هذا الموضوع مقتبس من كتاب الفصول الأربعة للدكتور محمود الفاخوري

***

من أنباء مصر القاهرة أن ً الدكتور بشر فارس قد «اكتشف» بحر ً ا جديدا ... وأبادر إلى

َّ القول إن ذلك البحر هو من بحور الشعر ليس إِلا، لكنه لم يسلم رغم هذا، من بأس

حرب شعواء أثارها في ساحاته وحول مضايقه بأساطيل جرارة من الشواهد العقلية

والنقلية وغريها، مما لا يدخل في أحد هذين البابين أو «المضيقين»؛ رجال القلم المغاوير

الذين يعرفون رغبة النظارة من أبناء الضاد، في هذا النوع من القتال الأشبه بلعبة

ً «السيف والترس» يكون معظمها تظاهر ً ا وتخايلا، ثم لا غالب ولا مغلوب ...

يقول ابن خلدون في مقدمة تاريخه: «ويراعى في الشعر اتفاق القصيدة كلها في

ً الوزن الواحد؛ حذرا من أن يتساهل الطبع في الخروج من وزن إلى وزن يقاربه، فقد

يخفى ذلك من أجل المقاربة على كثري من الناس. ولهذه الموازين شروط وأحكام تضمنها

علم العروض، وليس كل وزن يتفق في الطبع، استعملته العرب في هذا الفن، وإنما هي

أوزان مخصوصة تسميها أهل تلك الصناعة: البحور. وقد حصروها في خمسة عشر

ً بحر ً ا، بمعنى أنهم لم يجدوا للعرب في غريها من الموازين الطبيعية، نظما.» الخ.

يكفي أن نقارن هنا بني كلمة ابن خلدون «وليس كل وزن يتفق في الطبع استعملته

العرب»، وبني عبارته الأخرية عن «الموازين الطبيعية»؛ كي يتضح لنا أنه فتح الباب

على مصراعيه لأوزان مستحدثة في الشعر العربي، بينما هو يشير في الوقت ذاته إلى

أصل تلك الأوزان ومنشئها بأوجز كلام وأوفاه بالمراد. وليست هذه أول مرة يتناول

ً فيها العلامة المغربي مسألة من المسائل، فيرسل على ناحية أو أكثر منها شعاعا من نور

بصريته نافذًا إلى صميمها، ويكشف للمتدبر عن آفاق جديدة، بل يندر أن لا يأتي في أي

الشئون المتنوعة التي وسعتها دائرة معارفه العربية، ونعني «المقدمة» بحكم صحيح أو

رأي طريف، كأنه ينظر في الأمور من وجهة لم يُسبق إليها، بعني لا مثيل لها. وهذا ما

أهاب بالمستشرق الفرنسي غوتيه من أساتذة جامعة الجزائر، إلى القول بأن لهذا الشرقي

المسلم مذهبًا غربيٍّا في التاريخ، وأسلوبًا في التحقيق العلمي يذكر بأساليب عهد الانبعاث

الأوربي، كأن نفحة منه سرت إلى روح ابن خلدون عن طريق الأندلس، لكن المستشرق

َّ الفرنسي لا ينكر أن َّ العلامة المسلم لم يتلق علمه في مدرسة الغرب على مؤرخيه،
فهو قد اهتدى بسائق من عبقريته، إلى هذا الأسلوب الفذ في النقد التاريخي والتحقيق العلمي.


ً رجعت إلى (المقدمة) وأنا أتساءل: لماذا سمت العرب أوزان الشعر أبحرا؟ وكنت

أرجو أن أوفق ثمة إلى جواب هذا السؤال، بعد أن أيأسني من ذلك كتاب (العمدة في

صناعة الشعر وفنونه) لابن رشيق القيرواني، فلم أجد شيئًا، لكن ظفرت بهذا الرأي

القيم لابن خلدون، الذي يستخلص منه أنه يوجد أوزان للشعر تتفق في الطبع، لم

َّ يستعملها العرب في منظومهم، وأن ً الخمسة عشر بحرا التي شاء علم العروض أن

يحصيها ويحصرها؛ جزء من كل؛ أي من «الموازين الطبيعية» التي يصح أن تستعمل

َّ في نظم الكلام، سواء في لغة مضر أم في سائر اللغات. وليس بضائر هذه الموازين أن

العرب، باديها وحاضرها، غابرها وحاضرها، غائبها وحاضرها، لم تستعملها ولم تنظم

ً عليها. ولعلها لهذه العلة سميت «أبحرا» فهي مترامية الأكناف، متداخلة الأطراف، يتصل

أحدها بالآخر، ويتولد بعضها من بعض، إلى ما لا يكاد ينتهي، حتى تسلم النفس الأخري

فيما دعوه بالشعر المنثور.

38

عود إلى الشعر

ولم يجئ ابن خلدون بهذا الرأي عبثًا أو لغير طائل، فهو منطقي إلى أقصى حد، مثل

ً كل مبدع سبق عصره وأعصرا بعد عصره. ومن المسلم به عند الأستاذ غوتيه وغريه من

َّ أهل النظر أن المادة التي تتألف منها (المقدمة)، رغم غزارتها وتنوع عناصرها وتشعب

مراميها، قد تنزهت عن آفات الخلط والفوضى، بفضل رجاحة عقل المؤلف العبقري الذي

أفرغها في نظام من الوحدة، لا يكاد يعتوره خلل.

قال ابن خلدون بذلك الرأي في الشعر وموازينه، كي يترك الباب مفتوحا على

مصراعيه، لما استحدث من فنونه المتأخرون — خاصتهم وعامتهم — في مختلف الأقطار

والأمصار، كالموشح والزجل والمواليا والقوما، وكان ما كان والدوبيت، وأكثرها أنواع من

الشعر شذَّ فيها «جيل من العرب المستعجمين» عن أساليب لغة مضر، لكنها من الشعر

ً في صميمه: «فلأهل الشرق وأمصاره لغة غير لغة أهل المغرب وأمصاره، وتخالفهما أيضا

لغة أهل الأندلس وأمصاره. والشعر موجود بالطبع في كل لسان؛ لأن الموازين على نسبة

واحدة في أعداد المتحركات والسواكن وتقابُلها، موجودة في طباع البشر. فلم يُهجر الشعر

بفقدان لغة واحدة وهي لغة مضر ...»

وقال ابن خلدون بذلك الرأي في الشعر وموازينه، من أجل الوزن الذي استحدثه

الدكتور بشر فارس، وأخرجه من عداد «الموازين الطبيعية التي لم يعرف للعرب نظم

فيها». وينبغي أن يكون إلى هذا الوزن المستحدث حاجة؛ لأن صاحبه نظم عليه قصيدة

أو بضع قصائد ولا فرق، فالمهم أنه أدخله في عداد «الموازين الطبيعية التي سيعرف

َ للعرب نظم فيها». ولا ننس أن المكتشف هو في الطليعة من أدباء الجيل ونقدة الشعر،

وأكبر الظن أنه لم يرسل في عباب هذا «البحر» الجديد، كتلك المراكب من الورق التي

يتلهى بها الصغار؛ لكفاية حنينهم الباكر إلى الأسفار، وركوب متن البحار. فعسى أن

ٍّ أماني لم تخطر لإنسي ٍّ أو جني ببال، مقلة طيوف خيال لم تطف

تكون مراكبه مشحونةً

بوهم شاعر في المتقدمين والمتأخرين.

لقد سمى الدكتور فارس بحره الجديد «المنطلق»، وكنت أوثر أن يسميه «المطلق»؛

لأن الشعر العربي على ما أرى سيقفز ببركة المدرسة الحديثة قفزة تقذف به إلى «ما

وراء الطبيعة».



*****

التالي نقلا عن الرابط:

https://ar.wikisource.org/wiki/%D9%8...A8%D9%8A%D9%91



التجديد في العروض


الرسالة - العدد 342




قرأت بالعدد (341) من الرسالة قصيدة بعنوان (الناي) للدكتور المفضال بشر فارس قدم لها بقوله (هذه الأغنية منظومة على بحرين مختلفين رغبة في تنويع مجرى النغم، والبحر الأول وضعه الشاعر، وأجزاؤه: فاعلاتن مفاعلتن (مرتين)، وليكن اسمه: المنطلق. وأما البحر الثاني فمن البحور المعروفة. . . أهـ) ثم مضى في القصيدة فكان الوزن الذي أسماه المنطلق يبدأ بقوله:



جنّبوا النايَ عن أُذُني ... أُذُني زُلزلت طَربَا



والواقع أنه لا يوجد في أوزان البحور المعروفة بحر أجزاؤه (فاعلاتن مفاعلتن) ولكن يوجد هذا الضرب نفسه بأجزاء أخرى هي (فاعلن فاعلن فَعِلُنْ) فهو إذاً الضرب الأول من العروض الثاني من المتدارَك، وهو المجزوء الصحيح، وأقرب أمثلته (لوزن) الدكتور بشر هو الضرب المخبون المرَفَّل من هذا المجزوء الصحيح، ومثاله في متن الكافي هو:



دارُ سُعدَى بشَحْر عُمَانْ ... قد كَسَاها البِلاَ المَلَوَانْ



على أن هناك فرقاً يسيراً قد يلحظه القارئ بين الوزنين، فذلك أن وزن الدكتور بشر ينقصه الترفيل (وهو زيادة سبب خفيف على ما آخره وتد مجموع) والسبب الخفيف - كما هو معروف - متحرك بعده ساكن كقَدْ. فهو يمثل الألف والنون الأخيرتين، في عمان والملوان، واللتين بحذفهما نحصل على نفس الوزن (المنطلق) الذي جاء به الدكتور بشر. . .



والواقع أنه يصعب جداً، بل يكاد يكون من المتعذر، زيادة (بحر) مستقل على البحور المعروفة، كما سمح الدكتور الفاضل لنفسه في تسميته مجزوءَه الذي له اصل في العروض بحراً. . . على أن له العذر الفني في ذلك، وأقول العذر الفني لأن (البحر) الذي خيل إليه أنه اخترعه لم يقع له إلا في (المتدارك) وهو - كما يظهر من تسميته نفسها - بحرٌ تدارك به الأخفش على الخليل الذي قد نسيه أو أهمله (وقيل هو المتدارِك بكسر الراء لأنه تدارك المتقارب أي التحق به، لأنه خرج منه بتقديم السبب على الوتد، وله أسماء أخرى غير ذلك كالمخترع والخبب. . . عن المختصر الشافي للدمنهوري)



ويلوح لي أن هناك شيئاً من توارد الخواطر بين تسمية الدكتور بشر لمجزئه (بالمنطلق) وبين تسمية المتدارك (بالمخترَع) فكلا التسميتين ترمزان من طرف خفي أو صريح إلى أنه وزن جديد على أوزان الخليل. . . هذا وإن كنت لم أعرف بعدُ مَلحظَ الدكتور في اختياره اسم (المنطلق) وزيادة للفائدة من هذا البحث الجليل، أقول إنني حاولت التجديد في العروض - وكان ذلك منذ سنوات - بزيادة بحور جديدة، فوقعت على بحرين، أحدهما - لِلَطيفِ ما حدَث - ظهر أنه هو نفس المتدارك! وكنت قد نظمت لإثباته أبياتاً مطلعها:



يا أَبى إنني ذاهبٌ للوَغَى ... باذلٌ مهجتي في سبيل الحِمَى!



والثاني أخذته عن وزنٍ انجليزي بديع، يمثل طريقة من سير الجياد وهو الأصح عندي بأن يسمي (الخَبَبَ) وقد جعلتُ وزنه: مَفْعُولُنْ، أربع مرات، أو ثمان. . . ولا أذكر ما نظمته فيه، ولكن المجال فيه مفتوح للناظمين. . .