https://pulpit.alwatanvoice.com/arti...17/381470.html

ــ هل وقف علم العروض بزحافاته وعلله عائقًا أمام من وجدوا ضالتهم في "النثيرة" أي قصيدة النثر، وشعر التفعيلة والهايكو والومضة وخلافه؟ وأين يكمن العائق من وجهة نظركم؟

ــ هذا يردُّنا إلى السؤال السابق. إذا كنتُ واحدًا من الجيل المخضرم بين نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، فأظنني أستطيع أن أعطي رأيي في هذا الموضوع؛ من حيث إن تجربتي الشعرية قد استوت على سوقها (أو نفترض ذلك) واتضحت معالمها، ومن ثم أستطيع أن أضرب بها مثالاً على ادعاء معين. أضف إلى ذلك معاصرتي ومزاملتي لجيلنا الذي كان فيه الوسطيون، وفيه حشد من الذاهبين يمينًا أو يسارًا.

في جيلنا شعراء تشبثوا بالقصيدة العمودية وأوزان الخليل وعضُّوا عليها بالنواجذ، وكان بعضهم - على الأقل - يُستثارون إزاء محاولات التجديد الموسيقية المتعثرة، ويُصدرون آراء وتعليقات، ويسوقون أدلة على بطلان محاولات الحداثيين. وهم في ذلك بين قبول عند مؤيديهم ورفض عند الآخرين. وفي الطرف الأقصى هناك الحداثيون بأطيافهم بين متشدد ومعتدل، ولهم نقادهم الذين يشجعونهم ومجالات النشر المتعددة التي يطلون منها.

وعندي أن الشاعر (حسب التعريف الطفولي البريء والتعريف التلقائي العفوي) هو ذلك الإنسان الذي يكتب القصائد! نعم بهذه "السذاجة" إن شئتَ، إذ لا يكون الشاعر شاعرًا من دون أن يعرض بضاعته وهي القصيدة، بلا قصيدة ربما يكون كاتبًا كبيرًا محترمًا، فالشعر غير النثر، والشاعر غير الناثر. وهذه من البداهة بمكان. ومن الثابت كذلك أن القصيدة تقف على قدمَينِ، وأنها بقدم واحدة تسقط وتسقط عنها صفة القصيدة؛ تقف القصيدة على قدمَي الموسيقى والخيال، فإذا نفينا الموسيقى فذلكم النثر، وإذا نفينا الخيال فهو النظم. ولا مشاحَّة في أن القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة وحدَهما هما اللتانِ تنبضانِ بالموسيقى والخيال كليهما وهما الشعر. أما ما أسميتَه "النثيرة" واسمه عندي "خاطرة أدبية" وعند أهله "قصيدة نثر" فإنما هو نثر أدبي (منه الرفيع ومنه دون ذلك) مزدحم بالصور والأخيلة إلى حدِّ الكِظَّة، وليس فيه من الموسيقى إلا موسيقى اللفظ العربي. أما سائر ما ذكرتم فهي أنواع نثرية محدثة لا خلاف عليها، حتى لو أضافوا كلمة "شعر" في أسمائها.

ــ خرج علينا جمهرة من الشعراء ببدعة اختراع بحور جديدة بدعوى أن الخليل لم يتطرق إليها، فيما يرى بعض العروضيين أن بحورهم مأخوذة عن صور من بحور الخليل ليس إلا، نلتمس منكم الرأي القاطع في هذه المسألة؟

ــ لا أدَّعي القطعيَّة في رأيي، إنما أنا عبد يجتهد فيصيب ويخطئ، وخطؤه أكثر من صوابه. الفكرة هنا طرف من أطراف الموضوع المطروق في جوابي السابق. وأعود إلى القول بإيماني العميق بالانفتاح والمحاولة، والمحاولة تعني الإخفاق ألف مرة في سبيل نجاح مأمول قد يتحقق وقد لا يتحقق. يقول أستاذنا عمر أبوريشة:

شرفُ الوثبة أن تُرضي العُلا غلبَ الواثبُ أم لم يغلبِ

أوزان الشعر في تعريفي: "موسيقى موروثة خاصة بالشعر ومصحوبة بالكلمة". أما العروض فأعرِّفه بأنه "علمٌ يؤصِّل ويضبط فنَّ موسيقى الشعر الموروثة". وهكذا فإن العروض علم نابع من فن. أما التجديد في العروض فقضية دقيقة وحساسة، تحتاج مناقشتها إلى عقلانية وروية وتحديد هدف. من حيث المبدأ، ثمة استخدام خاطئ لمصطلح "تجديد" في ثقافتنا المعاصرة، نحن نُقنع أنفسنا بأن التجديد خير كله وأنه إنقاذ من حالة الانهزام والتخلف والجمود، وهذا مصدره العقدة النفسانية المستكنّة المزمنة؛ عقدة الغرب المتحضر التي تخنق أرواحنا بالبحث الفوضوي عن أي "تغيير" يقرِّبنا من الغرب شبرًا ويُبعدنا عن تخلفنا بأي شكل وثمن. وما نحن عليه من محاولة الانقلاب على الذات وزعزعة للثوابت الركينة لهو برهان كبير على الانهزامية السوداء التي تتشح بها نفوس بعضنا على الأقل. والآن هل تعدُّ إضافة بحر جديد على بحور الشعر (محض إضافة) تجديدًا؟ بالطبع لا، لماذا؟ لأن المشكلة ليست في بحور الشعر أصلاً، المشكلة كامنة في أذواقنا التي تراجعت بدل أن تتقدم مع مر العصور، فالأوزان هي "مسطورة"(نوتة) موسيقية اكتشفها الخليل وقيَّدها ولم يخترعها، هي في عمق الذوق العربي الصافي قبل الخليل بقرون كثيرة، وُجدت عندما وُجدت اللغة العربية نفسها، فالكلمات لها إيقاعات، وبيت الشعر كلمات مُوقَّعة متتالية بحيثتنتج إيقاعًا مركبًا لا نشاز فيه. ولاشك عندي في أن العربي القديم في بيئته الصافية وصدره المنشرح جرَّب كل التركيبات الممكنة فنفى ما يجرح الأذن والذوق (النشاز في الموسيقى) وتشبث بالسلس المنساق مع الذوق الرهيف الذي كان يتمتع به. ثم مع مر الدهور وتداخل الأعراق وازدحام الأرض العربية بالناس والقوميات والرطانات فسد الذوق العام وصار للغة قواعد تضبطها نحوًا وبلاغة وموسيقى، وأمسينا بحاجة إلى صقل الفساد بالتعلم، وصار وزن الشعر بالترنم والتعلم، وكان من قبل بالترنم فحسب، كان العرب يترنمون بستة عشر إيقاعًا أسماها الخليل والأخفش بحورًا وأمسينا نترنم بثمانية منها على الأغلب، واليوم يتحرك شعراء التفعيلة بدائرة أربعة أبحر.

عجيب أمرنا؛ فقد أغفلنا أن التمام هو الذي قد كان وليس ما يجب أن يكون، ونحن ننحدر إلى النقص، وننتقل من كثير إلى قليل، من بحور الشعر كلها إلى القليل المستعمل منها، ثم إلى الانعتاق من البحور بالكلية في الخاطرة الأدبية النثرية التي أسموها تجاوزًا قصيدة نثر وشعر الهايكو...الخ. في الوقت نفسه تحاول النفوس المنهزمة الاستقواء على الجمال الموسيقي الأصيل في الشعر العربي بإضافة أوزان أخرى ربما هي مجافية للذوق، ناسين أن أهل الأندلس سبقونا إلى ذلك فتصرفوا في بعض البحور لتتناسب وقوالبهم الشعرية الجديدة كالموشحات والزجل.واليوم يحاول المجددون التصرف أيضًا ليس عن طريق اكتشاف وزن شعري قديم لم يتنبه له الخليل، بل عن طريق التلاعب بترتيب التفاعيل في البحور ذات التفاعيل المزدوجة كالطويل والبسيط وتسميتها "البحور المعكوسة".

ومع هذا كله لم يغلق العروضيون الباب في أي عصر من العصور، فلا بأس بالمحاولة المشروطة بشرط ألا يكون الوزن المخترع نابيًا مفسدًا للذوق، ومن جهتي أضيف شرط الهدف وهو أن نسأل أنفسنا لماذا التجديد؟ ولماذا الإضافة؟ ولماذا الانعتاق من الوزن وتقليد أذواق الأوربيين تارة (قصيدة النثر) وأذواق اليابانيين تارة أخرى (شعر الهايكو)؟ لماذا ننقلب على الجميل المكتمل القديم في موسيقى الشعر ونتعثر بالتقليد والمحاولة بروح المنهزم ونحن أغنياء أقوياء في هذا الجانب تحديدًا؟