الشعر وآفاق الوجود الإنساني ..

لايبدو الأمر سهلاً كما كنتُ أتوقعه ، في بداية الأمر إن كتابة مقال عن الشعر أصلاً ومفهوماً وحاجةً ورغبة أشبهُ بنقشِ أيقونةٍ على رملٍ متحرك سرعان ما تذروها الريح، فما دامت عجلة الفكرِ دائرة ونواجذ النقدِ ثائرة وعيون القراء شغوفة متتبعةً لكل قلم ، ما خطَّ وما نطق يبدو الأمرُ مستحيلاً ولو من بابِ التجربة التي ستتركُ أثراً بالغاً في نفس القارئ ، وهذا لعمري يكفي أي كاتب يطمحُ لترك بصمةٍ في أذهان الطامحين للمعرفة .

إذا ما هو الشعر؟ وما هي مقوماته واساسياته ؟ولماذا كان للشعر الأثر البارز في تاريخ الإنسانية جمعاء ؟ هل للشعر علاقة بالفلسفة يلتقيان على أمر ويتضادان في آخر؟، أليست الفلسفة حب الحكمة أليس الشعر سادن الحكمة وضامر السحر والعذوبة التي تكاد تختنق في كتب الفلسفة ، أم أنه حالةٌ عصيةٌ على التقويم والحد متسعةٌ مترامية الأطراف تماماً كالكون يراها كل شخص من زاويتهِ الخاصة ، ربما يعود بي قلمي ل3500 عام قبل الميلاد لأتتبع فكرة النشوء الأول للشعر والحاجةِ إليه والتي تمثلت في ملحمة جلجامش أول ملحمة كتبها الإنسان، و البحث عن الخلود والخلاص من الفناء والأندثار فهل كان يعي جلجامش أن الكتابة سبيله الوحيد للخلاص من فنائه ، ليس مهماً أن نعرف ما اذا كان جلجامش يعتقد بأن ما فعله سيهبه الذكر والخلود لآلاف السنين ، بقدر يقيننا أن الكتابة هي الوسيلة الوحيدة لاستمرار الحضارة وازدهارها…



ما هو الشعر ..؟

لقد دأب مئات العلماء والأدباء منذ فجر التاريخ لحصر معنى ثابت لهذا المصطلح ، إلا أن الكثيرين منهم وصلوا لنقاط الخلاف قبل ان يجدوا نقاط الالتقاء، ولعلنا هنا نترك كلَّ ما وصلوا اليه لنلخص الشعر في كلمات بسيطة هي جوهره وحقيقته التي بنى عليها كل من سار في طريق تحديد الشعر ماهيةُ ومفهوماً ، فالشعر حالةٌ فكرية ذات نزعةٍ خياليةٍ يطمحُ الأنسان بشتى الطرق لعيشها ومعايشتها واقعاً كانت أم خيالاً ، ومحاولة من الإنسان التمرد على واقعهِ لإصلاحه حسب حدسهِ وشعوره ونبوءته ، نعم الشعر حدس ونبوءة ورؤيا تسعى دوماً للخلاص من واقع جاف ومسعى روحي في الأنا العليا للخلود ولعلنا نرى ما أولاه العرب للشعر من مكرمة ومهابة وحسن معاشرة ، إن الشعر في نهاية المطاف حالة وجدانية وتعبير روحاني وهمسٌ صاخب في أذن العدم ..

همسٌ صاخبٌ في أذن العدم ! ، لم أجد عبارةً أكثر تأثيراً من هذه العبارة للدخول إلى عالم الحاجةِ لوجود الشعر في حياتنا ولعلنا نستطيع دون عناء أن نحدد الاسباب التي تدفعنا لقول الشعر أو سماعه وحفظه فالفرحُ والحزنُ ، الفقدُ ، المدح ، الاستعطاف ، التمردُ و الفخرو الما وراء العبث كلها حالات شعورية تودي بمن يعايشها للبوح والحديث والترنم لتسلية النفس وتحفيزها واشعال جدوة الأمل في الأماكن الأكثر ظلمةً في خلجات الصدر .

إن كل إنسان شاعر ، ما مدى مصداقية هذه العبارة سؤالٌ لا يحتاجُ لأكثر من انهاء العبارة ليكونَ ماثلاً أمامكَ متهماً إياكَ بالهرطقة والكفر إن لزم الأمر..! فالشعر أكثر قداسةً من أن يتأتى لأي انسان بل إنه خيلٌ جامحٌ وريحٌ صرصرٌ لا يملكُ زمامها إلا القلة ..

وهنا لا أستطيع إلا أن أقول وبكل جرأة أن كل إنسان شاعر وأن أخفي نصالَ العجز التي أنهكت الكثير من الكلمات قبل أن تنطق، إن الشعر تماماً كالورد الذي يملأ الروض بألوانه الزاهية وروائحه العابقة ولكن ما قيمةُ الوردِ إن لم يجد من يعشقه ؟ هل يقل عاشق الورد ألقاً وزهوا عن ورد الروض نعم إن كل إنسان شاعر لأنَّ كلَّ شاعرٍ إنسان ، تبقى الأسس والطرائق التي اعتمدها أباطرة الأدب لتميز الشعر عن الكلمات التي يكتبها الإحساس لدى الإنسان البسيط ، أعلم تماماً أن جدتي كانت تقرضُ الشعرَ وتغنيهِ دونَ قواعده واساليبه كانَ بكراً صادقاً شفافاً كالماء الزلال لا يمكنُ للشعر أن يكون ملكاً للشعراء فقط فجدتي أيضاً شاعرة بمقياس الحنين ..!



مقومات الشعر

تختلف المقومات بين العصور باختلاف الحاجة والتطور والنشوء الطبيعي ، فكل بداية تكون ساذجة لكنها تملك من الجمال مايمكنها من الخلود دوماً ، فلكل سالف حق الوجود وأولوية الفضل فبين تعدد المواضيع في القصيدة ووحدة الوزن والقافية وتقصد القول شعراً وتضمين الخيال في النظم واتساع الصورة تتمايز القصائد في جودتها ويبقى لسان حالها ناطقاً في كل قلب يحاول سبر أعماق الذات باحثاً عن السعادة أن استطاع او المواساة إن أضطر ..
فمن مقولة (أعذب الشعر أكذبه في العصر الجاهلي )إلى مقولة (أعذب الشعر أصدقة في صدر الإسلام ) إلى اتساع الثقافة في العصر الأموي ودخول الكثير من العلوم كالعروض على اسس الشعر إلى دخول علم البديع بشكله الموسع في العصر العباسي وما سميَّ باللطائف وصولاً بالعصر الحديث وكسر عمود الشعر على يد الكثير من الشعراء في بدايات القرن العشرين إلى التمرد الواضح ودخول النثر لعالم الشعر النرجسي والذي ظل محافظا على قواعدة لأكثر من 1500 عام لنصل لحقيقة مفادها أن الشعر هو ما يجعلك تدخل عالماً أكثر ألقاً من العالم الذي تعيش ، فقد اعتنى شعراء العصر الحديث بالفكرة والدهشة والصدمة لخلق أفاق فكرية جديدة ، ويبقى الشعر أكثر صلابة من أن يوضع في قالبٍ رتيب وتعريف محدود لا يليق بالحدس الإنساني ..!



______________________
أحمد أيوب شاعر و عروضي من فلسطين
( قمت بمراسلته بشأن العروض الرقمي قبل سنتين أقل أو أكثر )
#ما_هو_الشعر زاوية يطل علينا من خلالها الكاتب لندخل من خلالها عالم الشعر ..
يمنع نسخ أو اقتباس هذه المادة بدون ذكر المصدر “مجلة أنهآر الأدبية ” و اسم الكاتب “أحمد أيوب ” .
هذه المادة من حقوق مجلة أنهآر الأدبية في النشر و التوزيع .
http://www.anhaar.com/ar/?p=3872


...