-قرأت بعض المقتطفات في كتاب (النقد المنهجي عند العرب) لمحمد مندور وأردت أقتبس هذه الومضات المفيدة التي تركز كثيرًا على المنهج العلمي الخالص الذي يشبه رسالة العروض الرقمي:

(فالتأثرية قائمة على أساس كل نقد حتى لنرى ناقدا عالمًا كلانسون يقول:

" إذا كانت أولى قواعد المنهج العلمي هي إخضاع نفوسنا لموضوع دراستنا لكي ننظم وسائل المعرفة وفقًا لطبيعة الشيء الذي نريد معرفته - فإننا نكون أكثر تمشيًا مع الروح العلمية بإقرارنا بوجود التأثرية في دراستنا ،
وتنظيم الدور الذي تلعبه فيها ،وذلك لأنه لما كان إنكار الحقيقة الواقعة لا يمحوها ،فإن هذا العنصر الشخصي الذي نحاول تنحيه سيسلل في خبث إلى أعمالنا ويعمل غير خاضع لقاعدة .
وما دامت التأثرية هي المنهج الوحيد الذي يمكننا من الاحساس بقوة المؤلفات وجمالها ،فلنستخدمه في ذلك صراحة ، ولكن لنقصره على ذلك في عزم ،ولنعرف مع احتفاظنا به -كيف نميزه ونقدره ونراجعه ونحده- وهذه هي الشروط الأربعة لاستخدامه ،ومرجع الكل هو عدم الخلط بين المعرفة والإحساس ،واصطناع الحذر حتى يصبح الإحساس وسيلة مشروعة للمعرفة.
وإذن فالنقد الذوقي نقد مشروع وحقيقة واقعة.
ولكننا نتساءل عن توفر الشروط الازمة في الذوق ليصبح أداة صالحة للنقد ثم نبحث هل توفرت تلك الشروط لدى العرب عندئذ أم لا؟
والواقع أنه قد وجد عند الجاهلين والأمويين نقد ذوقي يقوم على إحساس فني صادق ،ولقد تركزت بعض أحكامهم في جمل سارت على كافة الألسن كقولهم "أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب وزهير إذا رغب والنابغة إذا رهب والأعشى إذا طرب"وأمثال ذلك مما نعرفه جميعًا .

ولكن هذا النقد الذوقي يعيبه أمران:
1- عدم وجود منهج:

وهذا أمر طبيعي في حالة البداوة التي كانت تسيطر على العرب والرجل الفطري يستطيع باحساسه أن يخلق أجمل الشعر ،يصوغه من مشاعره ومعطيات حواسه وهو ليس في حاجة إلى عقل مكون ناضج يرى جوانب الأشياء كلها ولا يحكم إلا عن استقصاء .
ومن الثابت أن الشعر لا يحتاج إلى معرفة كبيرة بالحياة ونظر فيها ،بل ربما كان الجهل أكثر مواتاه له وكثيرا ما يكون أجوده أشده سذاجة.
والنقد المنهجي لا يكون إلا لرجل نما تفكيره فاستطاع أن يخضع ذوقه لنظر العقل ،وهذا ما لم يكن عند قدماء العرب وما لا يمكن أن يكون ، ومن ثم جاء نقدهم جزئيًا مسرفًا في التعميم ،يحس أحدهم بجمال بيت من الشعر وتنفعل به نفسه فلا يرى غيره ،ولا يذكر سواه كدأبه في أمور حياته.

2- عدم التعليل المفصل:
وهذا أيضًا شرط لم يكن من الممكن أن يتوفر لعرب البداوة ،فالتعليل أمر عقلي لا يستطيعه إلا تفكير مكون ،وكل تعليل لابد من استناده إلى مبادئ عامة ،والعرب لم يكونوا قد وضعوا بعد شيئًا من مبادئ العلوم اللغوية المختلفة التي لم تدون إلا في العصر العباسي ،ومن الواضح أن الاتجاه إلى التعليل خليق بذاته أن يسوق -حتى في النقد الذوقي -إلى التمييز والتقدير والمراجعة والتحديد ،ليصبح إحساسنا أداة مشروعة للمعرفة.
إذن فقد ظل النقد في هذه المرحلة إحساسًا خالصًا ولم يستطع أن يصبح معرفة تصح لدى الغير بفضل ما تستند إليه من تعليل .