النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: فصل من الحروب الصليبية

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    المشاركات
    15,954

    فصل من الحروب الصليبية




    كان أولُ ما علمه الناس من أمر غزو الإفرنج بلاد الشام، أن أسراباً من النسور راحت ترمي بخواتمِ من أكلته من المسلمين على البلاد، وهي الواقعة التي قال فيها جمال الدين أبو الحسن علي بن الحسن الشاعر:

    طارت نسورٌ على بغدادَ ملقيةً | من الخواتمِ ما قد جاءَ بالخبرِ
    وأمطرت مطراً منها على حلبٍ | وفي دمشقَ فضاقَ الشامُ بالمطرِ
    وأصبحت مصرُ في أسواقها ذهبٌ | والموتُ في الذهب المنثورِ والأُطُرِ

    احكِ عن بركة العجوز، التي وجدها عمُّ أسامة بن منقذ تسحر في مقبرة شيزر، يوم كانت على النهر تغسل ملابس أولادها وكأنها لا ترى جيش الإفرنج يحاصرون البلد، ثم هجمت ترميهم بالملابس وتنظر إلى السماء، فقالوا ساحرة، وخافوا، ونزلوا.

    احكِ عن الزمركل، لص الخيول، كان يسرق من العسكرين في يوم واحد، ويقول: أنا أولَ اليوم لصّ، وآخرَ اليوم مجاهد!

    واحكِ عن الرجل الذي وضع مخلوقاً كالسمك.

    واحكِ عن التي اكتست بالشعر حتى لا يطأها مغتصبها، وكانت جميلة لولا الشعر.

    واحكِ عن مجانين يبحثون عن قرنِ وحيد القرن في القدس، واحكِ عن العقلاء الذين يعلمون يقيناً أنْ لا قرنَ للحصان، بل هو مجنّح، فهم يبحثون عن ريشه!

    وابدأ الحكاية من يوم غامت نسوراً وأمطرت خواتم وأسماء.. فقد ورد الخبرُ من بغداد، أنْ جاءها يومذاك قاضي دمشق، فخر الإسلام أبو سعد الهروي، ودخل مسجد الخليفة، وكسّر أعواد المنبر، ثم دخل مسجد السلطان وكسّر المنبر أيضاً.

    (قال الراوي: وفخر الإسلام هذا كان قاضياً أفطرَ في رمضان، إذ دخل عليه من نجا من أهل بيت المقدس ومعهم مصحف عثمان، يُقسمون عليه أن الدم في المسجد الأقصى بلغ رُكبة الفرس، وأقسم بعضهم: بل بلغ ركبة الفارس وهو راكب، وأن أجساد القتلى تداخلت كأنسجة البُسُط. وأفتى أن إسقاط تكليف الصيام أهونُ عند الله ميزاناً من إسقاط تكليف الجهاد).

    قالوا: أخذ الشُرَطُ أبا سعد إلى أمير المؤمنين المستظهر، فأورد في الديوان العزيز من الكلام ما أوجع القلوب وأبكى العيون. إلا أن أمير المؤمنين لم يستطع البكاء. كان يحاول جَهده ولا يقدِر، فأمر بـ”طسطٍ” من الماء ليتوضأ، ليظنّ الناس ماءَ الوضوء دمعاً، وخرج من المجلس فإذا بـجمال الدين الحسن بن الحسن الحلبي، الضرير، يعترض الموكب وهو يقول:

    أسماءٌ أصبحنَ سَمَاءً | وسماءٌ تُمطرُ أسماءً
    وإمامُ الدينِ ببغدادٍ | قد أشبعَ لحيتهُ ماءً
    يتوضّأ من غير صلاةٍ | كي يحسبهُ الناسُ بكاءً!!

    (قال الراوي: وكان جمال الدين هذا في عسكر أنطاكيةَ أشهُرَ الحصار، وانقطع في القلعة مع شمس الدين بن ياغسيان، ولما دخل الفرنجُ المدينة وحاصروا القلعة ثلاثة أشهر شهد كسرةَ عسكر الموصل ودمشق أمام الثغر، وانسلّ من المدينة ليلاً، فبلغ حلباً مشياً على قدميه).

    فعذَرَه الخليفة لعماه، وأمرَ الجند أن ينحّوه، فالتفتَ إليه أبو الحسن فإذا هو مُبصِر.

    فقال المستظهر: تعالى الله يا أبا الحسن! نراك مبصراً!!

    فقال أبو الحسن: ببركتكَ أبصرْنا يا أمير المؤمنين!

    فأمر له بـ صُرَّةٍ من الذهب، فأخذها، وأخرج صُرَّةً فيها من مطر الخواتم ما شاء الله، وقال: أما هذه فلك يا أمير المؤمنين، والله لم يبقى لها من وريث إلا أنت.

    ثم لطم البغلة بصرّة الدنانير، فانتثرت، وهاجت البغلةُ في وجه المستظهر.

    قال المستظهر: كنتَ أحسنَ اخلاقاً وأنت أعمى يا هذا!

    فأنشد الجمال يقول –اسمعوا وصلّوا على طه الرّسول–:

    فدى هذا العمى عمّي وخالي | ومن لم يفهموه من الرجالِ
    لقد أغمضتُ عينيَّ اختياراً | لأنسى حالَ أصحابي وحالي
    فقال الناس: أعمى لا يرانا | فقلت: نعم، ومسلوٌّ، وسالي
    فبتُّ أرى وباتوا لم يروني | فيا للقوم من داءٍ عُضالِ
    فإن قلتُ القصيدَ فتحتُ عيني | لأنظرَ وقعَ سهمي في النضالِ

    عمايَ اخترتُه من بين ألفٍ | كما اختير الحسامُ على الصِقالِ
    وقلتُ لصاحب الدكان: مُرني | وأكرمتُ الكريمَ عن الفِصالِ

    عمايَ على لياليّ احتيالٌ | أجازيها احتيالاً باحتيالِ
    إذا حَكَمَت خيالَ الناس دنيا | فإنّي يحكمُ الدنيا خيالي
    إذا ما سرتُ في دربٍ فإني | كذاكَ أسيرُ في دربٍ ببالي!
    أشكّلها كما أهوى فليست | تصاغُ من الدروبِ على مثالِ
    وأجعل دربيَ المُثلى بساطاً | على دربِ الحجارةِ والرمالِ
    كما ألقى السِّماطَ على الضحايا | أبو العباسِ في العُصُر الخوالي
    فأبدي من زماني ما يُواري | وأخفي من زماني ما بدا لي
    إذا ما نظْمُ دهري لم يرُقْ لي | غلبتُ الدهرُ عفواً بارتجالِ

    عمىً ثِقةُ البصيرِ بناظريهِ! | وإيمانُ الفتى عينُ الضلالِ
    وإنّ العلمَ مقصوراً بحسٍّ | كبحرٍ باتَ يُنقلُ في السِّلالِ
    سأُعرضُ عن عيونٍ لم تعنّي | وعن عقلٍ تفنّنَ في اعتقالي

    عصايَ على هواها صولجانٌ | أهشُّ بها على غنم الليالي
    فأجعلُ بعضَ أيّامي يميني | وأجعلُ بعضَ أيامي شِمالي
    فإن قلتم: جعلت الماءَ آلاً | فأيُّ الماءِ فيها غير آلِ؟
    أكانَ الماءُ ماءً يوم أضحى | إمامُ الناس يبكي كالعيالِ؟
    وحولكَ ألفُ سيفٍ لم تجرَّدْ | وجُرِّدَتِ الغواني والغوالي..؟
    أكان الماءُ ماءً حين راحت | سباياكمْ على السمْرِ الهزالِ؟
    ويومَ الحصنِ صار الماءُ أغلى | بأعينِنا من الذهبِ المُسالِ
    على الأبراجِ نصعدُ في العشايا | نشيمُ على المدى برقَ النصالِ
    وحين ظهرنَ، قلنا: قد نُصرْنا | لنندمَ بعدُ من عجَل المقالِ
    صمدنا في الحصار على بروجٍ | تسلقها الهلاكُ على الحبالِ
    إذا ما منجنيقٌ خاطبتنا | أجبناها بأحجارٍ ثقالِ
    كراتٌ من لظىً تسمو إلينا | كما يسمو الحبيبُ إلى الوصالِ
    نقول لها: وإن أمسيتِ جنّاً | فما للجنّ إذنٌ في الأعالي
    ونُتبعها شِهاباً بابلياً | على اسم اللهِ والغضبِ الحلالِ
    ونضربهم على عطشٍ وجوعٍ | وأعينُنا إلى أقصى التلالِ
    ثلاثةَ أشهُرٍ صبَر البرايا | بأنطاكيةٍ، والصبرُ غالِ
    وصارَ الهامُ أكثر من حصاها | وبانَ الثلجُ أحمرَ في الجبالِ
    وقد ردَّ الصياحُ الطيرَ عنها | فمنها للعراق: الجوُّ خالِ
    فلمّا أن بعثتَ لهم بجيشٍ | من الخصيانِ واختلف الموالي
    تسلّمها الفرنجةُ بعد لأيٍ | فيا للهِ للشرف المُذالِ!

    ويومُ معرّة النعمانِ يومٌ | يحبّبُ كلَّ شمسٍ في الزّوالِ
    ترى في سحْنةِ البدرِ احمراراً | كأن البدرَ بالنيران صالِ
    وكأنوا يأكلونَ الطفل منا | تكفُّ الغولُ عنه والسعالي
    ترى أطفالنا يُشْوَوْن شيّاً | لتسليةِ الجنودِ والاحتفالِ
    متى يتحلقوا من حول طفلٍ | يديروهُ عليهم بالتوالي
    فهم قومٌ يرونَ الناسَ خبزاً | وبعضُ الدين أشبهُ بالخبالِ
    وساروا، لا دِقاقٌ ردَّ منهم | ولا رضوانُ مجنونُ الشِمالِ
    وشيزرُ بالأدلّة أتحفتهم | فساروا بالدليل وبالدلالِ
    ونادينا الخليفةَ من قريبٍ | فألفينا الخليفةَ لا يبالي
    فليس لنا سوى الرحمن حصنٌ | وليس لنا سوى الرحمن والي!

    هنا بكى الشاعر ولم يطق الكلام، وجعل يسبُّ السلطان والخليفة ورضوان ودِقاقاً وعليَّ بن منقذ، والملوكَ جميعاً كابراً عن كابر. وظنّ الناس أن الخليفة يأمر بضرب عنقه، لكن القاضي قال: إن دم المسلم لا يحِلّ بلطمة البغلة! أما الوزير فقال: يا مولاي إن سقيتَ الأرض من دم هذا تُنبِتْ رجالاً مرْداً وخصوماً لُدّاً، وإن ضربتَ عنقه نبتَ رأسُه في جسد غيره! وكان الوزير يقصد المجاز. لكن الخليفة، وكان يتطيّر مما لا يفهم، عَدَل عن قتله، ودعا بطسطٍ آخرَ يتوضأ فيه، ليحسبه الناس يبكي، فقد كان الأمر راقه!!

    أمّا السماء، فغامت مرة أخرى، وعادت تمطر بأسماء المسلمين.



    قراءة شخصية للنصّ

    كما سبق، يتحدث النصّ عن موقف مثقّف (شاعر) عربي مسلم، من احتلال أرضه من قبل الغزاة، ومن الحكام الغافلين المتخاذلين عن نصرة أهله.

    يبدأ النص بذكر أول أخبار الحملات الصليبية، فيبدأ بمشاهد خاطفة، كالعجوز التي لا تخاف العسكر، واللص الذي يسرق من المسلمين ومن أعدائهم، والمجانين الذين لا يدركون ما حولهم، ثم يتكلم عن نسورٍ طارت في أجواء العراق والشام ومصر، وصارت ترمي أسماء الشهداء على شكل خواتم (وكان يُكتب على الخاتم اسمُ صاحبه في ذلك الزمان).. وهي أحداث تختلط فيها الحقيقة بالخيال.

    ثم يبدأ السرد حين يدخل قاضي دمشق وقتذاك فخر الإسلام أبو سعد الهروي، يدخل بغداد ويُفطر في رمضان، ويكسّر أعواد المنبر في مسجدي الخليفة والسلطان، ذلك ليستثير الناس حوله حول سوء الحال في ساحل الشام. يأخذونه إلى الخليفة ويقصّ عليه أهوال الاحتلال هناك. يسخر كاتب النصّ هنا من بلاهة حكام ذلك الزمان، وكيف أن الخليفة كان قاسي القلب سخيف العقل ثقيل الظل، إذ أمر حاشيته بإحضار “طسط” من الماء لكي يتوضأ، فتظهر عليه آثار البكاء. في تلك اللحظة، يدخل عليه الشاعر جمال الدين العلي بن الحسن، فيرتجل شعراً في هجاء الخليفة احتجاجاً على ما يحدث: الناس تُذبح في القدس والخليفة يلعب بالماء!! فيعذره الخليفة على أنه أعمى، ثم سرعان ما يكتشف أنه ليس بأعمى، فيعجب الخليفة له، ويتخذ قراراً أبله آخر: يعطيه بعض المال ثمن الإعجاب، لينصرف، إذ لا يريد الخليفة أن يتعب نفسه بشؤون الرعية.

    ثم يمضي الشاعر يرتجل أخرى، ويقول في إنه أغمض عينيه، و”تعامى” عما حوله من شؤم وحزن، ليَنسى ويُنسى (مسلوٌّ وسالِ)، فلم يدرك من حوله ذلك. يقول إنه اختار العمى ليتحايل به على الظلام حوله، وليتخيل ما يشاء كما يشاء، فلا يرى القبح الذي تراه أعين الآخرين في الأشياء، بل يرى الجمال الذي يتخيله خياله ويشكله بنفسه (كما أهوى)، فما تراه الأعين ليس كل شيء. ثم يبدأ بذكر ما رآه أيام الحصار (يوم الحصن)، من عطش وجوع، وصبر وقتال، وانتظارٍ للمَدَد، ويتكلم عن كثرة ما قطع الأعداء من رؤوس أهل المدينة (الهام أكثر من حصاها)، وعن كثرة الدم (الثلج أحمر)، ثم يتكلم عن انشغال الحكام حولهم عنهم (دِقاق صاحب دمشق، ورضوان صاحب حلب)، ثم عن المدد المتهافت والخصومة التي سبّبت كل شيء (اختلف الموالي)، ثم سقوط المدينة. ثم يتكلم عن مجزرة معرّة النعمان التي ارتكبت في وضح الشمس، وكيف كانت الغول والجانّ (السعالي) تأنف من تصرّفات الغزاة. بينما لا يأنف الخليفة ولا يأبه، لا بحياتهم ولا بموتهم، فليس للشهداء من يرحمهم سوى الرفيق الأعلى… ثم يبكي الشاعر، ويبدأ يشتم !

    بعد ذلك يحاول الخليفة أن يقتله، فيحذّره الوزير من أن قتله سيهيّج عليه الناس وسيكثر أتباعه وأمثاله من الثائرين، ولكن الوزير استخدم بعض البلاغة مما أربك فهم الخليفة البسيط، وجعله ينسى الموضوع، فطلب طسطاً آخر ليعود ويلعب بالماء.

    واستمر الصمت في شرق البلاد، واستمر القتل في غربها.


  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Aug 2015
    المشاركات
    321
    جميلٌ ما قرأته وما سمعته حقاً ..
    ولم أكن أعلم أن طبع ولاة اليوم ما هو إلا إرثهم من آبائهم وأجدادهم من الملوك والولاة والخلائف ..
    رحمنا الله والسامعين منهم ..

    تحياتي ~

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    MI. U.S.A
    المشاركات
    3,553
    إسقاط تاريخي من الأمس و اليوم الذي هو أشبه بالأمس و خلط النثر والسرد بالشعر أشبه بألف ليلة و ليلة و أسلوب الراوي ..

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
الاتصال بنا
يمكن الاتصال بنا عن طريق الوسائل المكتوبة بالاسفل
Email : email
SMS : 0000000
جميع ما ينشر فى المنتدى لا يعبر بالضرورة عن رأى القائمين عليه وانما يعبر عن وجهة نظر كاتبه فقط