه (اللغة العربية والحاسوب) من قائمة مقترحة في مجال بحوث اللسانيات الحاسوبية مطبقة على اللغة العربية، يحسن أن يكون قاعدة جيدة للانطلاق منها نحو تفعيل النشاط البحثي وتطويره في هذا المجال .
صحيح إن بعض ما اقترحه كان بعد ذلك ميدان عناية الباحثين، ولكن كثيراً منها ما يزال في انتظار الأقلام المخلصة والعقول النيرة التي ستضيف بعداً جديداً للاتجاه الحاسوبي في دراسة اللغة، وهو ما نتمنى أن يحدث في القريب العاجل بإذن الله،،،