السلام عليكم

موضوع كثيرا ما أتابع الحوار حوله ، و أجد المحاورين بين متعصب متمسك بالشعر كما

عرفه الأولون شكلا و قابل للتحديث مضمونا ، و باحث عن التجديد في الشكل كما في

المضمون ، بل و مطالب به .

إن من الأدباء من يعتبر المسّ بمقومات الشعر العمودي هو خروج به عن منبته

و انحراف عن أصالته ، و نكران لصناعه ,،بل و مظهر من مظاهر التخلف و التقهقر

في العقل العربي .

بينما كنت أبحث ، صادفت مقالا طويلا لأحد الأدباء ـ أقتبس لكم منه ما يلي :

إن القصيدة في وعي الثقافة العربية مثل اللغة نسق نهائي. ولهذا المنطق
استنبط الخليل نسقين أو برنامجين نهائيين مطلقين للكائن والممكن،
للمستعمل والمهمل، هما دوائر العروض وتقليبات جذور المعجم. إن دوائر
العروض ليست في نظري شيئا آخر غير المجرات والأفلاك، فكل مجموعة من
البحور تدور حول قطب في إيقاع كوني. يؤدي المس به إلى الاختلاف وفساد
العالم الشعري إنه نسق نهايته في بدايته. فالمطلق لا يمكن أن يكون إلا دائريا
مثل الكون.
بعد هذا نقول: إن أي نموذج يكتمل يتألى وينتج نقيضه منه، غير أن الحسم
ليس رهينا بحالات جزئية (منها حالة الشعر) بل مرتبط بالدورة الحضارية
كلها. من هنا أصل إلى استنتاج أننا لسنا إلا حلقة من حلقات المخالفة، وأن
الدائرة ممتدة في القدم، وما تزال مفتوحة في كل الواجهات. وإذا كنا نعمل في
نطاق أطروحة واحدة وهي مناهضة التلاؤم القصيدي المطلق: قصيدة البيت
وبيت الشطرين، مناهضته بزرع نقيضه أي اللاتلاؤم، الذي سميناه نثرية،
فإن هذه العملية قديمة جدا يمكن تتبعها كما فعلنا في كتاب اتجاهات التوازن
الصوتي في الشعر العربي من زهير الذي يبدو مشاكسا للنموذج المثالي القديم
نموذج امرئ القيس، وصولا إلى بروز الأراجيز وشيوع الرجز في العصر
الأموي واقتحامه موضوعات كانت لا تقبل غير مهابة القصيد، وصولا إلى
تحويل البيت كله إلى شطر واحد أو دمج الشطرين كما فعل أبو العلاء بالبحر
الخفيف الذي يبدو، لولا القافية، قصيدة تفعيلية، خاصة حين تستعمل معه
أدوات الربط من عطف واستفهام. وأجدني ذاتيا أقرأ البيتين التاليين على
الشكل التالي:
غير مجد، في ملتي
واعتقادي
نوح باك، ولا ترنم
شادي.
وشبيه صوت النعي،
إذا قيس
بصوت البشير
في كل ناد.
أبكت تلكم الحمامة
أم غنت
على فرع غصنها
المياد.
بل إن التقسيمات النحوية التوازنية (التوازي) داخل الأبيات (مما سمي
ترصيعا وتطريزا وتسميطا) نازعت العروض سلطته ولم تترك له أكثر من
تمييز الفضاء الخاجي للنص، وهو الفضاء نفسه الذي يوفره اتساق التفعيلات
في القصيدة الحديثة، فأصبحنا، كما قال العسكري، أمام وزن (توازني) في
وزن (عروضي)، أي أمام وزن نثري يقوم على الأسجاع والمعادلات المقولية
والنحوية والتوازنات الترصيعيية الصوتية داخل الأوزان العروضية.

وقد جاءت الموشحات كمرحلة وسط بين هذا النزوع النثري في القصيد من
جهة والإيقاع اللهجي عن طريق الأزجال من جهة أخرى.

زمن امرئ القيس وزمن أبي تمام:


لنترك التنويعات الصغيرة التي ظهرت في طريق الحوار بين النموذج المكتمل
والصور المخالفة، ولنقفز إلى لحظة كاشفة انجلت فيها صور المخالفة، لحظة
قابلة لأن توصف بمعاناة سؤال الحداثة باعتبار وجود مشروع مخالف أو
يخالف. ولنجعل أبا تمام علامة ذلك الزمن، لاستبعاد ما يعايشه من بقايا
الزمن الآخر (يقال مثلا إن البحتري من تلك البقايا).
ما الذي تغير في كفاءة الملتقى بين زمن امرئ القيس وزمن أبي تمام؟
نقول: تغيرت الحساسية، تغيرت طريقة إدراك الأشياء، كان الشاعر القديم
يحيا العربية كجسد لا ضرورة للتفكير فيه ما دام حاضرا، بل قد يتعذر حتى
التفكير فيه لأنه هو الفكر نفسه. الشعر هو العلم وهو الشعور: (ليت شعري
ليت علمي)، كانت اللغة محسوسة ككتلة متراصة، كان الإحساس بالأصوات
والحركات كالإحساس بالألوان، وما أكثر التعابير التي دلت على ذلك: كان
الصوت هو الوحدة الأساسية، أما العصر العباسي عصر أبي تمام فكان عصر
الكلمة عصر إشكالية اللفظ والمعنى. صارت اللغة موضوعا للتأمل بعد أن
كانت ملتبسة بالوجود. ولقد أدى ظهور البلاغة في هذا المجال الرؤيوي
الجديد إلى صعوبة إدراك جانب من أسرار جمالية النص القديم مثل التسجيع

أو توازن الأصوات خارج الكلمات. فالتجنيس عرف باعتبار الكلمة والترصيع
عرف باعتبار الصيغة الصرفية. كان أبو تمام يشابك الكلمات: فتكون الكلمة
الواحدة طرفا في جناس وطرفا في طباق وطرفا في استعارة في الوقت نفسه،

في حين كان امرؤ القيس، يلذ بتنضيد الصوائت الخفية: الكسرة والفتحة
والضمة(15). ووقع عكس القضية في المجال الدلالي: كان امرؤ القيس يرى
الشيء في الآخر منفصلا عنه (التشبيه)، أما أبو تمام فكان يرى الشيء في
الشيء حالا فيه (الاستعارة).

ثم مع الكلمة ظهرت حساسية الخط (جناس الخط) أو مظهر الخط على
الصحيفة (التصحيف). وبدأت عملية مشاكسة التوازن على أوسع نطاق، وهذا
أمر مارسه أكابر الشعراء ولم يستسغه الاتجاه البلاغي الكلاسيكي أو المحافظ
كما نجد عند ابن سنان الخفاجي، وقد عرضنا لهذه القضية في كتابنا تحليل
الخطاب الشعري البينية الصوتية(16). في حين وجد الجرجاني في تجربة
الشعر الجديد أحسن الأمثلة لتوجهه الدلالي الذهني على حساب الأجراس
والأصوات فنشأت بلاغتان متمايزتان. وعموما فقد نشأت على هامش
النموذج المنسجم بلاغة منافرة متعددة الآليات، من آلياتها:

ـ النثرية والتنافر
ـ الفضاء البصري.

المقال :

http://www.aljabriabed.net/n18_07umari.htm