http://www.alnoor.se/article.asp?id=53901

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


شاعرية وموسيقية العمارة


د.هاشم عبود الموسوي
10/08/2009
قراءات: 5723


كان ولا زال لدّي دافع بداخلي يجعلني أربط بين العمارة والشعر والموسيقى والفن التشكيلي، لأنني أُحسّ أنَّ جمالها واحد.. وحتى قبحها واحد.. وبهذا المجال أستعين بالفنان التشكيلي صلاح طاهر، إذ يقول:

"إنَّ العمارة موسيقى في المكان والموسيقى عمارة في الزمن".

وهذا الإيجاز يحمل بلاغة في التعبير، توصلنا إلى قمة التفهّم والإحساس بالفنّين، ليس كلٍ منهما على حده، بل بهما معاً كمزيج.

لقد نظر صلاح طاهر.. كفنان تشكيلي- نظرة تعبيرية للعمارة، فإذا به يقصر عليها جمال الإيقاع والاتزان الزمني بما يحمله من راحة الإنسان كقمة شعورية تقف في أولويات الأهداف المعمارية ولكنه أضاف إليها "الجمال والعجب" كشيءٍ وظلّه.

والعكس صحيح بالنسبة للموسيقى لقد زيّن كل بالآخر. فجعل للموسيقى رؤيا معمارية وجعل للعمارة إحساساً ومعنى إيقاعي. ولندع أنفسنا لنسبح بخيال التجربة. فماذا لو افترضنا حيزاً بل تتابعاً معمارياً سواء كان معقداً أو بسيطاً، وانتخبنا أبطال التجربة من مؤلفي الموسيقى ذوي الفكر المعماري الإيقاعي. وليدخل كل مؤلف ليرسم بالموسيقى إحساسه داخل التتابع، ومع اختلاف الآلة في كل مرة، نجد خيطاً رفيعاً في قلب كل مؤلف يقول بصوت خائف ضئيل "أن هناك اتصالاً بيني وبينهم..".

وإذا بنا نغرق في خيال التجربة، ونصحوا من حلمنا نترنم بالواقع وفي داخلنا شيءٌ بأن هناك ما يسمى بالعجب: "ظل الجمال".

وليس هذا كل ما بين الموسيقى والعمارة، وفي محاولتي للكشف عن ماهية الفروق بين العمل التشكيلي والعمل المعماري، وجدت أن الفنان التشكيلي يقف أمام عمله الفني ولكن المعماري يعيش ويتحرك داخله وخارجه، ومن خلال ما طرحته في بداية مقالي، أتساءل عن مفهوم القيمة التشكيلية؟ وما هي الاختلافات الجوهرية بين طريقة تفهم المعماري والفنان التشكيلي للقيم التشكيلية سواء كانت معمارية أو فنية.

وفي جوانح بحثي عن الإجابة، تعرّضتُ لبعض وجهات النظر المتعارضة مع وجهة النظر السابقة، حيث يوضّح البعض بأن تشابه المفردات ربما وتكاملها في بعض الأحيان. فنجده يشرح فلسفة المصوّر فيكتور فاساريللي مصوّر مجرى يعد نقطة هامة من النقط على محيط مثلث الباوهاوس(*). من خلال إيجاد أبجدية تشكيلية جديدة. لقد قُدّر لفاساريللي أن يفهم سريعاً أنَّ عليه أن يمضي إلى ما هو أبعد من كل المحاولات المعاصرة.. وقد صوّب فكره نحو ما أسماه "حقيقة البنائيات" ويجب أن نبادر فنقول أنّ مادة الأشياء كانت تستهوي فاساريللي دوماً. وكان بإمكانه أن يقيم فنا على إعطاء أحاسيس لا حصر لها.. أحس فاساريللي بالرغبة في أن يضيف إلى تصميماته السابقة.. عاملاً حركياً فكان عليه أن يعثر على لغة تعبر عن ذلك وقد كانت هذه اللغة هي "الفن البصري".

ومن ثمّ أخرج فاساريللي أسلوباً يتألف من وضع شباك من الأشكال والألوان المتضادة على اللوحة بحيث أن عدسة العين لا تستطيع أن تتأقلم معها فيحدث تأثير دائم بالتذبذب ومن شأن ذلك أن تتبخر اللوحة في خفقات العين ويتحرر السطح من رسوخه وثقله. ويحقق فاساريللي بذلك التعبير التشكيلي لفكرة قديمة دؤوب هي:

"إنكار ثبات المادة وتحوّل كل شيء إلى ذبذبات تموّجيه لا يطولها البلى ولا تتأثر بالزمن". فأصبح الزمن بعداً رابعاً في العمل التشكيلي من خلال الفن البصري فأنتج أعمالاً تتحول تبعاً للوقفة التي يتخذها المتفرج منها. وتكتسي بدلالات جديدة. وفقاً للحوار الذي يدخل فيه مع الرائي الذي يغير من الزاوية المكانية التي يواجه منها العمل التشكيلي".

إنَّ الملمس والفن البصري مفردتان من مفردات القيم التشكيلية للفن التشكيلي كما أنهما في نفس الوقت من مفردات القيم التشكيلية للعمل المعماري كما أننا اكتشفنا سابقاً أن الزمن أصبح بعداً رابعاً في عملية التشكيل فهذا تحرّك يخدم التصوير ثنائي الأبعاد ليس فقط في العمل التشكيلي ثلاثي الأبعاد.

فأصبح للعمل التشكيلي تجربه وتتابع بصري كالعمل المعماري، ولكن هنالك فرق لا أعتقد أنه جوهري.

يفتقد الرائي خارج الفن التشكيلي سواء كانت التجربة البصرية دائرية بالنسبة لثلاثيات الأبعاد أو نصف دائرية لثنائيات الأبعاد.. وربما كروية ونصف كروية في حالة القدرة على التفقد الفراغي. بل أنَّ التجربة تنمو من الدائرة إلى الكرة بانفعال الإنسان الشغفي ولكن في حالة العمارة. يكون الإنسان خاضعاً لحقيقة مقياسه بالنسبة للعمل المعماري ومع ذلك تأتي الظروف لتمكنه من التفقد بنوعياته. ويأتي الفرق في أن العمارة ليست نحتاً فقط. فالنحت لا نستطيع النفاذ داخله. ورغم أن بالداخل إيقاعات ربما تشبه الإيقاعات التشكيلية في روحها إلا أن الموسيقى تأتي لتملأ جوف العمل المعماري الرحبة بصدى نغمات تتردد بتتابع لا ننكر تشكيليته.

"يحاول الفنان التشكيلي في أعماله الفنية أن يلجأ إلى بعض المقاييس الفنية التي تحكم عمله ويرى فيها النسب الجمالية أو التوافقات التشكيلية التي حاول الفنانون القدامى التعبير عنها وإن اختلفت مناهجهم الفنية. والعمل الفني إنتاج يستطيع كل فرد أن يراه من وجهة نظره وأفكاره الخاصة تبعاً لتكوينه أو تذوقه الفني".

إن أحد أسباب الاختلاف بين العمل الفني كعمل فردي لا يتعدى أفراد قلائل في حالة الرؤية والنقد وبين العمل المعماري حيث البريق الاجتماعي كبريق القطع البللوري في قطعة صوديوم. ولكن إذا جاء بعض الفنانين التشكيليين بمحاولات لإيجاد أبجدية تشكيلية للعمل التشكيلي كفاساريللي مثلاً. يُصبح الفن أسلوباً اجتماعياً وليس ترفاً. وعندها ستتقارب وجهات النظر حول اللوحة وينمو التذوق الفني عند الإنسان العادي، ويعيش الفن رغم الزمن. وماذا لو أننا جعلنا عمارتنا متكأ لفننا وسمير وحدة ضد رمادية الزمان؟؟.

إن لفاساريللي.. كفنان تشكيلي - رؤية في استعمال مفردات جديدة تساعد في جمع أبجدية تشكيلية وذلك لإيجاد هياكل تقييمية للعمل التشكيلي. وكمعماري.. كان يُريد أن يتزاوج العمل المعماري والتشكيلي في إطار من الموضوعية. فإذا به أيضاً يعيش خيال التجربة. فنجده يُلقي بحصى من نحت الطبيعة في وجه زجاج النوافذ في المدينة فينكسر.

يجمع أجزائه ويظلّ يلوّن طول حياته. ويركّب جزءاً في جزء فيصير به جزءاً أكبر. تلتحم الأجزاء لتتلون عيون المدينة. يبصرها نهاراً لتصبغ شعاع الشمس النافذ داخل الفراغ، وفي ليالي المدينة يراها تلمع بألوانها مخترقة السكوت.

إن فكرة استخدام النوافذ كمفرد من مفردات العمل المعماري يكشف لنا عن حقيقة توافق المعماري والفنان التشكيلي لإخراج عمارة تشكيلية. ولكن ليس الأمر بهذه السطحية التي تعرضها التجربة رغم أنها تكشف في حد ذاتها عن أن الارتباط يأتي فقط بتشابه المفردات ولكنه يأتي أيضاً من التكامل بين المفردات. بل وبين القيم التشكيلية ذاتها وإن اختلفت النظرة إليها.

وبقى الأدب.. إن التعامل المعجمي والنحوي هو ما يحتاجه مبدع النص الأدبي من خلال خيال يرتفع بمستوى التماس - بين التعاملين - إلى مستوى الإبداع الأدبي. فهو يملك مفردات العمل الأدبي المعجمية وأيضاً قواعد التركيب والتداخل وهذا ما يتوفّر بالفعل في الأبجدية بتشكيلية كنوعية تعامل بين الفنان والعمل التشكيلي فمن خلالها يصبح مالكاً لمفردات العمل التشكيلي وأيضاً القواعد التشكيلية الثابتة التي تحكم التركيب بالتداخل. ومن خلال هذا المفهوم يأتي الحلم بامتلاك أبجدية تشكيلية للعمارة المحلية لتكوين خطوط مسار ويكون الهدف هوية.

إن وضوح العلاقة بين الفن التشكيلي والفن الأدبي لن يبدو إلا من خلال إبراز العناصر التشكيلية في عمل فني أدبي هو نفسه يصرخ بالتشكيلية ونقطف ثماره ونُحاول دق الثمرة فتتفتح فنرى ما بالداخل.. هل التشكيلية برعم أم نتاج.

ولنناقش أحد الشعراء المصريين إبراهيم أبو سنه من خلال أعماله الشعرية حيث يتاعب اللون الأسود في تعلقه بالمادية في قصيدة (مرايا الزمان). حيث يصف الحدائق بكونها سوداء والمرايا هي الصخور وأسطر هذه القصيدة تمثل دفقة شعرية مشحونة بكل معاني اليأس والإحباط. ومن ثمّ يغرس السواد فيها ملائماً لطبيعة المعنى - ينتمي إلى حقل الأحزان بحكم ارتباطه العرفي، حتى أن العرب قد ربطوا بينه وبين الحداد.

وتبدأ الحركة الدلالية من منطقة السلب (لم) وصولاً إلى منطقة الإيجاب (إلا) لتقوم بعملية تفريغ للواقع من كل مظاهر الاستقرار والراحة. ومن ثمّ لا تبقى إلا الرحيل والمدهش أنه رحيل من واقع مرفوض.. إلى واقع أشد استحقاقاً للرفض حيث الظلمة والتحجّر فالحدائق فقدت حقيقتها النباتية، وتحوّلت إلى واقع زمني عندما وقعت تحت سيطرة السواد والمرايا فقدت طبيعتها الإشراقية باتخاذها طبيعة صماء معتمة.

أي أن التحولات هي الناتج الأول للصياغة الشعرية. وكان السواد نقطة الثقل في هذا التحول، سواء أدى دوره الدلالي، أو ربما فيه من هوامش إضافية أضفت على السياق كله لوناً من الكآبة والحزن".

إن استقصاء اللون من خلال مخيلة الشعراء ليعكس كم هم تشكيليون فهم يستعملون اللون كمفرد ويتحكّمون في زمن اللون ومساحته وظليته من خلال التشابك بين الأجواء التعبيرية داخل القصيدة فمثلاً أن السواد في الأبيات السابقة وإن كان قاتماً ممتداً بطول الزمان فهو ليس بقعه مثلاً وإنما مساحي التأثير ولكن ربما تختلف درجة قتامته وعمقه الزماني من خلال تعبير آخر.

مثلاً: "رغم رياح القمر تبحثي عن فرع أخضر وسط الصحراء. وتشبهي أعواد القمح رغم الفتح. ورغم حرارة شمس سوداء".

السواد هنا جاء كبقعة لونية داخل مساحة من الصفرة وفي رأيي أن هناك شيئاً يعطينا الإحساس بدرجة أعلى من القتامة أما عن طريق تكثيف اللون أو التباين بين مفردات اللوحة الشعرية.

وليس اللون هو نقطة الارتباط الوحيدة بين الشعر والفن التشكيلي ولكن عند استقصاء البعدين المكاني والزماني من خلال العمل الأدبي. نثراً كان أو شعراً نحس بأن البناء الأدبي من خلال هذين البعدين يعكس علاقته مع البناء المعماري.

وأخيراً أعود لأقول أن بداخلي دافعاً يجعلني دائماً أمزج بين الأربعة. أحس أن جمالهم واحد وحتى قبحهم واحد.

فالعمارة إنسانية الفن التشكيلي.. بجمال ورقة الموسيقى تفيض وتحوم حول منابت الفن الأدبي... بخصبها ونقائها".

- See more at: http://www.alnoor.se/article.asp?id=....6qYL8HKz.dpuf