النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: البنية الفنية في سورة الكهف

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    المشاركات
    15,952

    البنية الفنية في سورة الكهف

    http://www.odabasham.net/show.php?sid=4784

    في 17-09-2005
    البنية الفنية في سورة الكهف

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


    محمد الحسناوي



    تنتمي سورة (الكهف) إلى طائفة من السور المكية ، التي بُنيت بناءً قصصياً ، أو كان البناء القصصي غالباً عليها ، مثل سورة (يوسف) ، التي اشتملت على قصة واحدة من أولها إلى آخرها مع التعليقات عليها ، ومثل سورة (طه) ، التي اشتملت على قصتين : إحداهما قصة(موسى) مفصلة ، وأخرى قصيرة ، هي قصة ( آدم ) عليه السلام . أما سورة ( يونس) ، فتشتمل على ثلاث قصص ، وسورة(هود) على أربع . على حين تشتمل سورة (الكهف) على خمس قصص : (ففي أولها تجيء قصة أصحاب الكهف، وبعدها قصة صاحب الجنتين ، ثم إشارة إلى قصة آدم وإبليس ، وفي وسطها تجيء قصة موسى مع الرجل الصالح ، وفي نهايتها قصة ذي القرنين . ومعظم ما يتبقى من آيات السورة هو تعليق أو تعقيب على القصص فيها . وإلى جوار القصص بعض مشاهد القيامة ، وبعض مشاهد الحياة ، التي تصور فكرة أو معنى على طريقة القرآن في التعبير)(1) .
    موضوع هذه السور هو موضوع السور المكية الغالب : العقيدة في أصولها الكبيرة : الوحي والرسالة والتوحيد والبعث والحساب والجزاء .
    أما موضوع سورة الكهف الخاص ، فهو : تصحيح العقيدة ، وتصحيح منهج النظر والفكر ، وتصحيح القيم بميزان هذه العقيدة (2) .
    ويسير سياق السورة حول هذه الموضوعات الرئيسية ، بين المقدمة والخاتمة – كما يرى سيد قطب – في خمسة أشواط متتابعة ، تستقل كل قصة من هذه القصص بشوط من الأشواط .
    فقصة أصحاب الكهف ، الذين هربوا بدينهم إلى كهف ، لينجوا من بطش السلطة الكافرة ، نموذج لإيثار الإيمان على باطل الحياة وزخرفها ، والالتجاء إلى رحمة الله ، هرباً بالعقيدة أن تمسّ .
    وقصة صاحب الجنتين المعتز بماله وبعدد أولاده من دون الله ، أمام فقير مؤمن ، تصور اعتزاز القلب المؤمن بالله ، واستصغاره لقيم الأرض.
    والشوط الثالث يتضمن مشاهد عدة متصلة ، من مشاهد القيامة ، تتوسطها قصة آدم وإبليس ، وينتهي ببيان سنة الله في إهلاك الظالمين ، ورحمة الله ، وإمهاله للمؤمنين إلى أجل معلوم .
    وقصة موسى والرجل الصالح ، موضوعها : هو بيان الفارق بين الحكمة الإنسانية القريبة العاجلة ، والحكمة الكونية البعيدة الآجلة .
    أما قصة ذي القرنين ، فتحكي سيرة الحاكم الصالح ، الذي حارب الفساد بمنهج الله ، وبالقوة التي يسرها الله له ، ثم أرجع كل خير إلى رحمة الله ، وفضل الله عليه ، لأنه هو راجع إليه .
    ثم تختم السورة بمثل ما بدأت : تبشيراً للمؤمنين ، وإنذاراً للكافرين ، وإثباتاً للوحي ، وتنزيهاً لله عن الشريك .
    هذا مجمل موضوعات السورة وقصصها ، لكن كيف ترابطت هذه القصص فيما بينها ؟ وكيف تحققت وحدة السورة وتماسكها ، وخدمت أهدافها وأغراضها ؟
    خطان متوازيان :
    في هذه السورة وأمثالها ذات الطابع القصصي ، سوف نلحظ وجود خطين متوازيين ، من أول السورة إلى آخرها : أحدهما – وهو بمثابة الأصل أو العمود الفقري للسورة – هو الخطاب القرآنيّ الموجّه إلى الرسول ، عليه السلام ، وإلى العصبة المؤمنة معه طوال العهد المكي ، وهم المقصودون أولاً بالخطاب القرآني لتثبيتهم على دعوة الحق ، والتسرية عنهم في مواجهة مضطهديم المشركين ، أسوةً بالرسل والأنبياء وصراعهم مع أقوامهم من قبل ، وهذا هو مسوّغ الخط الثاني ، الذي يتضمن القصص القرآني عن دعوات أولئك الأنبياء والرسل ، وما يستتبع ذلك ويناسبه من قصص أو أمثلة ، تاريخية أو افتراضية أو من مشاهد الطبيعة أو الدار الآخرة .
    لذلك نسمع في التقديم لقصة الكهف مخاطبة القرآن للرسول : ( فلعلكَ باخِعٌ نفسَكَ على آثارِهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً ) (الآية6) .(3) . وفي ختامها : ( ولا تَقولَنَّ لشيءٍ إنّي فاعلٌ ذلك غداً (الآية23) ، إلا أن يشاء اللهُ . (واذكر ربّكَ إذا نسيتَ ، وقلْ عسى أن يهديَني ربي لأقربَ من هذا رَشَداً ) (الآية24) .
    كما نسمع توجيه القرآن للرسول أن يصبر نفسَه مع المؤمنين في بداية قصة صاحب الجنتين :( واصبِرْ نفسَكَ مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعَشيَّ يريدونَ وجهَهُ ، ولا تعدُ عيناكَ عنهم تريدُ زينة َ الحياةِ الدَُنيا ، ولا تُطِعْ منْ أَغْفَلنا قلبَهُ عن ذكرِنا ، واتّبعَ هواهُ ، وكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) (28).
    وحين يتحدث القرآن عن الحياة الدنيا ، يخاطب الرسول قائلاً : ( واضرِب لهم مثَلَ الحياةِ الدنيا...) (الآية45) ، ولدى عرضه مشاهد يوم القيامة يقول أيضاً : ( ... فترى المُجرمِينَ مُشفقِينَ مما فيه ...) (الآية49) ، وفي تعليقه على موقف الناس من الرسل ، يخاطب الرسول بقوله : ( وربُّكَ الغفورُ ذو الرحمةِ لو يؤاخِذُهُم بما كسبوا لَعَجَّلَ لهمُ العذابَ ...) .
    وفي بداية قصة ذي القرنين يقول تعالى : ( ويسألونَكَ عن ذي القرنينِ . قُلْ سأتلو عليكم منهُ ذكراً ) (الآية83) .
    وفي ختام السورة ، حيث يعود إلى بدايتها بالترابط ، ترد ثلاثة مقاطع كل منها يبدأ بكلمة ( قُلْ ) خطاباً للرسول : ( قلْ : هل ننبئُكم بالأخسرِينَ أعمالاً ؟ ) (الآية103) . ( قلْ لو كان البحرُ مداداً لِكلمات ِربّي ..)(الآية109) . ( قلْ إنما أنا بشرٌ مثلُكم يُوحى إليَّ ...) (الآية110)
    لو قارنا بين المساحة التي يشغلها الخط الأول من عدد الآيات ، والمساحة التي يشغلها الخط الثاني ، لوجدنا القصص أو الخط الثاني ، حجمه أكبر بكثير من الخط الأول ، يكاد يكون الضعف ، بمعدل (71 آية للثاني ) مقابل ( 39 للأول ) ، ومع ذلك يظل الخط الأول هو الأصل المقصود ، والخط الثاني هو الفرع ، أو المُعَزِّز ، أو المكمل للخط الأول ، كما سوف نرى .
    هذه المفارقة العددية في المساحة بين الخطين ، تلفت نظرنا إلى احتفال القرآن بطرق التعبير الفنية عن أغراضه وأهدافه ومراميه . وكل ما جاء في الخط الأول من آيات كافٍ لتقرير حقائق العقيدة والقضايا التي تحدثت عنها القصص المصاحبة ، ولم يكتفِ بمضمونات الخط الأول التي يغلب عليها التكثيف للمعاني والأفكار ، بل شفعها بقصص ، يتضمن تجسيداً حياً لتلك المعاني والأفكار ، في صور وأحداث وشخصيات وحوار ، توضح تلك المعاني والأفكار ، وتكسبها حياة وغنى ، لا أحلى ، ولا أجلى !
    ضرب المثل :
    العلاقة بين مفردات الخط الأول والخط الثاني ، تفسرها العلاقة المعهودة في ( ضرب المثل ) عند العرب وعند الأمم الأخرى . والمثل اصطلاحاً : قول سائر ، يُشَبَّهُ به حالُ الثاني بحال الأول . والعلاقة بين الحالين ، أن الحالة الأولى هي التي يُضرب بها المثل في الأصل ، والحالة الثانية : هي التي يُذكر فيها المثل مرة أخرى . والعلاقة الحاصلة بين الحالين ، هو الشبه الحاصل بين الحالة الأولى ، وبين الحالة الثانية .(4)
    وهذا يقتضينا التذكير بأنواع المثل الثلاثة :
    النوع الأول : وهو المثل الموجز السائر ، حِكَميّاً وغير حِكَميّ .
    النوع الثاني : المثل التشبيهي أو التمثيلي .
    النوع الثالث : المثل القصصي (5) .
    وحديثنا يدور حول النوعين الأخيرين ، لاسيما النوع القصصي ، يؤكد ذلك ما صرّح به القرآن نفسه في سورة الكهف وغيرها . ففي مطلع قصة صاحب الجنتين قال تعالى : ( واضرب لهم مثلاً رجلين ...) ، وفي مطلع مشاهد الحياة الدنيا : ( واضربْ لهم مثل الحياة الدنيا كماء ...) .
    وقد ورد لفظ ( المثل ) مُراداً به هذا المعنى ، أي ( ضرب المثل ) اثنتين وثمانين مرة في القرآن(6) ، كما ألَف عنه العلماء الأقدمون كتباً في أمثال القرآن ، ذكر منها محقق ( أمثال القرآن – لابن القيم) تسعة مؤلفات ، معظمها مخطوط . وفي أمثال الحديث الشريف وضعت مصنفات أخرى .
    بمناسبة العلاقة بين وحدات الخط الأول والخط الثاني في سورة الكهف ، نذكر بأن العلماء لم يقفوا عند كشف ظاهرة ( ضرب المثل ) ، بل ذهبوا أبعد من ذلك ، إلى حدّ التمييز بين الأمثال ( الظاهرة ) : وهي ما ذُكر فيها لفظ (المثل) صراحةً ، مثل قصة ( صاحب الجنتين ) : ( واضرب لهم مثلاً رجلين ..) ، ومشاهد الحياة : ( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا ..) .. وبين الأمثال ( الكامنة) : وهي الأمثال التي لا تكاد تختلف عن الأمثال الظاهرة ، في غير افتقارها للفظ (المثل) ، مثل قصة (أصحاب الكهف) وقصة ( ذي القرنين ) وقصة ( موسى والعبد الصالح) ، ولذا استطاع أحدهم أن يقرر: ( أن جميع القصص القرآنية ، يمكن عدّها أمثالاً قرآنية كامنة ) (7) .
    للعلم إن القضية هنا ليست مسألة اصطلاحية وحسب! بل هي قضية فنية على مستوى من الأهمية ، تصب في تقرير مصير فن أو فنون أدبية ، نطرحها على نقاد الأدب ودارسيه ، من خلال الإشكالات التالية :
    * إذا كانت قصص القرآن كلها أمثالاً ، وهي تتمتع بشروطها الفنية ، فهل يمكن أن نعدّ القصص الأدبية الأخرى أمثالاً ؟
    * إذا كان مصطلح المثل بهذه السعة والحيوية ، فهل من الإحياء الفني إعادة الشأن لهذا الشكل الأدبي المهمل ؟
    * هل ( الآلية النفسية) لضرب المثل هي نفسها ( آلية التعاقد الضمني) بين كاتب القصة وقارئها اليوم ؟
    * إذا كانت القصة الفنية لا تخلو من هدف ( كالإمتاع) ، فلماذا الإعراض عن الأهداف الأخرى ؟
    * إذا كان الهدف في القصة ، معبراً عنه بشكل فني ، هو في حدّ ذاته قيمة فنية أيضاً ، فهل ننتظر إحياء للقصص الهادف ؟
    الأزمنة والعوالم :
    الخط الأول في سورة الكهف ، زمنه هو زمن البعثة النبوية ، وفي سياق النص هو زمن ( الحاضر) ، أما الخط الثاني في السورة ، خط القصص أو الأمثال ، فيتضمن عدداً من الأزمنة والعوالم : الماضي والحاضر والمستقبل ، عالم الغيب وعالم الشهادة .
    قصة أهل الكهف هي ماض من الحياة الدنيا ، ومثلها قصة موسى والرجل الصالح وقصة ذي القرنين . أما مشاهد القيامة والجنة والنار ، فزمنها مستقبل بالنسبة إلى الحياة الدنيا ، وهي أيضاً من عالم الغيب ، بالنسبة إلى الحياة الدنيا ، التي هي عالم الشهادة .
    هناك ( غيب ) آخر ، غير عالم المستقبل في الدار الآخرة ، ألا وهو عالم الخلق الأول لأبينا( آدم) ، وحكايته مع إبليس . وهو ماض أقدم من ماضي الحياة الدنيا .
    وهكذا تجتمع في هذه السورة العوالم والأزمنة كلها : أزمنة الغيب وأزمنة الشهادة . على أن المسألة
    ليست قضية حسابية ، ولا آفاقاً شمولية وحسب! بل هناك أثر نفسي ، يؤديه التقابل الفني ، حين يجتمع في الخط الأول ..(الحاضر) الدنيوي وحده ، وهو زمن الصراع مع الشرك ، تصغيراً لمساحته ، وحين تقابله في القصص أو الأمثال ..الأزمنةُ كلها ، انسجاماً مع مساحتها الهائلة ، من ماضي الغيب السحيق ، حتى مستقبل الغيب الأبدي .
    هناك آفاق أعجب وأغرب على الحس البشري .
    أحدها : أفق الزمن الافتراضي ، الذي لم يحدث ، لكنه ممكن الحدوث ، بل كثيراً ما يحدث مثيله أو نموذجه ، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً ، ألا وهو زمن صاحب الجنتين . إن تجريده من زمن متحقق ، يضفي عليه أعماقاً واقعية وصدقية ، تبلغ في التأثير النفسي مبلغ القوانين الحتمية .
    ثانيها : أفق (المثل) المستمد من مشاهد الطبيعة ، وهو ما يمكن أن نطلق عليه ( الزمن الفيزيائي)( كماء أنزلناه من السماء ، فاختلط به نبات الأرض ، فأصبح هشيماً تذروه الرياح..)، وهو لا يقل عن الزمن السابق في الحتمية والصيرورة .
    الصراع والتقابل :
    الخط الأول يعرض صراعاً بين الرسول وصحبه المؤمنين من جهة ، وبين المشركين من جهة ثانية ، هذا التقابل أو التضاد أو الصراع تلقاه في القصص أو الأمثال المعروضة كلها في الخط الثاني :
    في قصة أهل الكهف : صراع بين السلطة المشركة وبين الفتية المؤمنين أهل الكهف .
    في قصة صاحب الجنتين : صراع بين الغني المشرك والفقير المؤمن .
    في قصة آدم وإبليس : صراع معلوم .
    في قصة ذي القرنين : اكثر من صراع في رحلاته الثلاث . بين مَنْ ظَلَمَ ومن لم يَظلم ، بين يأجوج ومأجوج المفسدين وبين الآخرين .
    على أن هناك تقابلات ، لا تندرج في شكل الصراع البحت ، مثل النبات المتحول إلى هشيم ، ومقارنة حكمة الإنسان المحدودة بالحكمة الكونية غير المحدودة ، لكن ذلك كله ، يلقي في النفس وفي الخيال ظلال التعارض أو التقابل أو التضاد ، بما يوضح المراد أولاً في سياقه الموضعي ، ويغني الانسجام والتناسق في السياق العام للسورة كلها ثانياً ، السياق الذي نحن بصدده . يؤكد ذلك أن نتيجة الصراع أو التقابل أو التضاد ، هي انتصار الحق في الدنيا أو الآخرة ، أو في الدارين معاً . كما هي الحال في ذهاب الماء أو النبات ، أو الحكمة المحدودة ، أمام علم الله وقدرته وحكمته التي لا حدود لها : ( قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ، ولو جئنا بمثله مدداً ) (الآية109) .
    وهكذا يتوازى الخطان الأول والثاني في تقابل الصراع أو التضاد من أول السورة إلى آخرها ، بما يعمق التصور الإسلامي للوجود ، ويحكم الربط الفني بين وحدات السورة في وقت واحد .
    دور الفاصلة :من المعلوم أن (الفاصلة) هي كلمة آخر الآية كقافية الشعر وسجعة النثر، ومن المعلوم أيضاً أن للفاصلة في التقفية دورها الفني ، سواء في إيقاعها الموسيقي ، أم في علاقتها الجزئية بالآية التي ترد فيها أو المقطع في مجموعة آيات ، أو علاقتها الكلية بمجمل السورة .
    وبسبب احتفاء القرآن المكي بالبعد الموسيقي ، كان هذا البعد سمة من سماته المميزة . يبدو هذا الاحتفال في السور ذات الطابع القصصي كذلك . فسورة ( طه) تغلب عليها (فاصلة) الألف المقصورة ، وسورة(الكهف) ، فواصلها مختصة بحركة (الفتح) التي تتحول إلى ( ألف مدّ ) في الإطلاق ( حَسَناً : حَسَنَا). أما فواصل سور ( يونس وهود ويوسف وإبراهيم ) ، فاعتمدت على حرف المدّ الذي يسبق الروي الساكن : (مبينْ – تعقلونْ – حكيمْ) ( سلامْ – شاءْ – بوارْ) . والطريف أن سورة (إبراهيم) اعتمدت في سرد قصة الرسل عامة ثم قصة إبراهيم على مدّ الياء أو الواو في ردف الفواصل الأولى ، وعلى مدّ الألف في ردف الفواصل الثانية .
    أما دراسة فواصل سورة ( الكهف) بالتفصيل ، فتسلمنا إلى المعطيات التالية :
    1 – دور حركة الفتح:
    خلافاً لعلماء العروض والقافية .. تضفي فواصل سورة الكهف أهمية موسيقية على حركة ( الفتح) التي التزمتها حروف الروي ، هذه الحركة يسميها العروضيون ( وصلاً) ، ولا يعدونها رويّاً .
    حركة الفتح التي التزمتها فواصل سورة الكهف باطراد ، قامت مقام الروي ، فسوّغت تعدد حروف الروي ، ذات المخارج الموحدة ( المتقاربة ) : وهي ( حروف اللسان: ق – ج – ض – ل – ن – ر – د – ط – ص – ز) ، وغير الموحدة مثل ( حرف : ع : الحلقية ) و(الحروف الشفوية :ف – م – ب - و: المتحركة بالفتح ) . من أمثلة المخارج الموحدة أو المتقاربة فواصل: ( مِرْفَقا – عِوَجا – عَرْضا – عَمَلا – حَسَنا – نَهَرا – أَبَدا – فُرُطا – قَصَصا – جُرُزا ) ، وغير موحدة المخارج : ( تِسْعا – أَسَفا – عِلْما – هُزُوا - كَذِبا).
    2 – غنى الفاصلة المتقاربة :
    الشعر العربي قديماً لم يعرف إلا القافية الموحدة أو المتماثلة ( ذات الروي المتماثل) ، أما فواصل القرآن ، فمنها المتماثلة والمتقاربة وحتى المنفردة .
    عرف العلماء الفاصلة ( المتقاربة ) بأنها التي تقاربت حروف رويها ، كتقارب الميم والنوننقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي الرحمنِ الرحيم . مالكِ يومِ الدين ) (8)، أو تقارب الدال مع الباء : ( ق ، والقرآنِ المجيد. بل عَجبوا أنْ جاءَهم مُنذرٌ منهم فقالَ الكافِرون : هذا شيءٌ عَجِيب ) (9) .
    أما فواصل سورة الكهف ، وباطراد حركة الفتح فيها ، فقد وسعت أفق الفاصلة ( المتقاربة) ، فلم تعد نقتصر على حروف الروي ذات المخارج المتقاربة ، بل ضمت حروف روي من ثلاثة مخارج : معظمها – كما رأينا – من مخرج اللسان ، وهي ( ق : 6 فواصل – ج:1 فاصلة واحدة – ض : 1 واحدة – ت : ثلاث عشرة – ن : 3 ثلاث – ر : 24 أربع وعشرون – د : تسع وعشرون – ط : 2 فاصلتان – ص : واحدة -
    ز : 1 واحدة ) إلى جوارها ( ع : 5 خمس فواصل ) وهي من مخرج الحلق ، والشفويات : ( ف : 2 فاصلتان – م : 3 فواصل – وَ: المتحركة بفتح : 2 فاصلتان – ب : 17 سبع عشرة فاصلة ) .
    لا يمكن تسمية فاصلة (ع ) الحلقية فاصلة ( منفردة ) ، لأنها وردت خمس مرات ، ومثل ذلك الفواصل التي جاءت حروف رويها ( شفوية ).
    نستنتج من ذلك أن الفاصلة المتقاربة تنويع وتلوين ، يثريان التقفية العربية ، فلا تقتصر على المتماثلة ، كما حاول الشعر الحديث ( شعر التفعيلة ) ذلك التنويع ، ثم إن توسعة أفق الفاصلة المتقاربة في تطبيقات فواصل سورة الكهف ، تزيد هذا التنويع غنى وجمالا .
    3 – فواصل مختارة :
    لكل فاصلة من هذه الفواصل دورها وأهميتها في سياقها الجزئي أو الكلي ، لكن هناك بعض الفواصل تسترعي الانتباه ، نختار منها فاصلتين : ( هُزُواً) ( أَحَداً) .
    وردت فاصلة هُزُواً في موضعين :
    الأول قوله تعالى :( وما نُرسِلُ المُرسَلِين إلا مُبشِّرِين ومُنذِرِين . ويُجادِلُ الذين كفروا بالباطلِ ، لِيُدحِضُوا بهِ الحقَّ، واتخذوا آياتي وما أُنذِروا هُزُوا) (الآية56) .
    الثاني قوله تعالى في السورة نفسها بعد خمسين آية : ( ذلك جَزاؤُهم جهنَّمُ بما كفروا ، واتخذوا آياتي ورسلي هُزُوا) (الآية106) .
    إن تكرار فاصلة هُزُواً هنا تكرار فني مقصود ، لا يُراد منه أن تُذكر الثانية بالأولى من باب التناغم الموسيقي وحسب! بل يضاف إلى ذلك ، التعقيب بذكر العقاب ، الذي جاء نتيجة للجدال بالباطل ، واتخاذ الآيات والنذر والرسل مادة للهزء والسخرية ، بعد وصف أهوال القيامة : ( وتركنا بعضَهم يومئذٍ يموجُ في بعضٍ ، ونُفخَ في الصُورِ ، فجمعناهم جمعاً . وعرضنا جهنم يَومئذٍ للكافرين عرْضاً . الذين كانت أعينُهم في غِطاءٍ عن ذكري ، وكانوا لا يستطيعُون سَمْعاً . أفحَسِبَ الذين كفروا أن يتخذوا عِبادي من دوني أولياء َ ؟ إنَا أَعتدنا جهنمَ للكافرين نُزُلاً . قُلْ هل نُنبئُكم بالأخسرِين أعمالاً . الذين ضلَّ سعيُهم في الحياةِ الدنيا ، وهم يَحسَبون أنهم يُحسِنون صُنعاً . أولئك الذين كفروا بآياتِ ربِهم ولقائهِ ، فحبِطت أعمالُهم ، فلا نُقيمُ لهم يومَ القيامةِ وزناً . ذلك جزاؤُهم جهنمُ بما كفروا ، واتخذوا آياتي ورُسُلي هُزواً ) (الآيات99 – 106) . وذلك كله بعد سرد قصة ذي القرنين الحاكم العادل القويّ ، الذي قال عن السدّ المحصن بالحديد والنحاس ممزوجين :(.. فإذا جاء وعدُ ربي جعلَهُ دكَّاءَ ، وكان وعدُ ربي حقاً ) ، وبعد قصة موسى والرجل الصالح ، التي أوضحت الفرق بين حكمة الإنسان المحدودة وحكمة الرحمن التي لا حدود لها ، فأين يذهب الساخرون المستهزئون بالأنبياء والرسل ، وبكلمات الله التي لا تنفد حين تَنفدُ كلمات البحر ، ولو جئنا بمثله مدداً ؟
    4 – فاصلة (أَحَداً ) :
    هذه الفاصلة في سورة الكهف تنتمي إلى الفواصل الواردة على حرف (الدال) ، وفواصل الدال إحصائياً هي في الترتيب الأول ، إذ بلغ تعدادها ( 29: تسعاً وعشرين فاصلة ) ، على حين كان ترتيب الفواصل الأخرى ، كما يلي: ( الراء: 24- الباء : 17 – اللام: 13 – القاف : 6 ...) من عشر فواصل بعد المئة .
    ثم إن فاصلة ( أحداً) ، تكررت تسع مرات بلفظها في أواخر الآيات : ( 17 و19و22و26و38و42و47 و49و110) . ثم إن معناها في مواضعها كلها واحد ، ولم تخرج عن سياقين اثنين ، كل منهما متماثل مع نفسه :
    الأول : ( ...فلم نُغادرْ منهم أحداً ) ( ... ولا يظلمُ ربُكَ أحداً ) .
    الثاني : ( ... ولا يُشركُ في حكمهِ أحداً ) .
    ( .... ولا أُشركُ بربي أحداً ) .
    (.. يا ليتني لم أُشركْ بربي أحداً) .
    ( .. ولا يُشركْ بعبادة ربهِ أحداً ) .
    إن فاصلة ( أحداً ) تغتني بوفرة روي الدال في فواصل السورة ، ومن تكرارها بالذات ، ثم باتساقها مع الموضوع العام للسور المكية وهو ( عقيدة التوحيد ) ، ومع موضوع سورة الكهف الخاص : ( تصحيح العقيدة) . وما التصحيح غير إخلاص التوحيد ونبذ الشرك . وإذا تذكرنا أن آخر كلمة أو فاصلة في السورة هي لفظة ( أحداً ) أيضاً ، أدركنا مدى الدلالات المعنوية والجمالية التي تشع من تكرار هذه الفاصلة ، ومن المواقع التي تشغلها في ثنايا السورة وفي ختامها ، وذلك فضلاً عن دورها بختم السورة ، بمثل ما بدأت : إثباتاً للوحي ، وتنزيهاً لله عن الشريك .
    وما قيل عن فاصلة ( أحداً ) ، يمكن أن يقال عن فاصلة ( رَشَداً ) التي تكررت : 6 ست مرات أيضاً .
    وخلافاً لقواعد (العروضيين) فيما سموه ( الإيطاء ) من عيوب القافية في الشعر ، وتابعهم أهل السجع : وهو ( لا يجوز إعادة اللفظة بذاتها : بلفظها ومعناها ، وتجوز إعادتها بمعنى مختلف ، أو إعادة اللفظة ذاتها بمعناها بعد سبعة أبيات ) ((10 .. نقول : خلافاً للعروضيين جاءت فاصلة ( أحداً ) ، لتقر الجواز في أقل من ذلك بكثير ، وتقر جماله حين يحقق أحد القوانين السبعة من قوانين الإيقاع الجمالية الذي هو ( التكرار ) الفني.
    الوزن الموسيقي :
    للوزن العروضي في الفواصل دوره الموسيقي ، الذي لا يقل عن دور حروفه : من روي وردف ودخيل وتأسيس ووصل وخروج .
    من حيث التبسيط بوسعنا أن نصنف فواصل القرآن عروضياً ضمن مجموعتين اثنتين : إحداهما _ وهي الأغلب – وزنها : ( فاعلانْ) وجوازاها ( فَعَلانْ- فَعْلانْ) بتحريك العين في الأولى وسكونها في الثانية ، والثانية وزنها : ( فاعلنْ) وجوازاها (فَعَلنْ- فَعْلنْ) .
    بناء على ذلك نلحظ أن فواصل هذه السورة ، ومثلها فواصل سورة (طه ) وكثير من السور المكية ، التزمت وزن ( فاعلن ) وجوازيها ، وبمعنى آخر ، كان حرف الروي فيها متحركاً مطلقاً أي منتهياً بحرف ساكن ،
    مثل الألف والياء ، وهذا ما غلب على قوافي الشعر العربي القديم . والفرق الموسيقي بين المجموعتين أن المجموعة الأولى ذات الروي الساكن : ( رحيمْ- غفورْ – رَحْمانْ ) ،أقل جهارة وتصويتاً من المجموعة الثانية ، ذات الروي المتحرك والصوت المطلق الممتد مع حرف المد ألفاً كان أو ياءً : ( سَبَبا- مجرى – صدرِيْ- أَمْرِي) . وقد بدأ ظهور القوافي ذات الروي الساكن مع حركة تجديد الشعر في العصر العباسي ، وشاع وكثر في الشعر الحديث ( شعر التفعيلة) حتى سمي بالشعر المهموس .
    على كل حال .. إن وزن ( فاعلن ) وجوازيه ( فَعَلن ْوفَعْلنْ) ، أسهم مع حركة الفتح أو ألف الإطلاق في إضفاء موسيقى شاملة موحدة ، ذات نبرة واضحة ، أشبه ما تكون بموسيقى الفواصل المتماثلة ، أي موحدة الروي ، كمعظم الشعر العربي القديم ، لكن تنوع مخارج حروف الروي كسر من حدة الرتابة والإيقاع الجهوري بتنويعات وتلوينات غير خافية على المتذوق . وهكذا حصل للمتذوق العربي استمتاع بلون جديد في موسيقى التقفية العربية ، غير الانقسام الصرف ( أسود – أبيض ) بين الروي المتماثل المطلق الحركة و الروي الساكن الحركة مسبوقاً بردف ( حرف مدّ ) أو غير مسبوق .
    علم المناسبة والنظام:
    بعد الفراغ من قصة ذي القرنين ، وهي آخر قصة في السورة ، ينتقل السياق من الخط الثاني إلى الخط الأول ، الذي انتهى بقول ذي القرنين معلقاً على بناء السدّ في وجه يأجوج ومأجوج : (قال: هذا رحمةٌ من ربي، فإذا جاءَ وعدُ ربي جعلَه دَكَّاءَ . وكانَ وعدُ ربي حقّاً ) ، وهو قول ينقل السامع والقاريء إلى مواجهة أهوال يوم القيامة ، التي يستمر السياق في الحديث عنها استكمالاً للموعظة في أربع آيات ( وتركنا بعضهم يومئذٍ يموج في بعض.....إنّا أعتدناجهنم للكافرين نُزُلاً) (الآيات 99- 102 ) .
    ثم تختم السورة بثلاثة مقاطع ، بدأ كل منها بقوله: (قُلْ ) ، وهذه المقاطع تلخص موضوعات السورة الرئيسية واتجاهاتها العامة ، وكأنما هي الإيقاعات الأخيرة القوية في اللحن المتناسق (11)
    إيقاع المقطع الأول ، هو الإيقاع حول القيم والموازين ، كما هي في عرف الضالين ، وكما هي على وجه اليقين .. قيم الأعمال والأشخاص ، كما رأيناها في قصة صاحب الجنتين : ( قل هل نُنبئكم بالآخسرين أعمالاً . الذين ضلَّ سعيُهم في الحياةِ الدنيا، وهم يَحسَبون أنهم يُحسِنون صُنْعاً ؟ أولئك الذين كفروا بآيات ربِهم ولقائه ، فَحَبِطَت أعمالُهم ، فلا نُقيمُ لهم يومَ القيامةِ وزناً ) (الآيات103 - 105 ) .
    وأما الإيقاع الثاني ، فيصور العلم البشري المحدود بالقياس إلى العلم الإلهي غير المحدود ، كما رأينا ذلك في قصة موسى والرجل الصالح : ( قل لو كان البحرُ مداداً لكلماتِ ربي لَنَفِدَ البحر قبلَ أنْ تَنفدَ كلماتُ ربي ، ولو جئنا بمثلهِ مدداً ) (الآية 109 )
    وينطلق الإيقاع الثالث والأخير في السورة ، فيرسم أعلى أفق للبشرية ، وهو أفق الرسالة الكاملة الشاملة الذي تحدثت عنه السورة بأكملها ..
    وهكذا تختم السورة التي بدأت بذكر الوحي ، بتلك الإيقاعات المتدرجة في العمق والشمول حتى
    تصل نهايتها ، فيكون هذا الإيقاع الشامل العميق ، الذي ترتكز عليه سائر الأنغام في لحن العقيدة الكبير .(12)
    وهكذا تتجلى لنا وحدة السورة المتماسكة من خلال المحور الموضوعي للسورة ، الذي ترتبط به موضوعاتها ، ويدور حوله سياقها ، ألا وهو تصحيح العقيدة ، وتصحيح منهج النظر والفكر ، وتصحيح القيم بميزان هذه العقيدة .
    كما تتجلى وحدة السورة في تناول هذه الموضوعات من خلال خطين متقابلين متوازيين ، من أول السورة إلى آخرها : خط واقع الجماعة المسلمة ممثلاً في شخص الرسول وصحابته في مواجهة الجماعة المشركة ، ومن خلال الخط الثاني ، خط القصص القرآني ، أي القصص التي ضُربت أمثلة للرسول وللجماعة المؤمنة معه توعيةً وتسليةً وتعزيةً وتثبيتاً .
    هذه العلاقة بين جزئيات السورة وكلياتها في إطار وحدة متكاملة ، هي ما أطلق عليه مصطلح( المناسبة ) أو( التناسب ) في علوم القرآن قديماً .
    فالمقصود بالمناسبة هنا : تناسب الآيات وتناسب السور ، في العلاقة الواشجة بين الآيات وبين السور ، وهو ما يعبر عنه حديثاً بمصطلح ( وحدة النص ) أو ( بنية النص الموحدة ) . ولن نعرض هنا لانقطاع المسيرة التاريخية للنقد الأدبي العربي ، حديثه عن قديمه ، وما نجم عن ذلك من إشكالات ، مثل هجر مصطلحات واستعارة مصطلحات مترجمة أو محدثة ، فضلاً عن التصورات والمناهج والمعايير، واستنبات نظريات مؤصلة ، أو إحياء نظريات أصيلة ، مثل نظرية عبد القاهر الجرجاني في ( النظم ) ، التي عاد النقد الأجنبي الحديث إليها ، ولجأنا إلى استيرادها منه ، وهي نظرية نقدية ترعرعت في حضن النص القرآني .
    علم مناسبات القرآن : هو علم تُعرف منه علل ترتيب أجزائه ، وهو سر البلاغة لأدائه إلى تحقيق مطابقة المعاني ، لما اقتضاه الحال . وتتوقف الإجادة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها ، ويفيد ذلك معرفة المقصود من جميع جملها ، فلذلك كان هذا العلم في غاية النفاسة ، وكانت نسبته من علم التفسير نسبة علم البيان من النحو .(13)
    و( النظام ) عند عبد الحميد الفراهي وسيد قطب وعبد الله دراز أعمّ من المناسبة . النظام عند هؤلاء :
    أن تكون السورة ( كلاً ) واحداً ، ثم تكون ذات مناسبة بالسورة السابقة واللاحقة ، أو التي قبلها أو بعدها على بُعدٍ ما .. فكما أن الآيات ربما تكون معترضة ، فكذلك ربما تكون السور معترضة ، وعلى هذا الأصل
    ترى القرآن كله كلاماً واحداً ، ذا مناسبة وترتيب في أجزائه من الأول إلى الآخر . (14) ويرى الفراهي بأن القرآن الحكيم كلام منظم ومرتب ، وليس فيه شيء من الاقتضاب ، لا في آياته ولا في سوره ، بل آياته مرتبة في كل سورة كالفصوص في الخواتم ، وسوره منتظمة في سلك واحد ، كالدرر في القلائد ، حتى لو قُدِّم ما أُخِّر ، لبطل النظام ، وفسدت بلاغة الكلام ، بل ربما يعود إلى قريب من الهذيان . (15)
    نظرات فنية
    في قصة النبي موسى والعبد الصالح
    من سورة الكهف
    ( وإذْ قالَ موسى لِفَتاهُ : لا أبرحُ حتى أَبلغَ مَجمعَ البحرينِ أو أَمضيَ حُقُبا (60 ) .
    فلما بلغا مجمعَ بينهِما نسيا حوتَهما ، فاتخذَ سبيلَهُ في البحرِ سَرَبا ( 61 ) .
    فلما جاوزا قال لفتاهُ : آتِنا غداءنا ، لقد لقينا من سفرنِنا هذا نَصَبا ( 62 ) .
    قال : أَرايتَ إذ أوينا إلى الصخرةِ فإنَي نسيتُ الحوتَ ، وما أنسانيهُ إلا الشيطانُ أن أذكرَهُ ، واتَّخذَ سبيلهَُ في البحرِ عَجَبا ؟ ( 63 ) .
    قال : ذلك ما كنّا نَبغِ فارتدَّا على آثارِهما قَصَصا ( 64 ) .
    فوجدا عبداً من عبادَنا آتيناهُ رحمةً من عندِنا ، وعلَّمناهُ من لدنَّا عِلما ( 65 ) .
    قال له موسى : هل أتَّبِعُكَ على أن تُعلِّمَنِ ممَا عُلِّمتَ رُشْدا ؟ ( 66 ) .
    قال : إنك لن تستطيعَ مَعِيَ صَبْرا ( 67 ) .
    وكيفَ تَصبِرُ على ما لم تُحِطْ بهِ خُبْرا ؟ ( 68 ) .
    قال : ستجدُني إن شاء الله ُ صابراً ، ولا أعصي لك أَمْرا ( 69 ) .
    قال : فإن اتَّبعتَني فلا تسألني عن شيءٍ حتى أُحدِثَ لك منهُ ذِكْرا ( 70 ) .
    *
    فانطَلَقا . حتى إذا ركِبا في السفينةِ خَرَقَها . قال : أخَرَقتَها لِتُغرِقَ أهلَها ؟ لقد جِئتَ شيئاً إمْرا (71).
    قال : ألم أقُلْ : إنك لن تستطيعَ معيَ صبرا ؟ ( 72 ) .
    قال : لا تُؤاخِذني بما نسيُ ولا تُرهِقني من أمري عُسْرا ( 73 ) .
    فانطلقا . حتى إذا لَقِيا غُلاماً ، فَقَتَلَهُ ، قال: أَقَتَلْتَ نفساً زكيَّةً بغيرِ نفسٍ ؟ لقد جِئتَ شيئاً نُكرا (74).
    قال : ألم أقلْ لك : إنك لن تستطيعَ معيَ صبراً ؟ ( 75 ) .
    قال : إن سألتُك عن شيءٍ بعدَها فلا تُصاحِبْني . قد بلغتَ من لَدُنَي عُذْرا ( 76 ) .
    فانطَلَقَا . حتى إذا أَتَيا أهلَ قريةٍ استطعما أهلَها ، فَأَبَوْا أن يُضيِّفوهما ، فوجدا فيها جداراً يُريدُ أن ينقضَّ ، فأقامَهُ . قال : لو شئتَ لاتَّخذتَ عليهِ أجرا ( 77 ) .
    قال : هذا فراقُ بيني وبينِكَ . سأُنبِّئُكَ بِتأويلِ ما لم تَستطِعْ عليهِ صبرا ( 78 ) .
    *
    أمَا السفينةُ فكانت لِمساكينَ يعملونَ في البحرِ ، فَأردتُ أن أعيبَها ، وكان وراءهم مَلِكٌ يأخذُ كلَّ سفينةٍ غَصْبا ( 79 ) .
    وأما الغُلامُ ، فكانَ أَبَواهُ مؤمِنَيْنِ ، فخشينا أن يُرْهِقَهما طُغياناً وكُفرا ( 80 ) .
    فَأردنا أن يُبْدِلَهُما ربُّهما خيراً منهُ زكاةً واَقربَ رُحْما ( 81 ) .
    وأما الجدارُ ، فكان لِغُلامينِ يَتِيمَينِ في المدينةِ ، وكان تحتَهُ كنزٌ لهما ، وكان أبوهما صالحاً ، فأرادَ ربُّك أن يَبلُغا أشُدَّهما ، ويَستخرِجا كنزَهما ، رحمةً مِنْ ربِّك ، وما فعلتُهُ عن أمري . ذلك تأويلُ ما لم تسطِعْ عليهِ صبرا ( 82 ) . (16)
    * * *
    في هذه الحلقة من سيرة النبي موسى – عليه السلام – قصة كاملة ، عرضت على ثلاث مراحل: البداية والوسط والنهاية .
    في البداية يتم لقاء موسى بالرجل الصالح الذي يحرص موسى على لقائه ، وفيها أيضاً تمهيد مشوق لموضوع القصة ، الذي هو رغبة موسى في الإفادة من علم الرجل الصالح ، الذي آتاه الله رحمة من عنده وعلَّمه من لدنه علماً ، لا يعلمه موسى ، وهو نبيّ . يزيد الأمر تشويقاً أن الرجل الصالح يصارح موسى منذ البداية قائلاً : (إنك لن تستطيعَ معيَ صبراً ) ، فيعلن موسى تعهده على الصبر والطاعة ، فيعمد الرجل الصالح إلى ضمان صبر موسى وطاعته بالاشتراط عليه ، إذا تبعه ألا يسأله عن شيء حتى يخبره بسرّه أو بتفسيره .
    ترى هل التزم موسى ، أو هل استطاع الالتزام بالعهد وتحقيق الشرط ؟
    في وسط القصة ذروة ، تتألف من ثلاثة مشاهد ، كل منها يشكل ذروة مستقلة ، لكن هذه الذرى تتضامَ لتشكل ذروة كبرى ، لما بينها من تجانس أو تنسيق في العرض والدلالة ، وهو إقدام الرجل الصالح على الإتيان بعمل ، ظاهره منكر، أو لا تقبله ( الحكمة الإنسانية القريبة ) ، إذ يرفضه العلم المحدود بظاهر الأشياء والعلاقات ، لكن من أطلعه الله على بعض علم الغيب ، كهذا الرجل الصالح ، يهتدي ( إلى الحكمة الكونية البعيدة ) ، التي وراء هذا الفعل .
    في الذروة الأولى يعمد الرجل الصالح إلى إحداث خرق في السفينة التي يشترك مع موسى وآخرين في ركوبها ، مما يعرضها للغرق بمن فيها ، فيحتج موسى على هذا التصرف مستنكراً .
    في الذروة الثانية يقتل الرجل الصالح غلاماً بلا ذنب ، تترتب عليه عقوبة شديدة مثل القتل ، حتى وصف موسى تصرفه بأنه قتل ( نفساً زكية بغير نفس ) .
    في الذروة الثالثة يتطوع الرجل لبناء جدار مائل ، يشرف على الانهيار ، في قرية أهلها بخلاء ، لم يقبلوا ضيافة موسى والرجل الصالح الجائعين . كيف يقابل الرجل إساءتهم بإحسان ؟ كان بوسعه في الأقل أن يطلب أجراً على هذا الجهد يسدان به جوعتهما !
    كان موسى في كل مشهد من هذه المشاهد الثلاثة يعجب ويحتج ويتساءل ، فيجيبه الرجل جواباً واحداً : ( ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً ؟ ) مذكراً إياه بالعهد والشرط بينهما . لما نفد صبر موسى ثلاث مرات على فعل صاحبه الأعاجيب ، يكشف الرجل السر أو الحكمة التي وراء هذه الأعمال ، التي أذهل
    موسى ظاهرها الصارخ بالظلم أو الإغراب . أوضح له أن السفينة كانت على وشك أن يصادرها ملك ظالم ، من عادته اغتصاب السفن التي تروق له ، وإن إحداث عيب فيها ، يصرف نظر الملك عنها ، وتسلم لأصحابها الفقراء . أما الغلام ، ففي طبيعته بذور كفر وطغيان ، فإذا كبر ، فسوف ينعكس ذلك شقاء على والديه الصالحين ، فقضى الله تعالى بقتله ، قبل طغيانه ، ليسلم والداه من شره ، وفي الوقت نفسه ، يعوضهما بغلام آخر ( خيراً منه زكاة وأقرب رحما ) جزاء صلاحهما . أما الجدار المتآكل ، فتحته كنز لرجل صالح ، توفي وأولاده صغار ، لا يستطيعون حماية الكنز ، حتى يكبرا ، وإن بناء الجدار يؤجل سقوطه ، ويحقق بلوغ الأطفال سن الرشد والقدرة على المدافعة عن حقهم .
    البنية القصصية

    قام بناء القصة على عرض متسلسل للأحداث ، وتعريف متنام للشخصيات ، تسلسل يتدرج فيه اشتباك الخيوط وانعقادها حتى تبلغ الذروة في وسطها ، معتمدة على الإرهاص الموحي منذ البداية : ( إنك لن تستطيع معي صبرا ) ، واقتران ذلك بالتشويق المتصاعد ، بتكرار نفاد الصبر لدى موسى ودهشته وتساؤلاته ، وبإصرار الرجل الصالح على حجب التفسير حتى النهاية ، حيث يكرّ دفعة واحدة على تفسير الغوامض ، وفتح مغاليقها ، لتكون الخاتمة إشباعاً لتلهف موسى ، وحلاً لعقد القصة فنياً بآن واحد .
    إنها بنية فنية جذابة ، وهي في الوقت نفسه تخدم غرض القصة الوعظي الديني ألا وهو : ( بيان الفارق بين الحكمة الإنسانية القريبة العاجلة ، والحكمة الكونية البعيدة الآجلة )(17) ، وهذا طرف من التصور الإسلامي للوجود . جزئيات هذا الكون والحياة فيه أو عليه والعلاقات بينها ، تقوم على بناء محكم ، تترابط فيما بينها ، ارتباط السبب بالنتيجة والعلة بالمعلول ، سواء بدا ذلك لعلمنا البشري أو لم يبدُ . كما أن الخير والشر البشريين ، لهما دورهما في التأثير على مجرى الأحداث . قد تكون هذه الآثار ظاهرة أو خفية ، قريبة الظهور أو بعيدة الأمد . فحال أصحاب السفينة المساكين أمام رجل ظالم ، وصلاح والدي الغلام المخبوء شره ، أو صلاح والد الأيتام الثلاثة في قرية تبخل على الضيوف بما يسد رمقهم .. كل ذلك اقتضت العناية الإلهية جعله عوامل مؤثرة في توجيه الأحداث الوجهة التي كُلِّف بها الرجل الصالح أو أطلعنا على سرها .
    الشخصيات

    لم يسمّ من الشخصيات إلا النبي موسى ، الذي هو الشخصية الأولى ، أما الرجل الصالح ، الشخصية الثانية أو المقابلة ، على أهميتها ، فلم تُعرف بغير صفاتها : الصلاح والعلم والحلم ، وهي المطلوبة فنياً في هذه القصة ، لا سيما صفة العلم ( آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً ) . وقد ظل اسمه مجهولاً حتى آخر القصة . وبالمناسبة يدخل الرجل الصالح القصة من المجهول ، وحين تنتهي القصة يغيب في المجهول أيضاً ، وهذا يتناسق فنياً مع دوره ، الذي كان هو كشف الستار عما هو مجهول من
    أسرار الأحداث التي وقعت على يديه ، كما يرى المرحوم سيد قطب (18) ، ناهيك بالفتى الذي كان يحمل السمكة في مطلع القصة ، ولم تعد هناك حاجة للتوسع بتوصيفه أو تسميته ، فدوره انتهى بظهور الرجل الصالح .
    على الرغم من التصريح باسم موسى ، لم تكن غاية القصة تصوير شخصيته بالذات ، بقدر ما كانت الغاية تصوير الطبيعة البشرية المحدودة الحكمة بالقريب أو العاجل ، ولو كان صاحبها نبياً ، ما لم يعلمه الله مثلما علَّم الرجل الصالح . ومن التناسق الفني أن طبيعة موسى ، كما وردت مفصلة في القرآن الكريم ، وفي هذه القصة ، نموذج إنساني ( للزعيم المندفع العصبي المزاج ) : ( قتله للرجل المصري في شجار مع إسرائيلي .. كسره للألواح.. أخذه لأخيه هارون بلحيته ورأسه وجره إليه ...)(19) . لذلك ظهرت طباعه في هذه القصة القصيرة في استعجاله في الاحتجاج والاعتذار ، وفي اندفاعات غضبه ونفاد صبره أخيراً ، على الرغم من التحذيرات والعهد والشرط المسبقين . وهي صفات بشرية ، بعضها مثل محدودية الحكمة ، ليست صفة وحسب ، بل هي الطبيعة البشرية ذاتها لا غير . واتساق شخصية موسى وطباعه مع ما ورد في مواضع أخرى من القرآن الكريم – وهي لا تقل عن أربعة وثلاثين موضعاً (20) – هو لون من الإعجاز . وانفراد سورة ( الكهف ) بعرض هذه الحلقة من حياة موسى ، التي تبرز الجانب البشري لا النبوي ، ولا العلاقة بقومه بني إسرائيل ، ولا طفولته ، إنما هو على طريقة القرآن في إيراد ما يناسب السياق الفني أو الديني من سير الأنبياء ، مثل حياة موسى ، التي تكرر ذكرها أكثر من غيرها .
    قصة قصيرة ، عدد شخصياتها قليل ، وهو المطلوب . والتركيز فيها على الشخصية الأولى ، شخصية النبي موسى ، أو الجانب البشري منها . وعلى الرغم من مفارقة شخصية الرجل الصالح لشخصية موسى ، فإنها مفارقة مقابلة ومكملة : العلم البعيد المدى مقابل العلم القصير المدى ، الحلم مقابل الاندفاع ، التمهل مقابل الاستعجال ، المعلم مقابل التلميذ . وهذا يلبي الغرض الديني والفني في وقت واحد ، ويرسخ انطباع الشخصيات في الذاكرة أيضاً .
    الحوار

    غلب الحوار على أسلوب القص ، وكادت القصة تتحول إلى نص حواري ،لولا ابتداء السطور الحوارية بكلمة ( قال ) سبع عشرة مرة . بل إن الآيات – وهي ثلاث وعشرون – لا يستقل السرد فيها إلا بآيتين اثنتين ، وبعبارات متفرقة قليلة جداً ، وما سوى ذلك حوار ثنائي بعضه بين موسى و( فتاه ) ، ومعظمه بين موسى والرجل الصالح . والحوار بطبيعته ، أوفى أداء في تصوير الشخصيات ( نفوساً ونبرات ) ، وفي استحضار المشاهد عياناً ، حين تقف الشخصيات نفسها تتحاور أمام باصرة المتلقي ومسمعه . وهذا درس فني ، يستنتج منه أن لا ضير ، بل ربما الأحسن ، في مثل هذه القصص الاعتماد على الحوار أولاً .
    نهض الحوار بثلاث مهمات في الأقل :
    أولاها : تصوير الشخصيات المتحاورة ، كما ذكرنا آنفاً .
    ثانيتها : إنماء الصراع الصاعد بين الشخصيتين الرئيستين ، حتى لحظة الحل والانفراج .
    الثالثة : وهي الأهم ، ألا وهي جلاء ( الفارق بين الحكمة الإنسانية القريبة المحدودة ، والحكمة الكونية البعيدة الآجلة ) .
    لنتأمل كيف يصف الحوار صاحبه ، وكيف يعبر أدق تعبير عن تفاصيل الشخصية المتكلمة . كان أول حوار أو جواب نطق به الرجل الصالح لموسى قوله : ( إنك لن تستطيع معي صبراً ) :
    وهو نفسه آخر جواب أو تعليق يصدر عنه على أسئلة موسى واحتجاجاته المتكررة ، إنه عودة النهاية إلى البداية : تماسك في الحوار وفي البناء القصصي وفي شخصية الرجل الصالح .
    تردد ( أي تكرر ) ذكر هذا الجواب بلفظه تقريباً خمس مرات ، يفيد عدداً من المعاني منها :
    - معرفة الرجل الصالح اليقينية المسبقة – بفضل من الله تعالى – بطبيعة موسى البشرية ، وبصفاته الشخصية .
    - ثبات جَنان الرجل الصالح ، وقوة خطابه مع موسى ( معلم أمام تلميذ ) .
    - حمل الحوار بعدأً أو معنى إضافياً ثانياً ، لا يتعارض مع مخاطبة موسى ، ألا وهو خطاب المتلقي خارج النص أو قراء القصة عبر الزمان ، ونحن منهم ، أعان على ذلك تكرار المعنى وتكرار اللفظ ، مضافاً إليهما جمال التعبير والصياغة والموسيقى المؤثرة .
    مثل ذلك قوله لموسى : ( فإن اتبعتني ، فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً ) :
    - دلالة على معرفته المسبقة بطباع موسى ، وتوقعه لما سيحصل بينهما .
    - لهجة المعلم أو المتبوع مع تلميذه أو تابعه .
    - التابع كبير كالأب ، والمتبوع دون ذلك كالابن .
    - تفطنه لاشتراط الشروط وأخذ العهد منذ البداية .
    - وعده بالتفسير من عند نفسه في النهاية ، ويقينه بامتلاك التفسير المقنع .
    تلمذة موسى نجدها في كلامه أيضاً ، حين يستأذن قائلاً : ( هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً ؟ ) . لاحظ قوله : ( مما علّمت) : إنه تسليم بسعة علم الرجل ، وبرضى موسى ببعض هذا العلم أدباً وتواضعاً . والمفارقة المعبرة اندفاعات موسى الغاضبة بعد ذلك : ( لقد جئت شيئاً إمراً .. لقد جئت شيئاً نكراً .. لو شئت لاتخذت عليه أجراً ) ، يخالف هذا مرة أخرى عودة موسى إلى اللين والضعف والاعتذار عن قريب : ( لا تؤاخذني بما نسيت ... إن سألتك عن شيْ بعدها فلا تصاحبني ) .
    إن حوار كل منهما يدل على صاحبه دلالة فائقة ، لدرجة أن النص القرآني يكتفي بلفظ ( قال ) من غير ذكر اسم القائل أو أي صفة من صفاته ، ونحن بالتالي ندرك صاحب القول بيسر وببساطة بالغتين جميلتين . كما أن المقارنة بين حواري الرجلين ، مقارنة جزئية أو كلية ، تزيد الوضوح والفروق في ملامحهما الفكرية والنفسية في الوقت نفسه .
    مما أعان الحوار على إنماء الصراع الصاعد ، الاقتصاد أو الإيجاز في التعبير أولاً ، والدوران في فلك الموضوع نفسه وحسب ثانياً ، وثالثاً رفعه لوتيرة الافتراق والتباين بين شخصيتي موسى والرجل الصالح درجة درجة : الرجل الصالح يتصرف بما يثير موسى .. موسى يتساءل يندهش يحتج يستنكر .. الرجل الصالح يستمر في ممارساته ، يذكر بالشروط ، يستمهل ، يصر على خط سيره حتى ينفد صبر موسى وصبر المتلقي حتى نبلغ القمة ، ثم يأتي الختام بالتفسير الذي هو الحل أو الانفراج ونهاية الصراع . وأخيراً قلة كلام الرجل الصالح في القسمين الأولين ( مرحلتي التصعيد ) ، ووفرته بل استقلاله وحده بالكلام في القسم الأخير ( مرحلة الحل ) .
    إن الفروق في تعبير كل من الرجلين الحواري تتناسق مع الغرض العام للقصة ليس بسبب التباين وحده ، بل بالعلاقة الدقيقة الوشيجة بين كل لفظة أو عبارة وبين هذا الغرض العام . تأمل معي فروق التعبير المقصودة المتكاملة ضمن حوار الشخصية الواحدة :
    أ – جواب الرجل الصالح في موقفين متشابهين ، والتشابه لا يعني دائماً التطابق ، جاء الجواب متشابهاً وغير متطابق بزيادة ( لك ) في المرة الثانية : ( ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً ) ( ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً ) ، وزيادة هذه الكلمة تفيد المزيد من توكيد المعنى وإبرازه بتعيين المخاطب صراحة ، فضلا عن اللوم .
    ب – تعليل الرجل الصالح لأفعاله ، يتدرج فيه الرجل بكشف دور الإرادة الإلهية في المهمات التي نفذها أولاً ، كما يتأدب ثانياً حين ينسب الخرق أو القتل ( الفعل السلبي ) لنفسه :( فأردت أن أعيبها...فأردنا أن يبدلهما..) ، وحين ينسب بناء الجدار( الفعل الإيجابي ) لله تعالى : ( فأراد ربك أن يبلغا ..) ، وله الأسماء الحسنى .
    التكرار

    أدنى تعريف للتكرار الفني /الجمالي : هو توظيف التكرار لأداء دور إضافي مطلوب أو مرغوب ، في سياقه الذي ورد فيه أو من أجله . وكلما تعددت دلالته ، أو اغتنى توظيفه ، كان ذلك أجمل ، حتى يصل إلى حدّ الإعجاز .
    التكرار من أعمق ظواهر الحياة ، يظهر في الأدب في تناوب الحركة والسكون ، أو تكرار الشيء على أبعاد متساوية ، وفي ترديد لفظ واحد أو معنى واحد ، وهو الترجيع ، مثل رد العجز على الصدر في الشعر ، ومنه الترجيع المتسق rythme أي التكرار الموزون لوضع أو مركز قوة .(21) .
    التكرار في هذه القصة وافر ، تعددت أنواعه ، ومواضع استخدامه ، وأغراضه التي ينطوي عليها .
    فأنواعه :تتدرج من تكرار حركة الفتح في ( رويّ) الفواصل ، إلى اطّراد الفاصلة في ختام الآيات ،
    إلى التزام ( رويّ ) موحّد ( وهو حرف الراء ) في معظم الفواصل ، إلى تكرار كلمات بعينها مثل : ( قال) ( انطلقا ) ، إلى تكرار صيغة: ( أمّا ..ف ) ، إلى التزام جملة : ( لقد جئت شيئاً ) ، إلى التزام معظم آية : ( إنك لن تستطيع معي صبرا ) .
    أما مواضع استخدامه ، فتنوعت : في بدايات الآيات ، وفي نهاياتها ، وفي تضاعيفها أو أوساطها .
    في بدايات الآيات : تكرار فعل : ( قال: 11 مرة ) ، وتكرار صيغة الشرط ( أما ..ف: 7 مرات) ، وجملة ( انطلقا: 3 مرات ) . وهناك علاقة واضحة في تكرار ( فانطلقا ) و( صيغة الشرط ) .. تشبه علاقة الصوت بالصدى : الترجيع باللفظ والمعنى معاً .
    في نهاية الآيات : حركة الفتح في الفواصل ، وحرف الراء في روي معظم الفواصل : ( 12 مرة )، ومعظم آية ( إنك لن تستطيع معي صبرا : 5 مرات ) .
    أما في تضاعيف الآيات : فيمكن أن نلقاه في : ( خرقها – أخرقتها ) ( فقتله – أقتلته ) ( نفساً – بغير نفس ) ( ألم أقل : مرتين ) ( عبداً : عبادنا ) ( تعلمني – علّمت ) ( بيني – بينك ) ( كان – كان – كان : في آية واحدة ) .
    كذلك الأغراض التي يؤديها هذا التكرار متعددة متنوعة ، وبوسعنا أن نتناولها من ثلاثة أبعاد : المعنى أو الدلالة ، الإيقاع الموسيقي ، الانطباع الكلي .
    من أغراض التكرار في المعنى عادة ( التوكيد ) ، وقد أضيف إلى التوكيد هنا مزية التقسيم للمشاهد : في بداياتها وفي صداها أو نهاياتها .
    بدأ المشهد الأول ( ركوب السفينة ) بـ ( فانطلقا . حتى إذا ركبا ...) ، ولما تم المشهد الأول بدأ الثاني ( قتل الغلام ) ببداية مشابهة ( فانطلقا . حتى إذا لقيا ...) ، ولما انتهى المشهد الثاني بدأ الثالث ( بناء الجدار ) ببداية مماثلة ( فانطلقا . حتى إذا أتيا ...) ، ولما تمت المشاهد الثلاثة مرتبة البدايات على نسق واحد ، فضلاً عن الوزن العروضي الموحد ، جاء التعقيب عليها ، يكرر الأجوبة مرتبة بنسق مقابل موازٍ للترتيب نفسه والنسق نفسه : ( أما السفينة .. أما الغلام .. أما الجدار ..) . حتى حروف العطف كانت حرف الفاء في بدايات المشاهد ( للترتيب والتعقيب ) ، وحرف الواو في بدايات الأجوبة أو التفسير ، بما يزيد الاصطفاف توكيداً وتنسيقاً .
    هذا مستوى أول في دلالة التكرار المعنوية ، الذي هو ( التقسيم ورجع الصدى للتقسيم ) ، أما المستوى الثاني ، فهو تحقيق علاقة تماسك ، أو وحدة ( موضعية ) بين المشاهد الثلاثة أولاً ، وبين التعليقات الثلاثة على حدة ثانياً ، ثم علاقة ( الصوت بالصدى ) بين مجموعة المشاهد الثلاثة من جهة ، وبين مجموعة التعليقات من جهة ثانية . لذلك سمينا الذرى الثلاث في المشاهد الثلاثة ب ( ذروة واحدة ) في بناء القصة ، على حين وجدنا التعليقات الثلاثة تشكل كياناً واحداً أيضاً ، هو الحل أو الانفراج في ختام القصة .
    حتى التعليقات الثلاثة ، التي شكلت ( قسم الختام ) ، نجد لها ختاماً خاصاً بها ، أو خاتمة موضعية أخرى للقسم نفسه ( ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً ) ، وهي رجع صدى لما سبق( سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً ) ، وهذا الصدى الأول . وهناك الصدى الثاني يحققه كل من هذين الموضعين أو السطرين مع سطر سابق ( إنك لن تستطيع معي صبراً ) الذي سبق له أن تكرر ثلاث مرات أخريات ، مما نشأ عن مجموع هذه التكرارات الخمسة إيقاع لازمة موسيقية ، تلتزم في مراحل القصة ، وفي تعاقب مشاهدها المتسلسلة .
    وهنا ننتقل من الدلالات المعنوية إلى أمثلة الدلالات الموسيقية للتكرار .
    الفاصلة

    للتقفية جمالها في الأدب ، كالقافية في الشعر والسجعة في النثر والفاصلة في القرآن الكريم . وتعريف الفاصلة : ( كلمة آخر الآية كقافية الشعر وسجعة النثر ) (22) . وهذه المصطلحات ليست تمييزاً لكل نص من النصوص التي ترد فيه وحسب ، بل هناك أيضاً فروق فنية جمالية بين كل منها ، لا سيما الفاصلة التي فاقت القافية والسجعة في مزاياها ومواصفاتها .
    القافية في الشعر العربي - وقبل ظهور شعر التفعيلة/الشعر الحديث – تسمى بأهم حرف من حروفها ، الذي هو حرف ( الرويّ ) ، مثل لامية الشنفرى ، وعينية ابن زُريق البغدادي . والعادة أن يلتزم الشاعر هذه القافية المتماثلة أو الروي الموحد من أول القصيدة حتى آخرها . أما الفاصلة في القرآن فلها ثلاثة أنواع : المتماثلة والمتقاربة والمنفردة (23).
    الفاصلة المتماثلة : هي التي تماثلت حروف رويها ، كقوله تعالى : ( والطور . وكتابٍ مسطور . في رِقٍ منشور ) .
    الفاصلة المتقاربة : هي التي تقاربت حروف رويها ، كتقارب الميم من النون : ( الرحمنِ الرحيم . مالكِ يومِ الدين ) . ومن التقارب أيضاً تماثل حركة الرويّ ، مثل حركة الفتح في فواصل سورة (الكهف ) .
    الفاصلة المنفردة – وهي نادرة – هي التي لم تتماثل حروف رويها ، ولم تتقارب ، كالفاصلة التي خُتمت بها سورة الضحى ( ...فحدِّثْ ) .
    هذه الأنواع الثلاثة حاول الشعر الحديث/التفعيلة ..النسج على منوالها ، أما هل هناك علاقة مباشرة ، كالتأثر بنظام الفاصلة (24) ، أو غير مباشرة ، فليست من غرض بحثنا هاهنا ، ونكتفي بهذه الإشارة .
    ما جاء من فواصل هذه القصة اقتصر على النوعين الأولين – وهما الغالبان في فواصل القرآن - ألا وهي المتماثلة والمتقاربة . ولما كنا ننظر إلى النص من خلال وحدته الفنية ، التي تفرض نفسها ، نشأ عن اجتماع الفواصل المتماثلة مع المتقاربة نسق الفواصل المتقاربة ، بسبب تنوع الفواصل المتماثلة من جهة ، وانضمام المتقاربة إليها من جهة ثانية .
    لن نتناول ها هنا علاقة كل فاصلة بآيتها ، لأننا ندرس الفواصل بنيوياً ، أي في علاقتها بمجموع القصة ، مع العلم أن للفاصلة جمالياً أربعة أنواع من العلاقة الموضعية بآيتها ، يمكن الرجوع إليها في كتابنا
    ( الفاصلة في القرآن ) ، وهي : ( التمكين – التصدير – التوشيح – الإيغال ) (25) .
    سبق أن رأينا البنية القصصية في هذه القصة قائمة على ثلاث مراحل متعاقبة : ( بداية – وسط – نهاية ) ، وأن العلاقة بينها ليست الترتيب والتسلسل وحسب ! بل علاقة تشابك والتحام عضويين ، فالمرحلة الثانية ، لا تكمل الأولى الممهدة لها وحسب ، بل تنبني عليها بناء ، لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر . وهكذا الخاتمة أو النهاية ، التي هي تتويج وخلاصة وحل للعقد التي اشتبكت في الوسط بالذات ، و ردّ لعجزها على صدرها في التعقيب : ( تأويل ما لم تسطع عليه صبراً ) .
    الفاصلة هنا تؤدي أدواراً متعددة متنوعة ، منها الموازاة البناءة للمراحل القصصية من جهة ، ولمجموع القصة الكلي من جهة أخرى .
    أولاً : اطردت حركة الفتح في فواصل النص كلها : ( حُقبا – قَصصا – صَبرا ...) ، وهذا الإيقاع الموسيقي ، يعطي انطباعاً موحداً للنص كله ، يذكِّر بوحدة الروي مجرد تذكير لا غير . وسوف نلحظ حركة الفتح هذه ، وهي تنقل هذه العلاقة من وحدة موضعية إلى وحدة جامعة لوحدات أخرى في سورة ( الكهف ) ، تتألف من مجموعها السورة . كما نلحظ عاملاً توحيدياً آخر ألا وهو الوزن العروضي المطرد في فواصل القصة : ( فَعَلن – فَعْفن ) ، مضافاً إليهما أحياناً وزن : ( فاعلن ) في بقية فواصل السورة .
    ثانياً : المرحلة الأولى من هذه القصة ( الآيات 60 – 70 ) تنوعت فواصلها المتقاربة ، أكثر من تنوع المرحلتين التاليتين . ففواصل الآيات الأربع الأولى منها ، وهي تشكل وحدة جزئية فيما بينها ، جاءت على رويّ الباء ( حقباً – سربا – نصبا – عجبا ) . وفواصل الآيات الثلاث التالية ، وهي تشكل وحدة جزئية أخرى انتقالية بين ظهور شخصية الرجل الصالح وغياب شخصية فتى موسى ، تنوعت حروف رويها مع احتفاظها بحركة الفتح : ( قَصَصاً – عِلْماً – رُشْداً ) . وفواصل الآيات الأربع الباقية عادت إلى توحيد الروي ، لكن على حرف الراء ، وهو الروي الذي ظهر بظهور شخصية الرجل الصالح ، وسوف يستمر باستمراره حتى يغيب : ( صبراً – خُبراً – إمراً – ذكراً ) .
    ففي الوقت الذي تنوعت فيه حروف روي الجزء الانتقالي الثلاثة ، توحدت حروف روي بدايته وختامه أربعاً أربعاً ، تمهيداً للدخول وانسياباً مع الانتقال .
    فواصل المرحلتين التاليتين ( الآيات 71 – 78 ) ( 79 – 82 ) ، ومجموعها اثنتا عشرة فاصلة ، كلها على روي الراء ، ما عدا فاصلتين اثنتين ( غصباً : 79 – رحماً : 81 ) في المرحلة الأخيرة ، حيث يميل توتر الصراع إلى الهدوء مع الحل ، كما بدأت الفواصل تتنوع في البدايات من المرحلة الأولى ، على حين بلغ تماثل حروف الروي أوجه في مرحلة الوسط ، حيث ذروة التوتر ، وحيث الذرى الثلاث : ( خرق السفينة- قتل الغلام – بناء الجدار ) ، تتضامّ ، لتشكل ذروة كبرى .
    إذا دققنا أكثر في علاقات الفواصل التكوينية فيما بينها نقع على طرائف مدهشة ، تنهض بدور خفي جميل
    لطيف في الترجيع للمعاني والأصداء ، نذكر منها على سبيل المثال فاصلة ( غصباً : 79 ) على رويّ الباء في مطلع المرحلة الأخيرة ، تتناغم ، ولو من بُعد مع فواصل الباء الأربع في مطلع المرحلة الأولى : ( حُقباً – سرباً – نصباً – عجباً ) ، وأن فاصلة ( رُحماً : 81 ) على رويّ الميم في وسط المرحلة الأخيرة ، تتناغم مع فاصلة وحيدة ( عِلماً ) في وسط المرحلة الأولى أيضاً . هاتان الفاصلتان المتناغمتان مع المرحلة الأولى ، وهما النصف العددي لفواصل المرحلة الأخيرة الأربع ، تقابلهما فاصلتا ( كفراً: 80 – صبراً : 82 ) من حيث تماثلهما في حرف الروي ، ومن حيث تناغمهما مع فواصل المرحلة الثانية التي جاءت كلها أيضاً على رويّ الراء . والأطرف أن هذه الفواصل الأربع الأخيرة ، تتناوب فيما بينها على التوالي هكذا : ( غصباً – كفراً – رحماً – صبراً ) ، فتحقق بذلك التنوع في الوحدة أيما تحقيق وأجمله .
    عدد الفواصل في كل مرحلة يعكس عدد الآيات أو حجم المساحة لكل مرحلة ، ويعكس في الوقت نفسه عدد الشخصيات بشكل متوازٍ متناسق ، يزيد بزيادتها ، ويقل بقلتها : المرحلة الأولى تشمل ( 11 ) إحدى عشرة فاصلة أو آية ، وثلاث شخصيات ( موسى وفتاه والرجل الصالح ) . المرحلة الثانية تشمل ( 8) ثماني فواصل أو آيات ، وشخصيتين تتحاوران ( موسى والرجل الصالح ) . المرحلة الأخيرة تتكلم فيها شخصية واحدة هي شخصية الرجل الصالح ، فلم تشمل إلا ( 4) أربع فواصل أو آيات .
    التنوع ضمن الوحدة

    سبق أن أشرنا إلى دور حركة الفتح وإلى وزن ( فعلن ) العروضي التوحيديين في الفواصل بالنسبة إلى قصة موسى والرجل الصالح ، وبالنسبة إلى بقية سورة ( الكهف ) ، كما رأينا كيف تقاربت أو ائتلفت فواصلها التي تنوعت حروف رويها بين ( الراء : 14 مرة ) و( الباء : 5مرات ) و( الميم : 2 مرتين ) وكل من ( الدال والصاد : 1 مرة واحدة ) . مع العلم أن الميم والباء حرفان شفويا المخرج ، وحروف الراء والصاد والدال لسانيات ، ومخرجا الشفة واللسان متقاربان . هذا جانب من عوامل الوحدة والتماسك الجزئية والكلية .
    هناك عاملان آخران في الأقل ينهضان بمثل هذا الدور : أحدهما اتساق الغرض الخاص لقصة موسى والرجل الصالح مع الغرض العام للسورة ، التي تلتقي فيه وحدات السورة الأخرى ، ألا وهو : ( تصحيح العقيدة ، وتصحيح منهج الفكر والنظر ، وتصحيح القيم بميزان العقيدة ) (26) . ثانيهما : مدخل القصة التي نحن بصددها : ( وإذ قال موسى لفتاه ..) ، وهذا المدخل يذكرنا بمداخل الوحدات الأخرى ، وهي :
    ( أم حسبتَ أن أصحابَ الكهفِ والرًّقيمِ كانوا من آياتِنا عَجَباً) (9).
    ( واضرِبْ لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتَينِ من أعناب ، وحففناهما بنخل ، وجعلنا بينهما زرعاً ) (32) .
    ( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا ، كماءٍ أنزلناه من السماء ، فاختلط به نباتُ الأرض ، فأصبح هشيماً ، تذروه الرياحُ ، وكان الُله على كل شيءٍ مُقتدراً ) (45) .
    ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدمَ ، فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ، ففسقَ عن أمرِ ربهِ ، أفتتخذونه وذُريتَه أولياءَ من دوني ، وهم لكم عدوّ ؟ بئس للظالمين بدلاً ) (50) .
    ( وإذ قال موسى لفتاه : لا أبرح حتى أبلُغَ مجمع البحرين أو أمضي حقباً ) (60) .
    ( ويسألونك عن ذي القرنَينِ . قل : سأتلو عليكم منه ذِكراً ) (83) .
    في أربعة من هذه المداخل الستة يُخاطب الرسول محمد – عليه السلام – مباشرة نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي أم حسبتَ .. واضرب لهم مثل الحياة .. واضرب لهم مثلاً ..ويسألونك عن ذي القرنين ...) ، كما أن حروف الاستئناف تفتتح بها جميعاً ، فترتبط هذه الوحدات بسورة الكهف ارتباط عناقيد العنب بداليتها .
    والقصص هو العنصر الغالب في هذه السورة . ففي أولها تجيء قصة أصحاب الكهف ، وبعدها قصة الجنتين ، ثم إشارة إلى قصة آدم وإبليس ، وفي وسطها قصة موسى مع العبد الصالح ، وفي نهايتها قصة ذي القرنين . ويستغرق هذا القصص معظم آيات السورة ، فهو وارد في إحدى وسبعين آية من عشر ومئة آية ، ومعظم ما يتبقى من آيات السورة هو تعليق أو تعقيب على القصص فيها . وإلى جوار القصص بعض مشاهد القيامة ، وبعض مشاهد الحياة التي تصور فكرة أو معنى ، على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير (27) .
    على أن الجامع الفني العام لوحدات سورة ( الكهف ) هو نموذج ( المَثَل ) ، الذي صرح به القرآن نفسه : ( واضرب لهم مثلاً ...) ( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا ..) . وقد ذكر الباحثون للمثل ثلاثة أنواع ، جاء منها نوعان في القرآن الكريم : الأول : المثل الموجز السائر . والثاني : المثل القياسي ، وهو سرد وصفي أو قصصي ، أو صورة بيانية لتوضيح فكرة ما عن طريق التشبيه والتمثيل ، ويسميه البلاغيون : ( التمثيل المركب ) ، لغرض التأديب والتهذيب ، أو التوضيح والتصوير ، وأكثر أمثلة القرآن الكريم والحديث الشريف منه (28) . لذلك هناك من يرى أن ( أن من الممكن أن تُعدّ جميع قصص القرآن أمثالاً قصصية قرآنية ، لأنها لا تكاد تختلف عن القصص التي عدّها القرآن أمثالاً ، ونصّ على مِثليتها ، وقد قصد منها العظة والعبرة ) . (29) .
    الحـوار في سورة الكهف
    ثمة ظاهرة تسترعي الانتباه في سورة ( الكهف) ألا وهي وفرة الحوار ، والحوار حديث يدور بين اثنين في الأقل ، أو هو كلام يقع بين الأديب ونفسه أو من ينزله مقام نفسه (30) ، وهو من عناصر القصة أو المسرحية بشكل خاص .
    يشغل الحوار في هذه السورة ثلاثة أرباعها تقريباً ، فآياتها التي تعد مئة وعشر آيات ، منها ثلاث وثمانون آية في الأقل حوارية . والحوار فيها لا يختص بالقصص الأربع التي تقوم عليها ، بل يشمل الخط الواصل بين هذه القصص جميعاً ، وهو مخاطبات الله تعالى لرسوله محمد عليه السلام ، وهو الخط الأول الذي جاءت القصص ( ضرب أمثال) لتعززه وتكمله في بناء السورة الكلي . واثنتان من هذه القصص- وهما قصة صاحب الجنتين وقصة النبي موسى والرجل الصالح - يغلب عليهما الحوار حتى كادتا تتحولان إلى حواريتين .
    في هذا الحوار تنوعت الأطراف المتخاطبة ، ولم يقتصر الحوار على المخاطبات البشرية ، فهناك خطاب من الله تعالى لرسوله محمد عليه السلام ، وآخر من الله تعالى إلى الملائكة ، ومن الله تعالى للعباد ، ومن العباد إلى الله تعالى ، ومن العباد للعباد ، وأخيراً خطاب النفس أو النجوى.
    وتنوع آخر في أزمنة الخطاب ، ففي الزمن الماضي ، وفي عالم الغيب : ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) ( الآية 50) ، وفي المستقبل المغيب أيضاً ، يوم القيامة ( ويوم يقول : نادوا شركائي ) ( الآية 52) ، وأما الزمن الحاضر بالنسبة إلى المتخاطبين فكثير .
    العادة أن يبدأ كل حوار بفعل ( قال) أو أحد مشتقاته ، ومع ذلك وردت عبارات حوارية مستغنية عن فعل ( قال) وعن أي إشارة صريحة للقول ، بمعنى أنها جاءت بشكل مباشر ، كما يفعل الحوار في المسرحية أو في بعض القصص ، وهو يكثر في مخاطبات الله تعالى لرسوله الكريم ، مثل ( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً ) ( الآية6 ) وقوله : ( وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ..) (الآية 17 ) . ومن البدايات المفاجئة : مخاطباً الفتية أهل الكهف : ( فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربُّكم من رحمته ، ويهيىء لكم من أمركم مرفقاً ) ( الآية 16)أو مخاطباً الظالمين الموالين للشيطان من البشر : ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدوّ . بئس للظالمين بدلاً ) ( الآية 50) ، وقد وردت هذه البدايات في سبعة مواضع ، يضاف إليها صيغة شبيهة بالقول مرتين ، وهما : ( واضرب لهم مثلاً ) ( الآية 32) ,( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا) ( 45) .
    أنواع الحوار:
    يمكن أن نميز نوعين من الحوار . الأول: الحوار السردي ( القص) ، ووظيفته الإخبار ، ونجده في الخط الأول من بناء السورة ، فيه يخاطب الله تعالى رسوله محمداً عليه السلام بألوان من الخطاب مثل خطابات التلقين والتفهيم أو التأييد مثلاً ، ومثل التمهيد للقصص أو التعليق عليها . فمن خطابات التلقين قوله تعالى : ( قل : إنما أنا بشرٌ مثلُكم يُوحى إليَّ أنما إلهكم إلهٌ واحد ، فمن كان يرجو لقاءَ ربِّهِ فليعملْ عملاً صالحاً ، ولا يُشركْ بعبادةِ ربِّهِ أحداً ) ( الآية 110) . وفي التمهيد لقصة أهل الكهف ، قوله تعالى : ( أم حسبتَ أن أصحابَ الكهفِوالرَّقيمِ كانوا من آياتنا عجباً) ( الآية 9) ، وفي التعليق عليها ، قوله تعالى : ( ولبثوا في كهفهم ثلاثَ مئةِ سنين وازدادوا تسعاً . قل : الله أعلمُ بما لبثوا له غيبُ السمواتِ والأرضِ أبصرْ به وأسمِعْ . ما لهم من دونه من وليٍ ولا يُشركُ في حكمهِ أحداً ) (الآيتان25و26) .
    أما النوع الثاني من الحوار ، فهو الحوار الجدلي (الدرامي ) ، وهو حوار يبرز فيه الصراع بين المتحاورين بالإضافة إلى الوظائف الأخرى مثل تصوير الشخصيات أو تنمية الحدث أو القص ، ونجد نماذجه في القصص الأربع لا سيما قصة صاحب الجنتين وقصة النبي موسى والرجل الصالح .
    ووظيفة الحوار العامة بث الحيوية في النص ، واستحضار الشخوص أمام السمع والبصر . وليس أفضل في معرفة الشخصيات ودخائل نفوسهم ووجهات نظرهم المختلفة مثل سماعهم يتكلمون بأنفسهم ، أو يحاجج بعضهم بعضاً .
    خطاب الله للملائكة :
    لم يرد إلا في بعض آية ، قوله تعالى : (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) ( الآية50) . ومن المعلوم أن الحوار مطلوب فيه الدقة والإيجاز ، كما أن من مزايا القصة في القرآن أن يساق القدر الموفي بالغرض منها ، ولو كان لمحة عابرة ، كما ورد في هذه العبارة الحوارية الدالة على قصة عصيان إبليس حين طلب منه السجود لأبينا (آدم ) عليه السلام . والدور الفني لهذه العبارة الحوارية تمهيدها للخطاب الموجه من الله للذين يوالون الشيطان في الآية نفسها : ( فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه . أفتتخذونه وذرّيته أولياء من دوني وهم لكم عدوّ . بئس للظالمين بدلاً ) . وهكذا تتناسق مع الموضوع العام للسورة الذي هو عقيدة التوحيد أي الولاء لله وحده والبراء مما سواه كالشيطان ، وتصحيح العقيدة وتصحيح منهج النظر والفكر على ضوء العقيدة .
    وسوف نلحظ كل الخطابات الموجهة من الله تعالى لخلقه من ملائكة أو رسول أو بشر ، تنحو منحى خطاب فرد يتكلم ، وهو الله تعالى ، والطرف الثاني يسمع أو لا يجيب ، وفي ذلك إيحاء بالهيبة والجلال بشكل عام . وحتى خطاب البشر إلى الله تعالى ، كالدعاء ، كما سوف نرى ، يقتصر على كلام طرف واحد أيضاً ، لكنه طرف البشر ، وهو يعكس ما في نفوس المتكلمين من خشوع وإجلال لله عز وجلَ .
    خطاب الله للعباد :
    ورد في خمسة مواضع ضمن آيات خمس ، أحدها مخاطبة الموالين للشيطان : ( أفتتخذونه وذريته أولياء ) ، ثانيها في آية أخرى مواجهتهم بتحدٍّ لا قبل لهم به قائلاً : ( ويوم يقول : نادوا شركائي الذين زعمتم . فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقاً ) ( الآية 52) . وقد سبقت الإشارة إلى دور هذين الموضعين في القص والتناسق مع الموضوع العام ، ثالثها توجيه فتية الكهف المؤمنين إلى الملاذ الآمن : ( فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ، ويهيىء لكم من أمركم مرفقاً ) ( الآية 16) ، ووظيفته سرد واقعة من جهة ، وبيان مقدار حب الله وحمايته لهم ، وتوفير الأمن والسلامة لهم ، جزاء على صدق ولائهم من جهة ثانية . رابعها مخاطبة منكري البعث بعد الموت وقد قامت القيامة فعلاً، وسيرت الجبال ، وحشروا صفاً لم يُستثنَ منهم أحد : ( لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ، بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعداً ) ( الآية 48) ، ووروده مفاجئاً يزيد من التخويف والوعيد . خامسها خطاب ذي القرنين : ( قلنا يا ذا القرنين . إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حُسناً ) ( الآية 86) ، ووظيفته تسمية الرجل أو الشخصية الرئيسة في قصته ، والتعريف بجوانبها ، كالقوة التي حباه الله إياها ، والشروع بالأحداث التي سوف يقوم بها ، مستخدماً فيها هذه القوة العادلة الراشدة ، مما يكمل القصة المرتبطة بموضوع السورة العام ارتباط ( المثل) بما يضرب له عادة . وهو هنا صحة عقيدة ذي القرنين ، وولاؤه الكامل لمولاه ، كصحة عقيدة الفتية المضطهدين . وهنا تقابل يحقق التناسق بين قصتين من سورة واحدة ، فالفتية أهل الكهف من الرعية المظلومة ، على حين جاء ذو القرنين حاكماً عادلاً ، لا يظلم أحداً . أما حين يجتمع الظالم والمظلوم على صعيد واحد ، مثل صاحب الجنتين والرجل المؤمن ، أو حين يلتقي التلميذ والمعلم ، كالنبي موسى والرجل الصالح ، فالحوار يحتاج إلى اشتباك جدالي ، وتبادل مباشر في الخطاب والمحاجة ، كما سوف نرى .
    خطاب من العباد إلى الله ، الدعاء :
    ورد في موضع واحد وفي آية واحدة ، قوله تعالى على لسان فتية الكهف المؤمنين : ( ربَّنا آتِنا من لدُنكَ رحمةً وهيّىء لنا من أمرِنا رشداً ) ( الآية 10) . الخشوع في الخطاب واضح ، والتماس العون والسداد من الله تعالى وحده ، واضح أيضاً . وهذا يتناسق مع موضوع السورة العام وهو : عقيدة التوحيد وتصحيحها ، وإذا سألتَ فاسألِ الله ، وإذا استعنتَ فاستعنْ بالله .
    خطاب الله للرسول محمد :
    وهو خطاب حافل ورد في عشرة مواضع ضمن ثلاث وثلاثين آية ، وهذا يتسق مع بناء السورة الذي قام على خطين ، أولهما : مخاطبة الرسول عليه السلام وصحبه الكرام في العهد المكي للتثبيت والتلقين والتفهيم والمواساة وغير ذلك مما سوف نبينه .
    ويمكن أن نميز في هذا الخطاب نوعين أو مستويين من الخطاب ، أحدهما يقصد به الرسول عليه السلام شخصياً ، كقوله تعالى : ( واتلُ ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحداً . واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيِّ يريدون وجهه ، ولا تعدُ عيناكَ عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ، ولا تُطعْ من أغفلنا قلبه عن ذكرِنا ، واتَّبعَ هواهُ ، وكان أمرهُ فُرُطاً .) (الآيتان 27و28) وغرضه التعليم والتفهيم والصبر مع المؤمنين في إخلاص الوجه لله عز وجلّ . وجاء قسم وافر منه في تلقين الله تعالى رسولَه المواقف والحجج والبراهين في مواجهة المشركين ، مثل الآيات السبع التي اختتمت بها السورة مبدوءة بلفظ ( قل ) ثلاث مرات : ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً ...) ( الآيات 103- 108 ) (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً . قل : إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد ، فمن كان يرجو لقاءَ ربه فليعملْ عملاً صالحاً ولا يُشركْ بعبادة ربه أحداً ) ( الآيتان 109و110) .
    المستوى الثاني يُخاطب به الرسول أيضاً لكنه معدول عنه إلى غيره لغرض بلاغي ، مثل قوله تعالى ( وترى الشمسَ إذا طلعت تَزاورُ عن كهفِهم ذاتَ اليمين وإذا غربتْ تَقرضهم ذات الشمال .. وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود ، ونقلبهم ذاتَ اليمين وذات الشمال .... لو اطلعتَ عليهم لوَلّيتَ منهم فراراً ولملئتَ منهم رُعباً) ( الآيتان 17و18 ) ، فالرسول لم يكن في زمن الفتية حتى يرى الشمس حين تطلع عليهم أو تغرب ، أو لم يطلع عليهم ليخاف ، ولا المقصود به الرسول وحده في الرؤية أو الاطلاع ، بل الناس كافة ، من خلال مخاطبة جنس البشر في شخص الرسول عليه السلام . وهذا المستوى غرضه السرد أو القص بشكل واضح ، وقد غلب على آيات الخط الأول ، مما عمل على استكمال جوانب القصص والأحداث المروية تمهيداً وتعقيباً وعرضاً ، وأسهم في تحديد الأزمنة والأمكنة بالإضافة ، إلى وصف الشخصيات وصفاً تحليلياً أيضاً .
    على أن في هذا القسم من الخطاب مظهراً من مظاهر الإعجاز البياني في القرآن الكريم ، لأنه ليس من مألوف البشر أو الأدب العربي أن يخاطب المتكلم نفسه ذاتاً أخرى مباينة كل المباينة ، وهذا خطاب يختلف عن النجوى المعروفة ، فـ( من الواجب أن نذكر – أولاً – مدى التباعد الرئيسي البيّن في الحوار بين الذات المتكلمة الآمرة الحازمة ، والذات المضطربة المجفلة ) (31) ، كما يقول مالك بن نبي تعليقاً على صيغة ( اقرأ) التي نزلت في أول آية قرآنية أوحيت على الرسول ، ويضيف الرجل قوله : ( وسنجد فيما بعد ، وإلى النهاية ، أن الذات المحمدية لن تتحدث مع الذات المتكلمة حين تخاطبها ، وهذا الصمت – في ذاته – جدير بالملاحظة ، لأنه يسجل إدراك الرسول صلى الله عليه وسلم النهائي أمام الظاهرة ، التي سيقف منها منذ ذلك الحين موقف التسليم ) ( 32) .
    خطاب العباد بعضهم بعضاَ :
    ورد في خمسة مواضع , وشغل مساحة أربع وثلاثين آية ، وهو حوار في أكثره جدلي ، تبرز فيه الخلافات والمحاجة والانفعالات العاطفية ، وتتباين المواقف حتى تبلغ القمة ، ثم تهدأ وتستقر أخيراً . فمما يظهر القلق النفسي والخوف من بطش الطغيان قول الفتية أهل الكهف لبعضهم : ( فابعثوا أحدكم بِوَرِقِكم هذه إلى المدينة ، فلينظرْ أيها أزكى طعاماً ، فليأتكم برزق منه ، وليتلطَّفْ ، ولا يُشعِرَنَّ بكم أحداً . إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يُعيدوكم في ملتهم ، ولن تُفلحوا إذن أبداً ) ( الآيتان 19و20) .
    ومما يرسم الشخصيات حتى يحولها إلى نماذج بشرية من نوعها ، ذلك الحوار الذي دار بين الغني المتغطرس والفقير المؤمن : ( فقال لصاحبه ، وهو يحاوره : أنا أكثر مالاً وأعزُّ نفراً . ودخل جنته وهو ظالم لنفسه . قال: ما أظن أن تبيد هذه أبداً ، وما أظن الساعة قائمة ، ولئن رُددتُ إلى ربي لأجدنَّ خيراً منها منقلبا . قال له صاحبه وهو يحاوره : أكفرتَ بالذي خلقكَ من ترابِ ثم من نطفة ثم سوّاكَ رجلاً : لكنَّا هو الله ربي ، ولا أُشركُ بربي أحداً . ولولا إذ دخلتَ جنتَكَ قلتَ : ما شاءَ الُله ، لا قوةَ إلا بالله . إن تَرَنِ أنا أقلَّ منك مالاً وولداً ، فعسى ربي أن يُؤتيَني خيراً من جنتك ، ويُرسِلَ عليها حُسباناً من السماءِ ، فتُصبحَ صعيداً زَلَقاَ ، أو يُصبِحَ ماؤها غوراً ، فلن تستطيعَ لهُ طَلَباَ ) ( الآيات 34- 41 ) .
    ومما يُلحظ فيه الصراع الصاعد إلى درجة التأزم والقمة ثم الحل بالإضافة إلى تصوير الشخصيات تصويراً حياً ، ذلك الحوار الذي دار بين النبي موسى والرجل الصالح : ( قال له موسى : هل أتبعُكَ على أن تُعلمني مما عُلِّمتَ ُرشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا ، وكيف تصبر على ما لم تُحط به خُبْرا . قال : ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً . قال : فإن اتبعتَني فلا تسألني عن شيء حتى أُحدِثَ لك منه ذِكرا . فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها . قال : أخرقتَها لتُغرق أهلَها لقد جئت شيئا إمراً . قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً . قال : لا تؤاخذني بما نسيتُ ولا تُرهقني من أمري عُسراً . فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله . قال : أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئتَ شيئاً نُكرًا . قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً ، قال : إن سألتُك عن شيءِ بعدها فلا تُصاحبني قد بلغتَ من لدُنّي عُذراً . فانطلقا حتى إذا أتيا أهلَ قرية استطعما أهلها فأبَوا أن يُضيِّفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضَّ فأقامَه ، قال: لو شئتَ لا تخذتَ عليه أجراً . قال : هذا فراقُ بيني وبينِك سأُنبئُك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً . أما السفينة فكانت لمساكينَ يعملون في البحر ، فأردتُ أن أعيبَها ، وكان وراءهم ملكٌ يأخذ كل سفينة غصباً . وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانًا وكفراً . فأردنا أن يُبدلَهما ربُّهما خيراً منه زكاة وأقرب رُحْما . وأمّا الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنزٌ لهما وكان أبوهما صالحاً ، فأراد ربُّك أن يبلغا أشُدَّهما ، ويستخرجا كنزهما رحمةً من ربك وما فعلتُه عن أمري . ذلك تأويل ما لم تسطعْ عليهصبراً ) ( الآيات 66-82) .
    في كل من المشهدين الحواريين السابقين كانت تطرح قضية فكرية مختلف عليها ، ويظهر فيها طرفان ، ثم تدور معركة حجاج تنتهي بنتيجة انتصار موقف أحدهما على الآخر . ففي المشهد الأول كان الغني البطر طرفاً أولاً معتداً بماله وولده وبزعم الغلبة له في الدنيا وحتى الآخرة على الطرف الآخر ، وهو الفقير المؤمن المعتمد على الله حق الاعتماد ، ولما أُحيط بجنتي الرجل وبالثمر .. خسر المعركة ، فأعلن ندمه قائلاً : ( يا ليتني لم أُشرك بربي أحداً )بعد فوات الأوان ( ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً . هنالك الولاية لله الحق ، هو خير ثواباً وخير عُقباً ) (الآيتان43و44).
    وفي حوارية النبي موسى الطرف الأول ، والرجل الصالح الطرف الثاني ، كانت القضية المطروحة محدودية علم البشر أمام علم الله تعالى أو الغيب الذي عُلِّمه الرجل الصالح ، فالعلم البشري المحدود بظاهر الأمور لم يستسغ ( خرق سفينة المساكين ، ولا قتل الغلام بلا ذنب ، ولا بناء جدار بلا مقابل في قرية بخيلة ) فكانت النتيجة أن أوضح الرجل الصالح ما خفي من سر هذه الوقائع لموسى واحدة واحدة ، تحقيقاَ لحكمة الله وعدله وسعة علمه . وهكذا تصب كل من القضيتين المطروحتين في الموضوع العام للسورة : عقيدة التوحيد وتصحيح الفكر والنظر على ضوء هذه العقيدة .
    أما الحوار المتعلق بفتية الكهف ، فله ثلاثة مشاهد ، أولها الخلاف مع قومهم حول التوحيد : ( لن ندعوَ من دونه إلهاً لقد قُلنا إذن شَطَطاً . هؤلاء قومنا اتخذوا م دونه آلهة لولا يأتون عليه بسلطان بيّن ، فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ) ( الآيتان 14و15 ) ، والمشهد الثاني خلاف بين الفتية أنفسهم حول المدة التي قضوها نائمين ، فاتفقوا على أن العلم اليقيني بذلك لله تعالى وحده : ( قالوا : ربكم أعلمُ بما لبثتم ) (الآية 22) ، والمشهد الثالث خلاف قومهم بعد مئة سنة ويزيد حول وضعهم وعددهم : ( إذ يتنازعون بينهم أمرهم ، فقالوا ابنوا عليهم بنياناً ربُّهم أعلمُ بهم .... سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب ..) ( الآية 22) ، ومرة أخرى يردّ العلم الحقيقي إلى الله عزّ وجل : ( قل ربي أعلمُ بِعدتِهم ..) (الآية 22) ( قل اللهُ أعلمُ بما لبثوا ...أبصِرْ به وأسمِعْ..) ( الآية 26 ) . انسجاماً مع الموضوع العام للسورة أيضاً .
    أما حوار ذي القرنين مع رعيته فلا نكاد نحس فيه خلافاً : ( قالوا : يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ، فهل نجعلُ لكَ خَرْجاً على أن تجعلَ بيننا وبينهم سدّاً . قال : ما مكنّي فيه ربي خيرٌ ، فأعينوني بقوة أجعلْ بينكم وبينهم ردماً ) ( الآيتان 94و95 ) ، بل نشهد رحلات ذي القرنين شرقاٌ وغرباً وحتى بين السدين منتصراً ، ولا تطغيه القوة ولا الانتصارات ، إذ يُرجع كل ذلك إلى فضل الله عليه ، وإلى أن القوة الحقيقية هي قوة الله وحده ، لا سيما بعد إنجازه بناء الردم وصبه الحديد المصهور ، وعجز قوم يأجوج ومأجوج عن أن يظهروه أو ينقبوه فـ: ( قال : هذا رحمة من ربي ، فإذا جاء وعدُ ربي جعله دكَّاءَ وكان وعدُ ربي حقاً ) ( الآية 98) ، وهذا انصباب آخر في موضوع السورة العام.
    حوار العباد كان منوعاً بين الرعية والرعاة ، بين الظالم والمظلوم ، بين العالم والمتعلم ، بين العامة أنفسهم . وكان كله يتجه بانسجام إلى موضوع السورة العام . وهذا لون من ألوان الربط الفني والإحكام .
    خطاب النفس ، النجوى :
    ليس أصدق من كلام النفس في التعبير عن مكنوناتها ودخائلها ، وليس أقوى منه في التأثير على السامع أو المتلقي أيضاً ، لأنه حديث صريح ، يكشف المخبوء بلا حرج أو مواربة . وهذا المخبوء قد يكون بسبب الخوف أو الحياء أو ملابسات أخرى تحول دون التصريح به . وبذلك يضاف إلى مزايا الصراحة مزايا الكشف عن مجهول .
    ولما كانت النفس الإنسانية هدفاً أساساً في الخطاب القرآني للهداية والتزكية ، كان هذا اللون من الخطاب ذا أهمية مضاعفة في سورة الكهف ، لانسجامه مع هدف السورة العام من جهة ، وتناسقه مع هدف القرآن العام من جهة ثانية .
    ويكتسب هذا اللون من الخطاب جانباً آخر من الأهمية وروده في نهاية المواقف أو المصائر ، بمثابة ختام أو تعليق أو نتيجة للمقدمة أو المقدمات التي سبقت ، التي قد تكون حوارات ونقاشات مفعمة بالحجج والانفعالات والمدّ والجزر في الأفكار ، أشبه ما تكون بحال غريق تلاعب به الموج العاصف ، ثم وصل أخيراً إلى اليابسة سالماً مُعافى . لكن اليابسة قد تكون برداً وسلاماً ، أو ناراً وسعيراً .
    يواجهنا ها اللون من الخطاب في ستة مواضع ، ضمن سبع آيات .
    اثنان منهما يتقابلان تقابل الضدين ، على الرغم من أن أحدهما في قصة صاحب الجنتين ، والثاني في قصة ذي القرنين ، الأول الغني البطران الطامع بربه بغير حقّ ، فيقول : ( ولئن رُددتُ إلى ربي لأجدنّ خيراً منها مُنقلباً ) ( الآية 36) ، والآخر المتواضع المستسلم لربه برغم كل ما تمتع به من قوة وسلطان مشرقاً ومغرباً وبناء السد والحديد المصهور ، يقول : ( هذا رحمة من ربي ، فإذا جاء وعدُ ربي جعله دكاءَ ، وكان وعدُ ربي حقاً )(الآية98)على أن تكرار لفظ الجلالة مع المضاف إليه ( ربي) ثلاث مرات فيه من الحلاوة والطلاوة ما فيه ، وبقدر ما يوجد في كلام ذي القرنين من الطمأنينة يوجد الشك في كلام صاحب الجنتين من استخدام (إن) حرف الشرط ، الذي يفيد الشك عادة وضعف الاحتمال . .
    واثنان آخران يعكسان الندم والحسرة الشديدين ، أحدهما في الحياة الدنيا ، بعد غرق الجنتين بالحسبان وتدميرهما، وتقليب صاحبهما كفَّيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها : ( ويقول: يا ليتني لم أشرك بربي أحداً ) (الآية 42) ، والثاني يوم القيامة والحساب في الآخرة : ( ويقولون : يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ووجدوا ما عملوا حاضراً ، ولا يظلم ربُّكَ أحداً ) (الآية 49) .
    والخامس نجوى الفتية أهل الكهف ، موحدين لله ، منيبين إليه بكل يقين واطمئنان : ( فقالوا : ربُّنا ربُّ السموات والأرض لن ندعوَ من دونهِ إلهاً ، لقد قلنا إذن شططاَ . هؤلاء قومُنا اتخذوا من دونهِ آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين ، فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ؟ ) ( الآيتان 14و15 ) .
    والسادس ، خطاب طريف من نوعه ، حين يستوي سرُّ الرجل وعلانيته في الاستقامة ، وهي حالة نادرة ، ألا وهو حديث ذي القرنين مع نفسه المؤمنة : ( قال: أما من ظلم فسوف نعذبه ، ثم يُردّ إلى ربه ، فيعذبه عذاباً نكرا . وأما من آمن وعمل صالحاً ، فله جزاءً الحسنى ، وسنقول له من أمرنا يُسراً ) ( الآيتان 87 و88 ) .
    تناسق الحوار مع بناء السورة :
    رأينا بناء السورة يقوم على خطين متوازيين : الأول خطاب الله تعالى لرسوله الكريم ، وهو في الوقت نفسه خطاب للجماعة المسلمة في العهد المكي ، والخط الثاني : هو القصص أو الأمثلة المضروبة لتعزيز الخط الأول تمثيلاً وتوكيداً وتوضيحاً . والمساحة التي يشغلها الخط الثاني ، حجمها أكبر بكثير من الخط الأول ، يكاد يكون الضعف ، بمعدّل ( 71 آية للثاني ) مقابل ( 39 للأول) . وقد جاء الحوار متناسقاً مع هذا البناء من وجهين :
    التناسق الأول كان في اتخاذ الحوار السردي وحده طوال مسيرة الخطاب الأول من الله تعالى لرسوله الكريم ، فالمولى تعالى وحده يتكلم ، والرسول مصغ صامت . على حين اتخذ الحوار الجدلي السمة الغالبة على الخط الثاني ، خط القصص أو الأمثلة ، حيث ارتفعت الأصوات وتباينت وتضاربت بين بني البشر . وهو تناسق أعمق مما نشير إليه ، لاستجابته لمنحنيات النفوس والمواقف في كل منهما ، ولطبيعة العلاقة بين المخاطبين : أي بين الله تعالى والعباد من جهة ، وبين العباد أنفسهم مثلاً .
    التناسق الثاني هو المساحة التي شغلها الحوار في كل من الخطين المتوازيين . فقد شغل الحوار السردي في الخط الأول ما مقداره ثلاث وثلاثون آية ، على حين شغل الحوار الجدلي ما مقداره أربع وثلاثون آية . وفي ذلك ما فيه من توازن خفي يعمل عمله في نفس المتلقي .

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    المشاركات
    15,952





    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سليمان أبو ستة مشاهدة المشاركة
    أحسنت أخي، أبا صالح، في جلب هذا المقال الجميل الذي يذكرني بمنهج الدكتورة بنت الشاطئ في تفسيرها البياني للقرآن. سوف أعتبر بعض ما صدر عنه من مصطلحات خاصة بالعروض والقافية نوعا من تقريب الفكرة للقارئ وخاصة من كانت له صلة بالشعر، ولعل هذا هو أحد أسباب إعجاز القرآن من حيث توجهه إلى قوم كانت ثقافتهم الأولى والوحيدة هي الشعر، ومع ذلك أدركوا أنه بعيد كل البعد عن الشعر وشياطينه.


    وكما أعجبني هذا المقال، ودخل مزاجي، كما يقال بالعامية، أثار المقال الذي سأرفق رابطا له، اشمئزازي. فالكاتب، وأنت تعرفه، يتحدث عن أسلوب القرآن وكأنه لا يختلف عن أسلوب شاعر من شعراء قصيدة النثر الذين أتخمونا بأطروحاتهم الأدونيسية.
    http://pdfstore.addustour.com/1/3/48/6-art.pdf
    أخي وأستاذي الكريم أبا إيهاب

    شكرا جزيلا لتعليقك القيم.

    تعلمت من الخليل معنى المنهجية.

    المبدأ ينتج منهجا تنبثق عنه أحكام



    كاتب النص الأول ( محمد الحسناوي ) ينطلق من مبدإ فكري إسلامي .

    كاتب النص الثاني ( مهدي نصير ) ينطلق من مبدإ فكري حداثي .

    ولذا اختلف منهجاهما واختلفت أحكامهما.

    زرت أستاذي المهندس مهدي نصير في بيته في الحصن وقد أكرمني وهو كريم دمث. وذو وضوح فكري وانسجام مع فكره في سائر الأمر.

    استوقفني قوله :" لذلك عادت في عهد بني أمية حركة الشعر إلى مألوفه الجاهلي"

    يوحي كلامه بأن حسان بن ثابت وجعفر بن أبي طالب وسائر شعراء صدر الإسلام خرجوا عن المألوف الجاهلي فيما يخص الشكل الشعري.


    لكأنه بقوله :" حيث قام النص القرآني بإعادة إنتاج هذه الأساطير والروايات "

    قد وضع نفسه مع من نزل فيهم قوله تعالى :


    " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ" (النحل - 24)


    فلا حول ولا قوة إلا بالله.


    ثمة رد لي على بعض آرائه في العروض. ولا يخلو الموضوع من بعد مبدئي على الرابط :

    http://arood.com/vb/showthread.php?t=5405



    يرعاك الله.

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    المشاركات
    15,952

    يقول الأستاذ الحسناوي : ومما يُلحظ فيه الصراع الصاعد إلى درجة التأزم والقمة ثم الحل




    أدع هذين الشكل المأخوذين من مؤشرات م/ع للآيات الكريمة المشروح من سنين على الرابط :

    https://sites.google.com/site/alarood/r3/Home/mosa



    الشكلان يتحدثان عن نفسيهما في تصوير التصاعد فالتأزم فالنزول في الحوار بين الرجل الصالح وموسى عليه السلام.


    الشكل الأول لمجمل الآيات بغض النظر عمن ذكرها تعالى على لسانه منهما.






    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي




    الشكل الثاني الأزرق ما ورد على لسان الرجل الصالح والأحمر ما ورد على لسان موسى عليه السلام.






    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


    وانظر كيف يمثل م/ع ما ذهب إليه الكاتب وكأنما كنت وإياه نعمل سوية في الكتابة والرسم:




    ويقول الأستاذ محمد الحسناوي : " في وسط القصة ذروة ، تتألف من ثلاثة مشاهد ،


    كل منها يشكل ذروة مستقلة ، لكن هذه الذرى تتضامَ لتشكل ذروة كبرى "




    قوله أعلاه :




    أ - المشاهد الثلاث التي يشكل كل منها ذروة هي الآيات : آ 71 – آ 74 – آ 77




    ب - في وسط القصة .........ذروة كبرى




    أ - الآية 74 تشكل منتصف الآيات 66- 81 تماما فما بينها وبين كل من آيتي البدء والنهاية 8 فراغات.




    ب - ثم هي ذروة كبرى كما ترى منن حيث ارتفاع المؤشر.



    دفعتني إلى التركيز على موضوع م/ع منذ سنين الآية 74 وهي قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام :


    " أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا "


    1 3* 3* 2* 3* 3* 3* 3* 2* 3* 2* 3* 2* 2* 2 ....م/ع 13 / 1 = 13.0



    وهنا يجيء التطابق الشديد بين عبارات الأستاذ محمد الحسناوي وموضوع م/ع ليزيد من احتمالات مصداقية الموضوع .


    حبذا لو أنتج أحد أعضاء الرقمي الموضوع بطريقة المؤشر التراكمي :




  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Feb 2015
    المشاركات
    1

    Thumbs up


    جهد مشكور -جزاكم الله خيرا- أخى استاذ محمد الحسناوى وبالذات فى تبيان البعد الموسيقى فى القرآن الكريم والذى أراده الله ليضفى على الآيات جمالا؛ ومذاقا سماعيا تطرب له الآذان وخاصة الأذن العربية التى تربت على موسيقى الشعر
    إضافة إلى تسهيل حفظه فى القلوب والذاكرة....
    وقد اختلف القرآن فى موسيقاه عن علم القافية كوجود الإيطاء مثلا.
    وعن عدم وجود وزن عروضى لآىاته الكريمة تأكيدا على نفى صفة الشعر عنه وأن موسيقاه جاءت ذات طابع خاص غير قياسى كما هو الحال فى الشعر..
    وان كانت بعض الآيات جاءت على الوزن العروضى دون قصد مثل:
    لن تنالوا البر حتى.. تنفقوا مما تحبون=
    232232=232232=مجزوء الرمل
    تبت يدا أبى لهب=
    22 3- 33 =مجزوء الرجز
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    المشاركات
    15,952
    جاء في مقال الأستاذ محمد الحسناوي حول فواصل سورة الكهف
    1- دور حركة الفتح:
    خلافاً لعلماء العروض والقافية .. تضفي فواصل سورة الكهف أهمية موسيقية على حركة ( الفتح) التي التزمتها حروف الروي ، هذه الحركة يسميها العروضيون ( وصلاً) ، ولا يعدونها رويّاً.
    حركة الفتح التي التزمتها فواصل سورة الكهف باطراد ، قامت مقام الروي ، فسوّغت تعدد حروف الروي ، ذات المخارج الموحدة ( المتقاربة ) : وهي ( حروف اللسان: ق – ج – ض – ل – ن – ر – د – ط – ص – ز) ، وغير الموحدة مثل ( حرف : ع : الحلقية ) و(الحروف الشفوية :ف – مب - و: المتحركة بالفتح ) . من أمثلة المخارج الموحدة أو المتقاربة فواصل: ( مِرْفَقا – عِوَجا – عَرْضا – عَمَلا – حَسَنا – نَهَرا – أَبَدا – فُرُطا – قَصَصا – جُرُزا ) ، وغير موحدة المخارج : ( تِسْعا – أَسَفا – عِلْما – هُزُوا - كَذِبا).
    2- غنى الفاصلة المتقاربة:
    الشعر العربي قديماً لم يعرف إلا القافية الموحدة أو المتماثلة ( ذات الروي المتماثل) ، أما فواصل القرآن ، فمنها المتماثلة والمتقاربة وحتى المنفردة.
    عرف العلماء الفاصلة ( المتقاربة ) بأنها التي تقاربت حروف رويها ، كتقارب الميم والنون الرحمنِ الرحيم . مالكِ يومِ الدين ) (8)، أو تقارب الدال مع الباء : ( ق ، والقرآنِ المجيد. بل عَجبوا أنْ جاءَهم مُنذرٌ منهم فقالَ الكافِرون : هذا شيءٌ عَجِيب ) (9) .
    أما فواصل سورة الكهف ، وباطراد حركة الفتح فيها ، فقد وسعت أفق الفاصلة ( المتقاربة) ، فلم تعد نقتصر على حروف الروي ذات المخارج المتقاربة ، بل ضمت حروف روي من ثلاثة مخارج : معظمها – كما رأينا – من مخرج اللسان ، وهي ( ق : 6 فواصل – ج:1 فاصلة واحدة – ض : 1 واحدة – ت : ثلاث عشرة – ن : 3 ثلاث – ر : 24 أربع وعشرون – د : تسع وعشرون – ط : 2 فاصلتان – ص : واحدة-
    ز : 1 واحدة ) إلى جوارها ( ع : 5 خمس فواصل ) وهي من مخرج الحلق ، والشفويات : ( ف : 2 فاصلتان – م : 3 فواصل – وَ: المتحركة بفتح : 2 فاصلتان – ب : 17 سبع عشرة فاصلة ) .
    لا يمكن تسمية فاصلة (ع ) الحلقية فاصلة ( منفردة ) ، لأنها وردت خمس مرات ، ومثل ذلك الفواصل التي جاءت حروف رويها ( شفوية ).
    نستنتج من ذلك أن الفاصلة المتقاربة تنويع وتلوين ، يثريان التقفية العربية ، فلا تقتصر على المتماثلة ، كما حاول الشعر الحديث ( شعر التفعيلة ) ذلك التنويع ، ثم إن توسعة أفق الفاصلة المتقاربة في تطبيقات فواصل سورة الكهف ، تزيد هذا التنويع غنى وجمالا.
    3- فواصل مختارة:
    لكل فاصلة من هذه الفواصل دورها وأهميتها في سياقها الجزئي أو الكلي ، لكن هناك بعض الفواصل تسترعي الانتباه ، نختار منها فاصلتين : ( هُزُواً) ( أَحَداً) .
    وردت فاصلةهُزُواًفي موضعين:
    الأول قوله تعالى :( وما نُرسِلُ المُرسَلِين إلا مُبشِّرِين ومُنذِرِين . ويُجادِلُ الذين كفروا بالباطلِ ، لِيُدحِضُوا بهِ الحقَّ، واتخذوا آياتي وما أُنذِرواهُزُوا) (الآية56) .
    الثاني قوله تعالى في السورة نفسها بعد خمسين آية :( ذلك جَزاؤُهم جهنَّمُ بما كفروا ، واتخذوا آياتي ورسلي هُزُوا) (الآية106) .
    إن تكرار فاصلةهُزُواًهنا تكرار فني مقصود ، لا يُراد منه أن تُذكر الثانية بالأولى من باب التناغم الموسيقي وحسب! بل يضاف إلى ذلك ، التعقيب بذكر العقاب ، الذي جاء نتيجة للجدال بالباطل ، واتخاذ الآيات والنذر والرسل مادة للهزء والسخرية ، بعد وصف أهوال القيامة :( وتركنا بعضَهم يومئذٍ يموجُ في بعضٍ ، ونُفخَ في الصُورِ ، فجمعناهم جمعاً . وعرضنا جهنم يَومئذٍ للكافرين عرْضاً . الذين كانت أعينُهم في غِطاءٍ عن ذكري ، وكانوا لا يستطيعُون سَمْعاً . أفحَسِبَ الذين كفروا أن يتخذوا عِبادي من دوني أولياء َ ؟ إنَا أَعتدنا جهنمَ للكافرين نُزُلاً . قُلْ هل نُنبئُكم بالأخسرِين أعمالاً . الذين ضلَّ سعيُهم في الحياةِ الدنيا ، وهم يَحسَبون أنهم يُحسِنون صُنعاً . أولئك الذين كفروا بآياتِ ربِهم ولقائهِ ، فحبِطت أعمالُهم ، فلا نُقيمُ لهم يومَ القيامةِ وزناً . ذلك جزاؤُهم جهنمُ بما كفروا ، واتخذوا آياتي ورُسُلي هُزواً ) (الآيات99 – 106) . وذلك كله بعد سرد قصة ذي القرنين الحاكم العادل القويّ ، الذي قال عن السدّ المحصن بالحديد والنحاس ممزوجين:(.. فإذا جاء وعدُ ربي جعلَهُ دكَّاءَ ، وكان وعدُ ربي حقاً )، وبعد قصة موسى والرجل الصالح ، التي أوضحت الفرق بين حكمة الإنسان المحدودة وحكمة الرحمن التي لا حدود لها ، فأين يذهب الساخرون المستهزئون بالأنبياء والرسل ، وبكلمات الله التي لا تنفد حين تَنفدُ كلمات البحر ، ولو جئنا بمثله مدداً ؟
    4- فاصلة (أَحَداً ) :
    هذه الفاصلة في سورة الكهف تنتمي إلى الفواصل الواردة على حرف (الدال) ، وفواصل الدال إحصائياً هي في الترتيب الأول ، إذ بلغ تعدادها ( 29: تسعاً وعشرين فاصلة ) ، على حين كان ترتيب الفواصل الأخرى ، كما يلي: ( الراء: 24- الباء : 17 – اللام: 13 – القاف : 6 ...) من عشر فواصل بعد المئة.
    ثم إن فاصلة ( أحداً) ، تكررت تسع مرات بلفظها في أواخر الآيات : ( 17 و19و22و26و38و42و47 و49و110) . ثم إن معناها في مواضعها كلها واحد ، ولم تخرج عن سياقين اثنين ، كل منهما متماثل مع نفسه:
    الأول : ( ...فلم نُغادرْ منهم أحداً ) ( ... ولا يظلمُ ربُكَ أحداً ) .
    الثاني : ( ... ولا يُشركُ في حكمهِ أحداً ) .
    ( .... ولا أُشركُ بربي أحداً ) .
    (.. يا ليتني لم أُشركْ بربي أحداً) .
    ( .. ولا يُشركْ بعبادة ربهِ أحداً ) .
    إن فاصلة ( أحداً ) تغتني بوفرة روي الدال في فواصل السورة ، ومن تكرارها بالذات ، ثم باتساقها مع الموضوع العام للسور المكية وهو ( عقيدة التوحيد ) ، ومع موضوع سورة الكهف الخاص : ( تصحيح العقيدة) . وما التصحيح غير إخلاص التوحيد ونبذ الشرك . وإذا تذكرنا أن آخر كلمة أو فاصلة في السورة هي لفظة ( أحداً ) أيضاً ، أدركنا مدى الدلالات المعنوية والجمالية التي تشع من تكرار هذه الفاصلة ، ومن المواقع التي تشغلها في ثنايا السورة وفي ختامها ، وذلك فضلاً عن دورها بختم السورة ، بمثل ما بدأت : إثباتاً للوحي ، وتنزيهاً لله عن الشريك.
    وما قيل عن فاصلة ( أحداً ) ، يمكن أن يقال عن فاصلة ( رَشَداً ) التي تكررت : 6 ست مرات أيضاً.
    وخلافاً لقواعد (العروضيين) فيما سموه ( الإيطاء ) من عيوب القافية في الشعر ، وتابعهم أهل السجع : وهو ( لا يجوز إعادة اللفظة بذاتها : بلفظها ومعناها ، وتجوز إعادتها بمعنى مختلف ، أو إعادة اللفظة ذاتها بمعناها بعد سبعة أبيات ) ((10 .. نقول : خلافاً للعروضيين جاءت فاصلة ( أحداً ) ، لتقر الجواز في أقل من ذلك بكثير ، وتقر جماله حين يحقق أحد القوانين السبعة من قوانين الإيقاع الجمالية الذي هو ( التكرار ) الفني."

    ليس ثمة من تطابق في البيانات بين ما تفضل به الأستاذ وما تم التطرق إليه في الرقمي.
    لكن العين لا تخطئ وجه الشبه في طريقة التناول الإحصائية.
    عندما يتقارب توجه التفكير تتقارب المبادئ والمناهج والنتائج.
    تناول فواصل صورة الكهف على الرابط:
    https://sites.google.com/site/alarood/r3/Home/fawasel-kahf
    تمثيل الفاصلة في سورة الكهف
    https://sites.google.com/site/alaroo...kahf-graph.gif

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



    م

    ؤوس الآيات
    الآيات
    1





    لا كَ ذِبا
    مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبا
    6







معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
الاتصال بنا
يمكن الاتصال بنا عن طريق الوسائل المكتوبة بالاسفل
Email : email
SMS : 0000000
جميع ما ينشر فى المنتدى لا يعبر بالضرورة عن رأى القائمين عليه وانما يعبر عن وجهة نظر كاتبه فقط