فن الشعر العربي وحيد في لغات العالم
عباس محمود العقاد

http://www.hindawi.org/blogs/1753194...7%D9%84%D9%85/

من المقرر في تاريخ الأدبين العربي والفارسي أن اللغة العربية انفردت بفنِّ العَروض، وأنَّ بعض أوزان الشعر في اللغة الفارسية مستعارٌ من أعاريض العرب، ويغلب أن تكون الاستعارة من قبائل العرب التي اتصل بها أناس من رواد الشعر الموزون بين شعراء الفرس الأقدمين.
وقد كان الجاحظ يقرر هذه الحقيقة على علم بوجوه المقارنة فيها، وقد ألمعنا إلى قوله في هذه المسألة وعقَّبنا عليه في أحد الفصول من كتاب اللغة الشاعرة.
والأديب الفارسي «محمد عوفي» يعرض لهذه المسألة كما عرض لها الجاحظ، ويرى أن «بهرام جور» كان رائد الشعر الموزون بين شعراء الفرس الأقدمين؛ لأنه عاش بين العرب وتأدَّب بآدابهم، كما هو مشهور.
ولقد مضى الرأي على هذا الاعتقاد إلى السنوات الأخيرة، ولكن المستشرق الفرنسي «بنفنست» Benviniste يستخلص من مطالعته في اللغة البهلوية القديمة رأيًا غير هذا الرأي، ويذهب في قراءته لبعض قصائدها مذهبًا يدعو إلى إعادة النظر في مسألة العلاقة بين الأوزان العربية والفارسية! وإلى مطالعاته هذه يشير الباحث الفاضل الدكتور محمد غنيمي هلال، فيقول في الطبعة الثانية من كتابه عن الأدب المقارن، بعد تمهيد عن أثر العرب في آداب الفرس: «إن الأدب البهلوي أو الإيراني القديم راجت فيه نزعة شعبية يقصد بها إلى شرح وجهتيْ نظر مختلفتين في شكل حوار أو جدل … وقد بقي لنا من الأدب الإيراني القديم حوار أدبي عنوانه «الشجرة الآشورية» وهي النخلة … موضوعه حوار بين النخلة والتيس أيهما أفضل من الآخر؟ وقد وصلت هذه القطعة إلينا مكتوبة على طريقة النثر، ولكن العالم الفرنسي «بنفنست» اكتشف أنها في الأصل ذات وزن وقوافٍ، وأن النساخ كتبوها في صورة النثر جهلًا منهم بالشعر الإيراني القديم، وهذا الوزن قريب من المتقارب المثنوي المعروف في العربية ثم في الفارسية الحديثة بعد الفتح الإسلامي.»
ونحن لا نحسب — بعد اطِّلاعنا على خبر هذا الكشف الجديد — أن الحقيقة تتغير في أمر انفراد اللغة العربية بالفن العروضي؛ لأن المسألة في أساسها ليست بمسألة وجود الوزن الشعري في آداب اللغات الأخرى، فإن وجود الوزن في أشعار أمم غير الأمة العربية لم يكن قط موضع خلاف بين مؤرخي الآداب الغربيين أو الشرقيين، وإنما يدور البحث في هذه المسألة على حقيقة لا شك فيها كذلك: وهي انفراد الشعر العربي بفن عروضي مستقل عن الغناء، سواءٌ تغنَّى به الناظم أو اكتفى بإنشاده بغير تنغيم أو بغير «موسقة» كما يقال في الاصطلاح الحديث.
فالأمر المحقق أن هذا الفن العروضي خاص بلغة العرب، لا نظير له في لغة أخرى من اللغات على اختلاف أصولها السامية أو الهندية الجرمانية.
أما وزن الشعر وتطويعه للغناء، فلا خلاف في عمومه بين كثير من أمم العالم، ولكن الفرق بين الوزن الذي يتوقف على الغناء والوزن الذي يستقلُّ بنظمه على بحوره المختلفة وتفاعيله المتعددة: هو أن الشعر والنثر سواء في قابلية «الموسقة» والإيقاع. وعندنا في اللغة العربية الدارجة أغانٍ منثورة وقعها الملحِّنون، فصارت «أناشيد» تعزف على الآلات بمصاحبة الأصوات أو بغير مصاحبتها.
ومن أمثلة هذه الأغاني النثرية أغنية بائعات اليانصيب في بعض المسرحيات الفكاهية، ونكتفي منها بهذه الكلمات:
«خدلك نمرتين وإن كسبت ابق تعالى فسحنا.» ومثلها أكثر الأغاني في المسرحيات الفكاهية؛ فإنها تتوقف على الموسيقى لتحسب من الكلام المنظوم، تبعًا لنظم الغناء.
أما الشعر الذي يقال عنه إنه موزون في اللغات الأجنبية، فليس له فن من الوزن مقدور بغير مقادير التلحين على اختلاف القاعدة في تقسيم ألحانه؛ فهم تارة يحسبونه بالسطر، وتارة بعدد المقاطع، وتارات أخرى بعدد النبرات أو عدد مواضع الوقوف، وحكمه من الناحية الفنية حكم الكلام المنثور الذي لا فرق بين المرسل منه والموزون في اعتماده على الغناء وتطويعه للألحان الموسيقية.
وليس بالمتعذر على العارف بفن العروض العربي أن يقطع سطرًا من الشعر الإنجليزي بمقياس التفاعيل في توزيع الحروف الساكنة والمتحركة، دون أن يكون للتفاعيل أساس من بنية الكلمة التي تنتظم في اللغة العربية على قواعد مطردة للأوزان والحروف بالتحريك والتسكين.
ومن أسباب هذا الفارق — فيما نعتقد — أن الكلمات في اللغات الأجنبية تتألَّف بلصق بعض الحروف ببعض على غير وزن مطَّرِد، ولكنها في اللغة العربية تتألف على قواعد من أوزان معلومة وقوالب مطردة، ويمكن أن تتقابل فيها السواكن والمتحركات بين التفاعيل وبين الألفاظ على نظام مطرد لا يتغير، وليست المدة الزمنية التي يتلى فيها السطر أو المقطع أو النبرة هي محور التقسيم والتنغيم، ولكن المحور الذي يدور عليه كل تقسيم وتنغيم في اللغة العربية هو أوزان الاشتقاق وجريان الكلمات كلها على أوزان متكررة حتى في الجوامد أو الأعلام التي تنقل إلى اللغة العربية، وتصاغ عند النقل بصيغة تشبه أوزان المشتقَّات.
وشبيه بهذا السبب في هذا الفارق بين أوزان الشعر عندنا وأوزان الشعر عندهم: أن الحركة مقدورة في كلماتنا على حسب درجاتها من الامتداد، فعندنا الحركة التي يمثلها الشكل بالفتحة أو الكسرة أو الضمة أو السكون، وعندنا حركات حروف العلة كالألف والواو والياء، وعندنا حركات حروف العلة الممدودة أو المضاعفة التي تمتد بامتداد حرفين كألف الآمال وياء الإيمان والواو بعد الحرف المهموز في مثل كلمة الموءودة.
فهذه الأوزان التي تلازم جميع المشتقات والجوامد، وهذه الحركات التي تختلف باختلاف مقاديرها الموسيقية، هي «الخاصة» التي انفرد بها الكلام العربي كله، ووجب أن يكون لها أثرها في استقلال فن الشعر عن فن الغناء، ويعمل على تمكين هذا الاستقلال الفني أن مصاحبة الشعر للغناء في حداء الإبل كانت تجري على وتيرة واحدة باختلاف السرعة أو الأناة في حركة البعير، ولعل هذه الوتيرة هي أساس التلحين في فن العروض وفن الغناء معًا عند شعراء العرب الأقدمين، وبين الإيقاع على وزن مطرد والإيقاع على وزن قابل للتغيير فرق ظاهر هو الفرق بين حركات سير الإبل وحركات الرقص عند الأمم الأخرى؛ فإن الرقص يجري على نغمات تختلف باختلاف حركاته ولا يلتزم قاعدة غير القواعد الموسيقية العامة؛ ولهذا سميت التقسيمات التي تقابل التفاعيل عندنا باسم الأقدام Feet في اللغات الأوروبية، وليس لها ضابط مستقل عن ضوابط الموسيقى. ونعود إلى الكشف الذي اهتدى إليه العالم الفرنسي فنقول: إنه مما يثبت استعارة الوزن الفارسي من الأعاريض العربية ولا ينفيها؛ لأن وجود بعض الشعر الفارسي موزونًا وبعضه الآخر غير موزون أو غير مضبوط بالأعاريض على جملة البحور دليلٌ على وجود أصل للشعر الفارسي مرسل في الكتابة وفي الإنشاد، وليس للشعر العربي أصل سابق للأعاريض من الكلام الموزون بوزن البحور والتفاعيل، فهو في مقام الاستعارة أَوْلَى بالأصالة والتقدم على الشعر الذي عرف فيه المنظوم وغير المنظوم.
وبين أيدينا — ونحن نكتب هذا المقال — عدد شهر يناير من مجلة «الإنكاونتر» Encounter أو المساجلة والمناوشة في أقرب معنى لها باللغة العربية، وهي مجلة عالمية تنشر للمختصين بموضوعات الأدب والفن أحدثَ البحوث في النقط والتحليل على نمط الدراسات العصرية، ويغلب على بحوثها الاستقلال عن المذاهب والنزعات المتضاربة التي يتحيز لها بعض أصحاب الدعوات المتطرفة، وقد نشرت في هذا العدد الأخير منها فصلًا بعنوان «عروس الشعر العصية» للمستشرق دسموند ستيوارت، يعني بها فن الشعر العربي، ويخلُص من المقال كله إلى تقرير الرأي الغالب على العارفين بهذا الفن من أدباء الغرب: وهو الشهادة له بأنه أدق الفنون وأعصاها على المحاكاة وأحوجها إلى العناية عند النقل والترجمة؛ لأن مزاياه ليست من قبيل المزايا الشائعة في آداب الأمم، وليس له نظير في اللغات السامية نفسها التي تنتسب لها اللغة العربية … وهو يصف اللغة العبرية «بالبربرية» بالقياس إلى لغة الضاد التي وسعت ثقافة عالم واسع من عوالم الحضارة العالية.
ومما قاله في هذا المبحث الفني العلمي في مقام المقارنة بين فنون الشعر، أن الشاعر اللاتيني الكبير هوراس كان يفخر بأنه استهوى عرائس الشعر اليوناني إلى زيارة وطنه الروماني، وهو يقصد بذلك محاكاة أوزان الشعر الغنائي في لغة اليونان … قال: ولكن ما من أحد يستطيع أن يفخر باستهواء عروس الشعر العربي إلى زيارة الجزر البريطانية، أو يفخر «بنجلزة» تلك العروس العصية، وكل ما يمكن أن يقال إن الشعر العربي قد يمثِّله مزيج من بلاغة الشاعر بوب اللفظية، ومن بلاغة الشاعر شلي العاطفية، ومن نزعة الشاعر لورنس الصريحة، ولكنه وصف لا يغني عن الحقيقة ولا يصلح بديلًا لها لمن لا يعرفها.
قال: وإن اللغة العربية لغة نقية صافية على نحو لم يتوافر لغيرها من لغات الحضارة، وإنها مع ذلك تستطيع أن تؤدي العبارة التوراتية المقدسة كما تستطيع أن تؤدي عبارات الأدب. واستشهد الكاتب برأي الشاعر المعاصر المشهور «عزرا باوند» الذي يصف الشعر العربي وصفًا «اصطلاحيًّا» بأسلوبه المعروف، ويمكن أن يقابله باللغة العربية أن هذا الشعر جامع بين القدرة التصويرية والقدرة الموسيقية، أو أنه مما يروق البصر والسمع في آن.
ولم نفهم من قول الكاتب عن عروس الشعر العربي إنها «أعصى عرائس الشعر» إلا أن مرامها صعب على غير أهله، وأن صعوبته إنما يحسها من يحاوله وهو غير مطبوع عليه، وليست فيه صعوبة على قرائه ولا على الموهوبين من ناظميه والمشغوفين بمحاسنه، وهي حقيقة واضحة من سهولة نظم أوزانه على المطبوعين من شعراء اللهجة العامية أو الزجَّالين الأميين والنائحات الأميات. ولا مصلحة للشعر في أن يستبيحه غير المطبوعين من المتعلمين أو غير المتعلمين إذا اقتحمه هؤلاء بإهمال أوزانه التي لا يقدرون عليها، فإن عجزهم عن نظمه شاهد على تجردهم من إلهام المطبوعين الذين يقدرون عليه بغير تعليم، وقد يكون من القادرين عليه من يجهل كلمة العروض ولا يدري معنى التفاعيل.
وقد انفردت اللغة العربية بهذا الفن المطواع لأهله، العصي على الغرباء عنه، فليس من حقها علينا وليس من حقنا على أنفسنا أن نفقد مزاياها بأيدينا؛ لأنها بلغت تمامها عندنا ولم تبلغ هذا التمام عند غيرنا.