النتائج 1 إلى 12 من 12

الموضوع: رد: أنشودة المطر " للسياب / دراسة وتحليل : عطاف سالم

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Feb 2007
    الدولة
    في قلب الحس حيث يقطر الحبر في غسق الدجى
    المشاركات
    118

    رد: أنشودة المطر " للسياب / دراسة وتحليل : عطاف سالم


    " أنشودة المطر " للسـيــاب

    دراسة ونقد وتحليل / عطاف سالم
    15/3/1424هـ
    بحث علمي مقدم على حلقات

    حق النشر محفوظ للناقدة فقط ويمنع نسخه للإستفادة منه بغير إذن

    المقدمة

    كان اندفاعي منصبّاً على القصيدة وحدها ، مسبراً غورها ، محلقاً في آفاقها الرحبة ، بل التهامها حرفاً حرفاً لما تحمله من بذور من المعاني ، تُعشب البدائع والروائع في النفس ، لاسيما وهي تعيش لحظة انتهاك العراق الحبيب ، وتجد في هذه القصيدة ملجأً يأويها من خذلانها .. وصمتها ، وهي في نفس الوقت تجدها متنفساً لما يعتصرها من ألم ، وحرقة وحسرة .. فماذا يمكن القول سوى :
    بغداد .. لست أعتذر !!
    ماذا أقول سوى
    قلبي هناك ..
    ورأسي ليس يرتفع ..
    لكن لما كان السّياب رمزاً من رموز العراق ، ويمتزج امتزاجاً حسياً مع قصيدته هذه .. بل نكاد نلمحه ينبض فيها ؛ كان من حقّ الشاعر عليّ ، ومن حقّ (أنشودة المطر) أن أتناول هذه النقاط الرئيسة في هذا البحث اليسير :
    l السياب بين المطر والعراق .
    l أنشودة المطر :
    - جوّها العام " قراءة أولى لملامحها "
    - الشرح اللغوي والأدبي لها " قراءة نقدية وتحليلية "
    - بناؤها الفني .

    والله الموفق
    عطاف سالم

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Feb 2007
    الدولة
    في قلب الحس حيث يقطر الحبر في غسق الدجى
    المشاركات
    118
    السياب بين المطر والعراق
    حينما يقول السّياب([1]): " إذن هاهو الشاعر العربي يتخطى بدوره زمن العافية والانسجام ، ينوء تحت عبء الزمن الرهيب ، يشرع في تمزيق أقنعة المنطق ، والمتعارف عليه ، يطمح لأن ينقب جدران المعقول ، ويسمِّر عينيه على وجه الواقع العادي ليبحر بالخطايا وهي تطبق على العالم كأخطبوط هائل ، فتفترس الرؤيا عينيه " .
    وأضع بجوار هذا تعريف الشعر عند إليوت بأنه : " ليس انطلاقاً للانفعال ، لكنه هروب من الانفعال ، إنه ليس تعبيراً عن الشخصية ، ولكنه هروب من الشخصية "([2]).
    أجد أن السياب يهرب من انفعالاته التي أرهقت بنيته الضئيلة ، وروحه المضطربة ، وقلبه المتوهج بكم النفي والغربة والوحدة والحرمان والاضطهاد اللامنطقي ، وعبودية المكان والزمان ، والموت الفاجع في والديه ، ومرضه من بعد ..
    يهرب من هذه الانفعالات المحمومة التي تعتصره إلى الرمز أو الأسطورة إلى المطر .. إلى العراق .
    وقد يعني المطر أو العراق عنده أشياء عدّة ، فهو يتعامل مع لفظة المطر خاصة تعاملاً مختلفاً ؛ إذ أوضحت بعض قصائده أنه كان يرى فيه الفكرة السائدة قديماً من أنه أصل الحياة ، بينما نجده في قصائد أخرى يحمّله معنى الثورة على القهر الاجتماعي والسياسي ، وربط بين المطر وجوع العراق الدائم ، في حين نجده مرة ثالثة يعدّه صنواً للدم ، كذلك لانعدم أن نجده في قصائد أخرى رمزاً للبعث والحياة ، وقد يكون حاملاً للنقيضين : الموت والحياة([3]). لكن ترانيم العراق والمطر بالإضافة إلى أهميتهما في حياته وارتباطه بهما كانتا كالقناع الذي يتوارى خلفه ..
    لقد ارتفع عن معناهما السطحي الظاهر إلى ألفاظ سحرية دالة .. دافقة في شعره ، حيّة ، تجسّم لنا الإنسان ، والحياة ، والصراع ، والحبّ ، والفشل ، ومشاعر أخرى مختلطة ..
    وهاهي نماذج من شعره يتردّد فيها المطر .. أو يتردد العراق ..

    جوعان في القبر بلا غذاء
    عريان في الثلج بلا رواء
    صرفت في الشتاء ..
    أقضّ يا مطر ..
    .

    (مدينة السندباد) ، ثم يستمرّ في نفس القصيدة :

    غداً سيصلب المسيح في العراق
    ستأكل الكلاب من دم البراق
    .

    إلى أن يقول :

    يا أيها الربيع ..
    يا أيها الربيع ، ما الذي دهاك ؟
    جئت بلا مطر
    جئت بلا زهر
    ([4])..
    .

    ويقول في قصيدته : (صياح البطّ البري) :

    صياح كأجراس ماء .. كأجراس حقل من النرجس
    يدندن والشمس تصغي ، يقول :
    بأن المطر ..
    سيهطل قبل انطواء الجناح ..
    وقبل انتهاء السفر
    ([5])..
    .

    أو يقول :

    يا ليل أين هو العراق ؟
    يا ليتني طفل يجوع ، يئنّ في ليل العراق !
    يا ليل ضمخك العراق
    بعبير تربته ، وهدأة مائه بين النخيل
    ([6]).

    والحقيقة أن كلمة المطر إنما هي المرادف الذي لازمه خلال تطوره الشخصي والنفسي ، يقول عن (لاة) الحزينة ، ويقصد أمه الميتة :

    ترفع بالنواح صوتها مع السحر ..
    ترفع بالنواح صوتها ، كما تنهد الشجر
    تقول : (يا قطار ، يا قدر)
    قتلت - إذ قتلته - الربيع والمطر ..
    .

    ويعرّي الواقع الإنساني المزيف الذي لا يرحم جوع الأطفال ، صغار بابل الذين يحملون سلالاً من الصبار ، فيقول في قصيدته التي يتوحد في عنوانها العراق والمطر ، وهي (مدينة بلا مطر) :

    مدينتنا تؤرق ليلها نار بلا لهب
    تحم دروبها والدور ، ثم تزول حماها ..
    ويصبغها الغروب بكلّ ما حملته من سحب
    ([7]).

    ... إلى أن يقول :
    مدينتنا تؤرق ليلها نار بلا لهب
    .

    ... سحائب مرعدات مبرقات دون أمطار.
    لقد كان لجوء السياب إلى الأسطورة في كثير من أشعاره نوعاً من الاغتراب الذاتي عن طريق الهرب من المدينة وأخيلة اليسار الصناعي([8]).
    وليس من التنكر للشعر الذاتي أن نقول : إن بدراً كان على خير أحواله إجادة حين كان يستطيع أن يوحّد بين أزمته الذاتية وأزمة أمته ، أو حين يجعل التجربتين غير متباعدتين ، ذلك أنه لم يكن قادراً على أن يخرج نفسه من الصورة في كلّ حين([9]).
    ولعلّ العراق هي الأم التي يبحث عنها ، والتي فقدها ولما يرتوي بعد من عطفها وحنوّها والتفافها حوله .. أو لعلّها المرأة التي طالما اشتاقت إليها روحه لتتفهمه و يلوذ بدفئها .. وأقصد الحبيبة ، لكن أياً كان حبه للمرأة فإن العراق هو حب آخر يشمل كلّ هذا ، ويحتضن كلّ همومه وعذاباته وانفعالاته .. التي ربما لم يحتضنها سوى (عراقه) . أما المطر فلعله الأنشودة - كما أسماها - التي تبعث فيه الحياة .. أو هي الانعتاق من ربقة القلق والتوتر والتناقض ، ونسيان هذا كله .. وهو ينشد :
    مطر .. مطر .. مطر ..

    والحق أن حياة السياب تتضمن قوسين كبيرين ، هما مرحلة البحث عن الأم .. أو العلاقة بين الشاعر والموت ، وبينهما خط قصير نحيل متعرج يمثل انسجامه الفني في الجماعة أو نقمته عليهما ، وفي أثناء تلك الفترة القصيرة زمنياً وجد الشاعر نفسه ثم فقدها في سرعة([10]).
    والملاحظ في شعره أنه يزاوج فيه ما بين الحب والموت ، والموت والمرض ، والحب والمرض ، وكلّ ذلك والمدينة والزمان في ازدواجية لم تفارقه في معظم أشعاره([11]).
    وأختم هذا المبحث بقول للسياب نفسه في مقدمة مجموعته (أساطير) يقول فيها :
    " أنا من المؤمنين بأن على الفنان ديناً يجب أن يؤديه لهذا المجتمع البائس الذي يعيش فيه ، ولكنني لا أرتضي أن نجعل الفنان - وبخاصة الشاعر - عبداً لهذه النظرية . والشاعر إذا كان صادقاً في التعبير عن الحياة في كلّ نواحيها ، فلا بدّ أن يعبر عن آلام المجتمع وآماله ، دون أن يدفعه أحد إلى هذا ، كما أنه من الناحية الأخرى يعبر عن آلامه هو وأحاسيسه الخاصة التي هي في أعمق أغوارها أحاسيس الأكثرية من أفراد هذا المجتمع "
    ([12]).

    rrr

    ([1]) بدر شاكر السياب ، ولد عام (1926م) في بلدة تُدعى (جيكور) ، تلقّى تعليمه الابتدائي في مدرسة (بابا سليمان) القريبة من جيكور ، رعته جدته لأبيه بعد موت والدته في الثالثة والعشرين من عمرها .. تلقّى تعليمه الثانوي في البصرة ، وتخرّج من دار المعلمين العليا ببغداد عام (1948م) ، اتّجه اتجاهاً قومياً عربياً من غير أن تفارقه المفاهيم الاشتراكية التي سجن من أجلها ، توفّي عام (1964م) على أثر داء عضال لازمَهُ بضع سنوات في أواخر حياته ، أشهر آثاره : (أزهار وأساطير) ، (العبد الغريق) ، (منزل الأقنان) ، (أنشودة المطر) ، (شناشيل ابنة الجلبي) .. وقد جمعت كلها في ديوان واحد نشرته دار العودة في بيروت عام (1971م) .

    ([2]) الاغتراب في شعر بدر شاكر السياب ، أحمد عودة الشقيرات ، ص70 .

    ([3]) الأسطورة في شعر السياب ، عبد الرضا علي ، ص154 .

    ([4]) الاغتراب في الشعر العراقي ، محمد راضي جعفر ، ص150 .

    ([5]) الأسطورة في شعر السياب ، ص166 ، وانظر إن شئت : قصيدته (الرؤيا) .

    ([6]) الاغتراب في شعر بدر السياب ، ص113 ، وانظر إن شئت قصيدته (وداع) و (غريب على الخليج) .

    ([7]) الاغتراب في شعر السياب ، ص116 ، 123 .

    ([8]) المرجع السابق ، ص111 .

    ([9]) بدر شاكر السياب ، دراسة في حياته وشعره ، إحسان عباس ، ص308 .

    ([10]) المرجع السابق ، ص303 .

    ([11]) الاغتراب في شعر السياب ، ص154 .

    ([12]) المرجع السابق ، ص73 .

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Feb 2007
    الدولة
    في قلب الحس حيث يقطر الحبر في غسق الدجى
    المشاركات
    118
    أنشودة المطر

    عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
    أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمرْ
    عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ
    وترقص الأضواء .. كالأقمار في نهرْ
    كأنما تنبض في غوريهما ، النجوم ...
    وتغرقان في ضباب من أسى شفيف
    كالبحر سرّح اليدين فوقه الماء
    دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف
    والموت ، والميلاد ، والظلام ، والضياء
    فتستفيق ملء روحي ، رعشة البكاء
    ونشوةٌ وحشيةٌ تعانق السماء
    كنشوة الطفل إذا خاف من القمر !
    كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ
    وقطرة .. فقطرة تذوب في المطر ...
    وكركر الأطفالُ في عرائش الكروم ،
    ودغدغت صمت العصافير على الشجر
    أنشودةُ المطر ...
    مطر ...
    مطر ...
    مطر ...
    تثاءب الماء ، والغيوم ما تزال
    تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقال
    كأنّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام :
    يا واهب اللؤلؤ والمحار والرّدى ! "
    فيرجع الصدى
    كأنه النشيجْ :
    " يا خليج
    يا واهب المحار والردى ... "
    أكاد أسمع العراق يذخر بالرعود
    ويخزن البروق في السهول والجبال ،
    حتى إذا ما فضّ عنها ختمها الرجال
    لم تترك الرياح من ثمودْ
    في الوادِ من أثر
    أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر
    وأسمع القرى تئنّ ، والمهاجرين
    يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع ،
    عواصف الخليج ، والرعود ، منشدين :
    " مطر ...
    مطر ...
    مطر ...
    وفي العراق جوع
    وينثر الغلال فيه موسم الحصادْ
    لتشبع الغربان والجراد
    رحى تدور في الحقول ... حولها بشرْ
    مطر ...
    مطر ...
    مطر ...
    .

    بأن أمه .. التي أفاق منذ عامْ
    فلم يجدها ، ثم حين لَجّ في السؤال
    قالوا له : " بعد غدٍ تعودْ ... "
    لا بدّ أن تعود
    وإن تهامس الرفاق أنّها هناك
    في جانب التلّ تنام نومة اللّحودْ
    تسفّ من ترابها وتشرب المطر ؛
    كأن صياداً حزيناً يجمع الشباك
    ويلعن المياه والقدر
    وينثر الغناء حيث يأفل القمرْ
    مطر ...
    مطر ...
    أتعلمين أيّ حزنٍ يبعث المطر ؟
    وكيف تنشج المزاريب إذا انهمرْ ؟
    وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع ؟
    بلا انتهاء - كالدم المراق ، كالجياع
    كالحب ، كالأطفال ، كالموتى - هو المطر !!
    ومقلتاك بي تطيفان مع المطر
    وعبر أمواج الخليج تمسح البروقْ
    سواحل العراق بالنجوم والمحار
    كأنها تهمّ بالشروق
    فيسحب الليل عليها من دمٍ دثار
    أصيح بالخليج : " يا خليج
    وكم ذرفنا ليلة الرحيل ، من دموعْ
    ثم اعتللنا - خوف أن نلامَ - بالمطر ...
    مطر ...
    مطر ...
    ومنذ أن كنا صغاراً ، كانت السماء
    تغيمُ في الشتاء
    ويهطل المطر ،
    وكل عام - حين يعشب الثرى - نجوعْ
    ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ
    مطر ...
    مطر ...
    مطر ...
    في كلّ قطرة من المطر
    حمراءُ أو صفراء من أجنة الزهَرْ
    وكلّ دمعة من الجياع والعراة
    وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ
    فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
    أو حلمة توردت على فم الوليدْ
    في عالم الغد الفتي واهب الحياة !!
    مطر ...
    مطر ...
    مطر ...
    سيعشب العراق بالمطر ... "
    أصيح بالخليج : " يا خليج ...
    .
    يا واهب اللؤلؤ والمحار والرّدى ! "
    فيرجع الصدى
    كأنه النشيج :
    " يا خليج
    يا واهب المحار والرّدى "
    وينثر الخليج من هباته الكثارْ ،
    على الرمال ؛ رغوة الأجاج والمحار
    وما تبقّى من عظامٍ بائسٍ غريق
    من المهاجرين ظل يشرب الردى
    من لجة الخليج والقرار ،
    وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيق
    من زهرة يربّها الفرات بالندى
    وأسمع الصدى
    يرنّ في الخليج
    " مطر ...
    مطر ...
    مطر ...
    في كلّ قطرة من المطرْ
    حمراء أو صفراء من أجنة الزّهَرْ
    وكل دمعة من الجياع والعراة
    وكلّ قطرة تراق من دم العبيد
    فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
    أو حلمة تورّدت على فم الوليد ..
    في عالم الغد الفتيّ ، واهب الحياة " .
    ويهطـل المطـر([1])..

    قراءة أولى لملامح القصيدة بشكل عام :
    لعلّ السياب في هذه القصيدة كان ينزع إلى الخروج من مشاعر مكبوتة وآلام طالما كبّلته ، فلقد تأجّج صدره بالثورة ضدّ المستعمر ، وهو الشاعر السريع التأثر ، المرهف الحسّ بكلّ ما يجري حوله وهو يرى آلام الفقراء والضعفاء فيقطر ألماً ويتفجر أسىً ، ولا يملك إلا الانطواء على هذا الحرف يضع منه أناشيدَ بنظمه ، يعزي بها نفسه وأولئك الفقراء :
    أناشيدٌ سادرة .. هادئة كالمطر ..
    تحمل الأمل بالخلاص من الاستعمار والاستغلال والظلم ..
    (أنشودة المطر) هكذا أسماها ..
    هي ذات إيحاءات ناطقة ..
    ومعانٍ متقاطرة لا تنقطع .. كتقاطر حبات المطر ..
    كلّ معنى منها يُحيي كالمطر ..
    ويُفجّر كالمطر ..
    ويُنعش كالمطر ..
    ويفجأُ كالمطر ..
    " والقصيدة هنا كالأرض تهتزّ بالمطر لتربو نسمة الحياة ، وإن كان المطر يحدد سطحها ويجرف بعض معالمها "([2]).
    القصيدة تصور العراق نفسه من خلال منظر ماطر ، ولعلّ هذا المنظر الذي تخيره الشاعر هو الأنسب لمحنة العراق .
    إذ دموع كالمطر ..
    وغصة كوقعة المطر ..
    وتشتُّت كتناثر المطر ..
    مطر .. مطر .. مطر .. هكذا تقول القصيدة ..
    وهذا هو غشاؤها الشفيف وخلفه أنين الجياع .. ودموع العراق ..
    غشاء يشف عن أسىً انسابَ وامتزج بالقرى والمهاجرين ..
    إنّها صورة يتلاحم فيها الخصب والجوع .. واليأس والأمل .. والحياة والموت .. وشرخ الصبا ويتم الطفولة .. بل يتلاحم فيها الشاعر بالعراق ..
    " إنها من أشدّ قصائد السياب اعتماداً على الإلماح السريع والربط الداخلي ، فهي أول قصيدة من نوعها في شعره ، وهي فاتحة ما يمكن أن يسمى (شعره الحديث) ، أعني أنها في داخلها مبنية بناءً تكاملياً ، وفي خارجها تتكئ على دورات متصاعدة ، قليلة الاستطراد إلى الجزئيات التي تنحرف بها عن وجهتها العامة وعن غايتها النهائية " .
    ولهذا كله - أي الذي مضى - امتلأت القصيدة بصور نابضة أو متفتحة أو مشرفة على التفتح : " الكروم تورق - الأضواء ترقص - المجداف يرج الماء - النجوم تنبض - ارتعاشة الخريف - رعشة البكاء - الخليج يغرق باللؤلؤ والمحار والردى - العراق يذخر الرعود والبروق - الرجال يفضون الختم عنها - القطرة تنفتح عن أجنة الزهر ... " . وليست هذه صوراً للتزيين ، وإنما تعتمد إيحاءات اللفظة والصورة معاً لتمهد الطريق إلى التفتّح الكبير الذي تستعدّ له الحياة "([3]).
    وإذا غاص القارئ بإحساسه الفطري في أعماقها ، يجد أنه قد أشرف على جملة من قِطع الحياة تجسّمت هنا .. وتمازجت هنا ..
    وكلّ منها يشير إلى نفسه دون نظر من القارئ إليها ..
    فيرجع الصدى كأنه النشيج ..
    نعم هو إحساس يرتد يملأ النفس بغوامض مستترة تكتنف عدة أسرار ، يسري سحرها دونما رعشة .. بل في غفلةٍ منها ، فلا يعي سوى الانطراح على ضفاف القصيدة لتعلمك هي بتلك الغوامض التي اكتنفتك .. وتعيد إليك الشعور في اللاشعور ..
    ولا غرابة إذ قلتُ إنها تكاد أن تكون هي الفاعلة ، تأخذك إلى حيث أرادت هي .. لا حيث ما تريد !.
    هي تضعك !
    هي تبعثك !
    هي تُبكيك ..
    وهي تهدّؤك .. أو تُبهجك ..
    ثم هي مع كلّ هذا معك في كلّ لحظة من لحظاتك التي جعلتك تعيشها لها .. وبها .. ومعها ..

    ([1]) ديوان بدر شاكر السياب ، بيروت ، دار العودة ، ص474-481 .

    ([2]) بدر شاكر السياب ، دراسة في حياته وشعره ، إحسان عباس ، ص156 .

    ([3]) المرجع السابق ، ص156 .

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Feb 2007
    الدولة
    في قلب الحس حيث يقطر الحبر في غسق الدجى
    المشاركات
    118
    القراءة النقدية والتحليلية للنص :
    عيناك غابتا نخيل ساعة السحر ،
    أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمرْ .
    عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ .
    وترقص الأضواء .. كالأقمار في نهرْ .
    كأنما تنبض في غوريهما ، النجوم ...
    مقدمة غزلية تقليدية صاغها السياب صياغة جديدة ..
    فهو يخاطب حبيبته وكأنها تمثل العراق كله ، حينما يقول لها : عيناك غابت نخيل .. والنخيل من أبرز ملامح البيئة العراقية ..
    إنه يرى من خلال عينيها الحبيبتين (عراقه) .
    وإنها لألذّ ساعة وأشهاها .. ساعة السحر !
    ساعة ينأى عنها القمر .. لكنه راح مجبراً ، أو كأنّ عينيها تبرق في وجهه ، فاستغنى عنهما القمر ..
    ويالسعادة الشاعر في ذلك السحر .. وعيناها تبسمان ..
    أخذته العينان إلى عالمٍ سحري ..
    كروم تورق ، وأضواء ترقص ، وأقمار في نهر ، فالنهر يسطع ، وتلك الأضواء تلاعبه ، والشاعر في زورقه قد رجع بالمجداف النهر .. وحوله الربيع قد أورق ..
    غارقٌ في العينين ..
    يشعر أنها النجوم تنبض فيهما .. لا ، بل هو !!.
    وتغرقان في ضباب من أسىً شفيف .
    كالبحر سرّح اليدين فوقه الماء ،
    دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف ،
    والموت ، والميلاد ، والظلام ، والضياء ؛
    فتستفيق ملء روحي ، رعشة البكاء ..
    إلى أن يقول :
    ودغدغت صمت العصافير على الشجر
    أنشودةُ المطر ...
    مطر ... مطر ... مطر ...
    انتقل السياب من المقدمة الغزلية المطورة إلى وصف الطبيعة كما يحسّها هو ..
    فيعود لعيني حبيبته ، وقد تكون القرية أو العراق .. أو الأم ، فيجد أنها تغرق في ضباب من الحزن الساجي الشفيف ، حزنٌ يستوقف ويُسلب !!
    فإذا هو يسرح عبر عينيها التي هي كالبحر بكلّ ما يحويه من ثورة ورهبة .. لكنها أيدي الماء تسرح فوقه فيهدأ ، ويدفأ رغم برد الشتاء .. رغم رعشته في بدايات الخريف ..
    ويسكن رغم ما تحمله الطبيعة له من موت وميلاد .. وظلام .. وضباب مستكن في الشتاء ورعشته ..
    حزنٌ شفيف أرعش الشاعر بالبكاء ، لكنّ نشوةً ملأت روحه لما أبصر الضياء .. وتوارى الشتاء ، وعادت الطبيعة للحياة ..
    نشوةٌ تكاد أن تلتهمه .. تكاد تعتنق السماء ..
    نشوةٌ تشبه نشوة الطفل عندما يخاف من منظر القمر ..
    وهو يرى بوارق الربيع .. بوارق الانتعاش تتمثل في ألوان قزح ، وكأنها تشرب الغيوم عندما تتوارى الشمس خلف السحب الربيعية الشفافة الناعمة ..
    وقطرة .. فقطرة .. تذوب في المطر ..
    فأيّ قطرات من الغيوم تذوب في قطرات مطر .. وأيّ ألفة حيّة جمعتهما ؟!!.
    وضحك الأطفال يعلو في عرائش الكروم التي تضمّ عصافير حييّة .. تلوذ بالشجر ..
    وإذا بالمطر يدغدغ صمت تلك العصافير ، لكأنه أنشودةٌ تتردّد ، وهو يوقّعُ على الأرض أصواتاً متناغمة تستجيب لها الطيور فتنسجم .. ولعلّها تردّد معه :
    مطر ..
    مطر ..
    مطر ..
    تثاءب الماء ، والغيوم ما تزال
    تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقال
    كأنّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام :
    بأن أمه .. التي أفاق منذ عامْ
    فلم يجدها ، ثم حين لَجّ في السؤال
    قالوا له : " بعد غدٍ تعودْ ... "
    لا بدّ أن تعود ..
    إلى أن يقول :
    وينثر الغناء حيث يأفل القمرْ
    مطر ...
    مطر ...
    الترتيب هنا مناسب ، فبعد أن انتهى الشاعر من المقدمة ووصف الطبيعة كما يحسّها في نفسه .. تذكر هذه النفس ومن أين له أن ينسى تجارب الطفولة البائسة ..
    وعندما جاء المساء .. تثاءب تعباً وأرخى سدولة من رهقة الضياء الماطر .. بينما الغيوم تذوب قطرة فقطرة .. لا تزال ! وبينما الطبيعة تستقبل هذه الدموع الثقال ؛ دموع الغمام وهي تسحّ ما تسحّ على كروم العنب وغابات النخيل الحلوة .. يتذكر الشاعر تلك المرحلة اليائسة من حياته التي فقدَ فيها أمّه الحانية ..
    كأنه ذلك الطفل يهذي في كلّ مرة قبل أن ينام .. متى يجدها ؟!!. ويغرق في الهذيان .. ؛ إذ لا سبيل للقاء سواه ، ولَمّا يفق .. لا يجد سوى سؤال يلجّ فيه متى تعود ؟!.
    ويأتيه الجواب المكرر دوماً : .. المُرهق حتماً : " بعد غدٍ تعود " .
    ويستمرّ السؤال .. ويأتيه الجواب بصورة أخرى : لا بدّ أن تعود .
    ثم لا يملك الصغير غير أن يلجّ في السؤال .. وهل غير ذلك !! والسياب أيضاً يتذكر رفاق لِعْبه ، وكيف كانوا يتهامسون أن أمه هناك في جانب التلّ تنام نومة القبور .. تأكل من تراب القبر .. وتشرب من مياه المطر ..
    وهكذا كان الطفل يفقد الأمل من عودة أمه ، فتنقطع به الحيل والسبل .. فينكفئ على نفسه .. يَنْزوي ..
    ويعود لأحزانه منطوياً عودة صيادٍ حزين يجمع الشباك ويعود دونما صيد ، فقد خانه الحظّ .. وعاد بالخواء .. فيلعن المياه و ...
    ويتسلّى بالغناء ينسى أحزانه .. ينثرها كلما تناثر الغناء .. حتى يأفل القمر .. يغيب عن ناظريه .. ليستقبل يوماً آخر ..
    تباشيره :
    مطر ..
    مطر ..
    مطر ..
    أتعلمين أيّ حزنٍ يبعث المطر ؟
    وكيف تنشج المزاريب إذا انهمرْ ؟
    وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع ؟
    بلا انتهاء - كالدم المراق ، كالجياع
    كالحب ، كالأطفال ، كالموتى - هو المطر !!
    ومقلتاك بي تطيفان مع المطر
    إلى أن يقول :
    " يا خليج ..
    يا واهب المحار والردى ... " .
    ثم يعود الشاعر ليناجي حبيسته مناجاةً تعكس نفسه الذاوية وتنساب خواطره الحزينة ، وذكرياته المريرة مع انسياب المطر في هذه الطبيعة التي تحيط به ، لكنه لا يراها إلا من خلال نفسه المرهفة .. المرهقة ..
    فيقول متسائلاً سؤال اليائس البائس :
    أتعلمين كم يبعث المطر حزني ويجدده ؟.
    وأيّ حزنٍ يبعثه ؛ بل كيف ؟. بينما الناس يبتهجون ويفرحون بنُزوله .. وأنا .. أنا من لا يبهجه ..
    وانظري إلى تلك المزاريب .. أرهفي لها ..
    إني أسمع نشيجها وهي تبكي ، بينما ينزل المطر عليها بغزارة ..
    وانظري كيف تبكي ؟.
    واشعري كيف تنشج بهذا الصوت الغزير كغزارة المطر ؟.
    وآهٍ .. كم يشعر الوحيد فيه مثلي بالضياع .. كم !.
    أتشعرين كيف ؟.
    ينْزِل المطر هنا ..
    وهناك .. هناك حيث ترقد أمي ، وتسفُّ تراب القبر .. وتشرب مياه المطر .. وكأنّ هذا المطر يجدّده آلامه وشعوره بالوحدة ومرارة اليتم ، إنه شعورٌ بلا انتهاء .. كاستمرار المطر ..
    إن ذا المطر كالدم المراق .. يشعره ..
    كنظر الجياع ولأوائهم .. كالحبّ الذي يفتقده .. كالأطفال يتشوقون إليه ثم لا يأتي .. لا ، بل كالموتى ..
    وكأنّ أولئك يذكّرونه بالمطر ؛ لأنّهم يشتاقون له في زمن الجدب ..
    ثم التفت إلى حبيبته بعدما آلمه المطر .. ورؤية المطر ..
    إن مقلتيك تحيطان بي هنا في هذه اللحظات مع المطر ..
    بل ترافقيني كما يرافقني المطر .. أنتما ربما تحملان لي العطاء .. والحياة .. والنماء .. أنتما .. أنتِ والمطر ..
    وعبر أمواج الخليج التي تمتدّ إلى شواطئ العراق هناك .. يسرح الشاعر !! بل يغيب .
    ويجد كأن تلك الأمواج تمسح بروق الربيع ورعوده لتعود وتحتضن المحار ، وفي داخله اللؤلؤ لينتشر على شواطئ (عراقه) الحبيب ..
    وبعد تلك الغيوم والرعود تظهر الشمس على استحياء .. تريد أن تهم بالشروق .. لكنه الليل أدركها ليختلط الشروق بالشفق كدمٍ دثار من دم الشهداء ..
    وهل من صورة مقشعرة من أن يكون الدم هو الدثار أو لهيب النار ؟.
    ويتملك السياب العجب وترعشه مشاعر الدهشة أو اليأس من الشروق ..
    فيصيح بالخليج :
    يا خليج .. يا خليج .. يا واهب المحار واللؤلؤ والردى ..
    فيعود إليه صداه مترجماً إحساساً ينشج ..
    إنه صدىً محق !.
    يرجع كأنه البكاء والنشيج :
    يا خليج ..
    يا واهب المحار ..
    و ...
    والموت ..
    --------

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Feb 2007
    الدولة
    في قلب الحس حيث يقطر الحبر في غسق الدجى
    المشاركات
    118

    أكاد أسمع العراق يذخر بالرعود ،
    ويخزن البروق في السهول والجبال ،
    حتى إذا ما فضّ عنها ختمها الرجالْ ،
    لم تترك الرياح من ثمودْ
    في الوادِ من أثر ..
    إلى أن يقول :
    ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ
    مطر ... مطر ... مطر ...
    كأنّ تلك المناجاة .. وذلك الاختلاط مع الطبيعة رمى به في أحضان العراق .. وكأنه يسمعها .. وتتكشّف له من وراء الغيب تذخر بالوعود والبروق التي تحمل الخير للسهول والجبال ..
    لكن الشاعر تدركه لحظة خوف .. فلربما لحظة انتظار العراق الطويل لهذا الفارس .. (المطر) هي لحظة الميلاد والإخصاب ، لكن الريح ربما لا تُبقي في واديه من أثرٍ لهذا .. كرياح ثمود ! وبين الخوف والرجاء ، كأن الشاعر يسمع صوت نخيل بلاده وهو يشرب المطر .. نعم صوته وهو يشرب !!.
    وأي صوتٍ يصدر من تلك السوامق .. سوى صوتٍ عالٍ مؤثر هزّ أركان الشاعر .. وأسمعه صوت القرى كذلك وهي تئنّ من الألم .. وأولئك المهاجرين وهم يصارعون عواصف الخليج ورعوده بمجاديف وقلوع .
    وكأن أنين القرى والمهاجرين بمثابة الدعاء لاستنْزال المطر .. إنهم ينشدون :
    مطر ..
    مطر ..
    مطر ..
    والشاعر هناك على شواطئ الخليج لم يولِّد فيه المطر سوى الجوع .. والشوق إلى الأم .. وإلى القرية .. إلى الطبيعة الحية .
    والعراق كذلك لم يولِّد فيه المطر إلا الجوع ..
    فكأن الشاعر والعراق سيّان ما فتّق فيهما المطر ولا أزهر ، ولا أروى ولا أنعش غير الجوع ؛ لأنّ الغلال التي يسكبها المطر في العراق لا يأكلها إلا الغربان والجراد .. أو تذهب إلى الإقطاعيين في كلّ موسم ، أولئك الذين يأكلون خيرات البلاد .. ويبقى فلاح الأرض جائعاً .. مغبوناً .. مقهوراً ..
    ثم لا تطحن الرحى والبشر حولها جائعون .. سوى الحجر .. والحشف البالي ..
    فأيّ مطر ..
    مطر ..
    مطر ..
    ويتذكر الشاعر لحظة مغادرته العراق .. ليلة الرحيل ..
    كم ذرف .. وكم ذرف من دموع لهذا الفراق ..
    ولم يكن له من حجةٍ أو علة ، خوف أن يلومه أحدٌ .. سوى المطر .. وهل سواه ؟!.
    فمنذ أن كان صغيراً والسماء تغيم .. وتهطل المطر ..
    وكما أن تاريخ المطر في العراق طويل ، كذلك كان تاريخ الجوع فيه طويلاً !!.
    وكلّ عام .. حين يعشب الثرى .. نجوعْ ..
    ما مرّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ ..
    ويتذكر المطر يردد : مطر .. مطر .. مطر ..
    وكلّ كلمة تحيي فيه التاريخ العريق في الجوع والمطر ..
    في كلّ قطرة من المطر
    حمراءُ أو صفراء من أجنة الزهَرْ
    وكلّ دمعة من الجياع والعراة
    وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ
    فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
    أو حلمة توردت على فم الوليدْ
    في عالم الغد الفتي واهب الحياة !!
    مطر ...
    مطر ...
    مطر ...
    سيعشب العراق بالمطر ... "
    مطرٌ يهطل .. دفقةٌ إثر دفقة .. في كلّ قطرة من المطر ألوان من الزهر اختبأت في أجنة الزهر ..
    لكنها لم تظهر .. انطفأت .. وماتت الألوان ..
    فالمطر .. لم يُزهر .. بل غادرت قطراته بالزهر ..
    في كلّ قطرة من المطر دمعة من الجياع والعراة ..
    في كلّ قطرة من المطر دمٌ من العبيد الكادحين العاملين لإشباع الغربان والجراد .. قد امتزج !!.
    لكنه ابتسام في انتظار ..
    انتظار مبسم جديد ..
    لربما .. أو ربما ..
    وأي حلمة تتورد على فم الوليد إلا بأملٍ شاهق في المطر بعد يأسٍ شاهقٍ مثله ..
    وأيّاً كان إذاً لا بدّ لدفقات الأمطار والدماء أن تنداح كراتها وقطراتها عن عالمٍ فتيّ جديد فيه الحقيقة المغايرة ..
    فيه البسمة والنور ..
    إنّه واهب الحياة ..
    المطر ..
    مطر ..
    مطر ..
    مطر ..
    يردّدها الشاعر وملء روحه النشوة بالحبور والأمل ، ولعلّه يهتف بانتشاء .. أو علو منتشي ..
    سيعشب العراق بالمطر ..
    أصيح بالخليج : " يا خليج ...
    يا واهب اللؤلؤ والمحار والرّدى ! "
    فيرجع الصدى
    كأنه النشيجْ :
    " يا خليج
    يا واهب المحار والردى ... " ..
    إلى آخر القصيدة .. وهو قوله : ويهطل المطر ..
    سيعشب العراق بالمطر .. أجل ؛
    لكن الشاعر هنا كأنه يستفيق من حلم ..
    " حِـلمٌ تنَـاثر أطيافـاً منفّـرة ..
    ما كان أكرمه لو لم يكن حلمـا "([1])
    إن هاجس الجوع يسري في عروقه .. بل هو ساكنٌ فيه ، فصيح بالخليج صيحة تهزّه ليستفيق .. أو يستفيق المطر .. يا خليج .. يا خليج ..
    يا واهب اللؤلؤ .. والمحار ..
    لكأنّه يتنهّد .. قبل أن ينطق : الردى ..
    ويالله ما أصدق الصدى إذا لم يبح الشاعر بغزير بكائه وتحرّق إحساسه ..
    فيرجع الصدى ..
    هذه الفاء التي صدقته .. نعم !.
    صدى كأنه النشيج .. النشيج !!!.
    يا خلييييييج ..
    يا واهب المحااااااااار ..
    يا واهب الموت ..
    ويستجيب الخليج ..
    ورغم هبّاته الكثار ، لا ينثر إلا موجة تتكسّر على الشاطئ حاملة الرغوة الأجاج .. وبعض محار .. وبقايا عظامٍ لبائسٍ غريق ، لعله من المهاجرين من العراق ، ظلّ يشرب الموت لا المطر ؛ من لجة هذا الخليج ..
    وهذا القرار السحيق ..
    ارتوت عروقه حتى تفجرت ..
    لكن في العراق ريّا آخر إلى جانب الظمأ والجوع :
    ريّ الأفاعي التي تشرب الرحيق من زهرة يربّها الفرات بالندى ..
    إلا أن الحقيقة المغايرة لا بدّ أن تولد من قطرات المطر .. وقطرات
    دم العبيد ..

    ولعلّ الشاعر لا يحلم هنا ، إنه يسمع الصدى يرن لا ينشج .. أو يقول : يا واهب الردى .. بل يقول :
    مطر ..
    مطر ..
    مطر ..
    ولا أدري أهي سخرية من الصدى ؟!
    أم هو حلم الشاعر يتردد مرة أخرى وفي نفسه ألا يستفيق ..
    فيختم القصيدة هنا ..
    لعلّه ينام .. ثم
    ثم ..
    يهطل المطر ..

    ([1]) بيت لعمر أبي ريشة من ديوانه

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Feb 2007
    الدولة
    في قلب الحس حيث يقطر الحبر في غسق الدجى
    المشاركات
    118
    بناء القصيدة
    أولاً : البنية اللغوية :
    إن اللغة الشعرية تقيم علاقات جديدة بين الإنسان والأشياء ، وبين الأشياء والأشياء ، وبين الكلمة والكلمة .
    ولما كانت تعبيرية جمالية انفعالية تستخدم للتعبير عن أحاسيس واتجاهات وإثارتها عند الآخرين([1])..
    فالسياب في (أنشودة المطر) يملك تلك اللغة التي يضع بها المتلقي في عمق التجربة لا على سطحها ..
    فالكلمات فيها تتخذ وزناً أثقل من الوزن الذي تحمله الكلمات نفسها عندما نصادفها في الكلام العادي ، مثل : لَجّ ، نشيج ، كركر ، دثار ... وغيرها .
    ولما كان استعمال مفردات معينة لدى شاعر معين يشير إلى أن حالة نفسية خاصة وراء هذا الاستعمال ، كان لكلّ شاعر معجمه الشعري ، والمعجم هو الشاعر نفسه ..
    ومعجم السياب أبرز ما يميزه هنا هو جملة المشبه والمشبه به ، وهو بتعبير أحدهم ملئ بأدوات التشبيه وأحرف النداء ، وعكازات لغوية([2]) لا حصر لها .. على سبيل المثال :
    عيناك غابتا نخيل ساعة السحر ..
    كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ ..
    فيرجع الصدى كأنه النشيجْ ..
    كأنها تهمّ بالشروق ..
    كالحب .. كالأطفال ..
    يا خليج .. يا واهب المحار والردى ..
    وإذا كان هناك من اتهم السياب بأنه شاعر يطير بجناح واحد لتدني مستواه الثقافي ، فيكفي القول إنه استطاع في هذه القصيدة أن يصور لنا مشاعره وأحاسيسه ، وليس فقط ينقلها نقلاً مباشراً .. استطاع أن ينتقي الألفاظ ذات الإيحاءات الأعمق سبراً في الفكر والحسّ ..
    ورغم أن الإفصاح عما يموج في النفس من معانٍ ، صعب على اللغة أحياناً ، إلا أن الشاعر يملك كفاءة وموهبة ، ويعي الطرق السليمة في التعبير والصياغات الفنية([3]).
    فضلاً عن توظيفه للتقطيع اللفظي ، ومهارات الكتابة التي تساعد في تكثيف اللغة ، كعلامات الترقيم مثلاً .
    " ولكي يتمّ تحويل آلام الدم إلى حبر كما يقول إليوت " ، لا بدّ من صنعة وإننا نلمحها هنا عند السياب في انتقائه لألفاظٍ ترجمت الدم والألم إلى حبر يدلّ عليه ، مستخدماً ألفاظ الغربة مثلاً ، كـ : نومة اللحود ، القدر ، دم دثار ، الوحيد بالضياع ، كالدم المراق كالجياع ، تنشج ، تئنّ ..
    وألفاظ الطبيعة مثل : تورق الكروم ، كالأقمار في نهر ، الظلام والضياء ، أقواس السحاب تشرب الغيوم ، ضباب ، كالبحر ، النجوم ... وغيرها كثير ، فضلاً عن المطر .. وألفاظ الصوت ، فإنها تعكس عمق تجربة الشاعر الانفعالية بتكثيف شعوري([4]) ودلالي معاً ، مثل : كركر الأطفال ، أصيح بالخليج : يا خليج .. فيرجع الصدى كأنه النشيج ، رعشة البكاء ، يهذي ..
    ومن الظواهر أيضاً في هذه القصيدة : ظاهرة التكرار ، فالتكرار فضلاً عن كونه خصيصة أساسية في بنية النصّ الشعري ، فإن له دوراً دلالياً على مستوى الصيغة والتركيب ، فهو أحد الأضواء اللاشعورية التي يسلطها الشعر على أعماق الشاعر فيضيئها([5]).
    وهذا واضح في تكرار لفظة المطر ..
    و : يا خليج ، يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى ..
    و : حمراء أو صفراء من أجنة الزهر ..
    و : كلّ دمعة من الجياع والعراة ..
    و : كلّ قطرة تراق من دم العبيدْ
    فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
    أو حلمة توردت على فم الوليدْ
    في عالم الغد الفتي واهب الحياة !!

    rrr

    ([1]) الاغتراب في الشعر العراقي ، محمد راضي ، ص67 .

    ([2]) المرجع السابق ، ص70 .

    ([3]) من إجراءات النقد العربي الحديث ، د. محمد الحارثي ، ص33 .

    ([4]) الاغتراب في الشعر العراقي ، ص94 .

    ([5]) قضايا الشعر المعاصر ، نازك الملائكة ، ص43 .

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Feb 2007
    الدولة
    في قلب الحس حيث يقطر الحبر في غسق الدجى
    المشاركات
    118
    ثانياً : البنية التصويرية :
    ليس بمقدور الشاعر خلق صوره اعتماداً على اللغة ، وبمعزل عن العناصر البلاغية ، ففي كلّ الأحوال لا غنى للشاعر عن المجاز ، وفي المقابل لا تقف الصورة الشعرية عند حدّ التشبيه والمجاز ، بل إلى الصورة الذهنية ، والصورة باعتبارها رمزا ..
    إن الصورة الشعرية باختصار كما قال الشاعر الأمريكي (أزرا باوند) : " تلك التي تقدم تركيبة عقلية وعاطفية في لحظة من الزمن "([1]).
    ولقد تميزت القصيدة بغزارة الصور ، فقلما مرّت فقرة منها أو دفقة دون حشد من الصور الجميلة ، وتراوحت ما بين المجاز والخيال والرمز ..
    فهذه مثلاً بعض صوره المجازية في القصيدة :
    عيناك غابتا نخيل : استعارة تصريحية ؛ لأنّ الشاعر صرّح بالمشبه به ، وكذلك شرفتان .
    عيناك حين تبسمان : استعارة مكنية ، فقد شبه عينيها بإنسان ، حذفه وترك بعض لوازمه ؛ ليدلّ عليه فعل (تبسمان) .
    ومن الاستعارات المكنية أيضاً :
    ترقص الأضواء ، تورق الكروم ، كأنما النجوم تنبض في غوريهما فتستفيق ملء روحي ، تثاءب الماء ..
    ونشوة تعانق السماء ، مقلتاك تمسح البروق ..
    ومن التشبيه :
    كأنّ طفلاً بات يهذي ، كأنّ صياداً حزيناً يجمع الشباك ، وهذا الأخير هو تشبيه تمثيلي ؛ لأنّه شبه صورة الطفل الذي فقدَ أمّه بصورة الصياد الذي عاد دون صيد .
    كالأقمار في نهر .. تمثيلي أيضاً ... والتشبيه كثير في القصيدة ..
    ومن المجاز المرسل :
    - يا واهب المحار ، وعلاقته المكانية ، فالخليج هو المكان الذي يعيش فيه محار اللؤلؤ .
    - يا واهب الردى ، علاقته المكانية أيضاً ، فأعماق الخليج هو المكان الذي يلاقي فيه الغطاس حتفه حينما يغطس بحثاً عن اللؤلؤ .
    - ظلّ يشرب الردى ، وعلاقته السببية ، فالغريق يموت بسبب شربه للماء ، ومن نفس العلاقة : سيعشب العراق بالمطر ..
    - ويكثر الغلال فيه موسم الحصاد ، وعلاقته الزمانية ؛ لأنّ موسم الحصاد هو وقت جمع الغلال ونثرها على البيادر في القرى .
    ومن الكنـاية :
    - لتشبع الغربان والجراد : كناية عن الجشع والطمع الذي يتصف به الغرباء عن شعب العراق ، فهم كالجراد ، لا يترك وراءه شيئاً يقتات به الشعب العراقي .
    - أكاد أسمع العراق يذخر بالرعود : كناية عن الثورة ربما على الظلم ، وهي كامنة في نفوس العراقيين .
    ولما كان السياب منتمياً للمدرسة الرمزية بسبب اطلاعه على الأدب الإنجليزي ، فقد انعكست ثقافته وظروفه على إنتاجه الشعري ، ونجده هنا قد لجأ إلى الرمز ؛ إذ الرمزية ترى أن اللغة العادية لا تستطيع التعبير عن التجربة الشعورية([2]).
    فمن ذلك مثلاً هنا :
    - عيناك غابتا نخيل : فالنخلة ترمز للعرب ، فهي طعام أجدادهم المفضل .
    - والمطر : رمز الخصب والنماء والحياة ، وهو يكرر هذا الرمز دون ملل .
    - والغربان والجراد : رمز للذين احتكروا خيرات البلاد ، وكذلك رمز لهم بالأفعى .
    - يا خليج : فمياه الخليج رمز للخير المتمثل باللؤلؤ .
    - الرعود والبروق : رمز للثورة .

    rrr

    ([1]) الاغتراب في الشعر العراقي ، ص100 .

    ([2]) دراسات أدبية في الشعر العربي الحديث ، محمد المصري ، ص214 .

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Feb 2007
    الدولة
    في قلب الحس حيث يقطر الحبر في غسق الدجى
    المشاركات
    118
    ثالثاً : البنية الإيقاعية :
    إن الموسيقى لها أهميتها في نقل القيمة التعبيرية والتصويرية إلى المتلقي ، واللغة الشعرية من دون موسيقى تظلّ دائرة على محور ثابت ، فلا حوار ولا تفاعل تقريباً مع التلقي ، وليست مبالغة القول بأن الوزن هو الروح التي تكهرب المادة الأدبية وتُصيّرها شعراً ، فلا شعر من دونه مهما حشد الشاعر من صور وعواطف ، لا ، بل إن الصور والعواطف لا تصبح شعرية بالمعنى الحق إلا إذا لمستها أصابع الموسيقى ، ونبضَ في عروقها الوزن([1]).
    وبإزاء هذه القيمة الفنية لموسيقى الشعر ، ففي هذه القصيدة نمطان من الموسيقى :
    الأول : الخارجية التي تعتمد على الصورة الزمنية (التفعيلة) .
    والثانية : الإيقاع الداخلي الذي يفعل فعله في الموسيقى الخارجية من أجل توحيد القصيدة .
    هذا الإيقاع هو تلك الإحساسات الخاصة بالأصوات والألفاظ والتراكيب ، بحيث تكون مؤثرة في النص ، وقادرة على خلق الدلالات الجديدة ، والتي تنطلق من سياقٍ خاصّ ، ولعلّ هذا بعض ما ألمحتُ إليه في البنية اللغوية .
    فبالنسبة للموسيقى الخارجية أو ما يسمى بالإطار ، فلقد جاءت (أنشودة المطر) على طريقة الشعر الحديث ، وهو شعر يعتمد الدفقة الشعرية حيناً ، والتفعيلة الواحدة أحياناً ، ونلمح أن هذه الموسيقى تختبئ عند أنصار الشعر العمودي الوفي للتاريخ والتراث ؛ إذ غالب تفعيلاتها في بحر الرجز([2]).
    ووزنه الأصلي :
    مستفعلن مستفعلن مستفعلن
    .

    مستفعلن مستفعلن مستفعلن
    .
    ولقد دخله الخبن أحياناً ، مثل :

    عينـاك غـا / بتـا نخيـ / ـل ساعة الـ /
    /5/5//5 //5//5 /5/5//5
    مستفعلن متفعلن مستفعلن

    وهو أيضاً في القصيدة متراوح بين المجزوء والتام([3]).
    ولقد طوّع الشاعر بحر الرجز بما يناسب عواطفه التي اتسمت هنا في (أنشودة المطر) بالفوران ، والحساسية المفرطة بإزاء ما تعانيه العراق من جوع وعري وجدب .
    والرجز ذو فعالية راقصة استغلّه الشاعر لاستثارة (المطر) كي يتحرك لينهي الجدب ويوجد الخصب ، فكأن الشاعر هنا يشخص المطر ، فهو اختار الرجز مخاطباً من خلاله - وبطريق غير مباشر - المطر ، عارضاً حاله وحال بلاده العراق ، ملتمساً الحلّ والخلاص([4]).
    والسياب لم يتخطَّ القافية وهو ينظم قصيدة التفعيلة هذه ، بل أعارها اهتماماً كبيراً ؛ لأنّها " ركن مهمّ في موسيقية الشعر الحرّ .. تثير في النفس أنغاماً وأصداءً ، وهي فوق ذلك فاصلة قوية واضحة بين الشطر والشطر ، والشعر الحرّ أحوج ما يكون إلى
    الفواصل "
    ([5]).
    فهو يقول مثلاً :
    عيناك غابتا نخيل ساعة السحر ..
    أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمرْ ..
    عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ ..
    وترقص الأضواء .. كالأقمار في نهرْ ..
    فالقافية هنا تمثل : ر . ر . ر .
    ويقول :
    تثاءب الماء ، والغيوم ما تزال
    تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقال
    كأنّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام :
    بأن أمه .. التي أفاق منذ عامْ
    فلم يجدها ، ثم حين لَجّ في السؤال
    فالقافية متراوحة : ل. ل.. م. م. ل
    وجاءت العين ، والهمزة ، والدال كذلك من قوافيه في هذه القصيدة .
    أما الموسيقى الداخلية فهي تتمثل في تكرار الأصوات ؛ مما لها وقع خاصّ على الأذن ، فنجد مثلاً في المقطع الأول في القصيدة :
    عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
    أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمرْ
    عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ
    وترقص الأضواء .. كالأقمار في نهرْ ..
    يرجه المجداف وهنا ساعة السحر ..
    كأنما تنبض في غوريها ، النجوم ...
    كرر الشاعر صوت الراء اثنتي عشرة مرة ، الأمر الذي أشاع إيقاعاً اهتزازياً في اللوحة ما بين انخفاض وارتفاع من تورق إلى كروم .. ومن كروم .. إلى ترقص ، ومنها إلى نهر .. ثم من يوجه إلى سحر .. ثم غوريهما ..
    وفي قوله مثلاً :
    وكل عام - حين يعشب الثرى - نجوعْ ..
    ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ ..
    وكلّ دمعة من الجياع والعراة ..
    وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ ..
    ... في عالم الغد الفتي ..
    نجد أن في هذه القطع قد تكرّر حرف العين إحدى عشرة مرة ؛ مما أسهم حقيقة في تصعيد الطبقة الإيقاعية .. والعين من أقصى الحلق ، ولا شكّ أنها صعبة المخرج ، ولقد جاءت ساكنة مرة ، وأخرى متحركة ، ثم إن جرسها مع ما تلقيه في النفس من ظلّ للكلمة ذاتها يعطينا صورة شاخصة على إكمال معالم الصورة ، وهي خطوة - بلا شكّ - في تناسق التصوير([6]) الذي يدلّ على مدى ما يكابده السياب من آلام ، وما يعتصره من مشاعر مكبوتة ينفثها حارة في هذه القصيدة التي حاول جاهداً أن يجعلها ممطرة ، وهي كذلك ، لكنها بغير المطر .
    والشاعر هنا أيضاً يومي إلى التلقي أحياناً بتوقع مجيء قافية ما من خلال السياق ، فيقول :
    كالبحر سرّح اليدين فوقه الماء ..
    ... والموت ، والميلاد ، والظلام ، والضياء ..
    فالماء يجر إلى الضياء ..
    ويقول قبلها :
    عيناك غابتا نخيل ساعة السحر ..
    أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمرْ ..
    فساعة السحر بداية انسحاب القمر ..
    وهذه الألفاظ شكلت إيقاعاً داخلياً تحت ما يسمى (التوقع القافوي) ، وقد تتردّد عبارات معينة ، وهو ما يسمى بـ(تردد النسق الإيقاعي) مع استبدال أو حذف ..
    فهو يقول مثلاً :
    أصيح بالخليج : " يا خليج ..
    يا واهب اللؤلؤ والمحار والرّدى !.
    فيرجع الصدى كأنه النشيج :
    " يا خليج ..
    يا واهب المحار والردى " ..
    وذلك بحذف كلمة (اللؤلؤ) .
    وقد ينشأ الإيقاع الداخلي من خلال تجزئة الوزن ، حيث يصبح هذا التجزيء وفقاتٍ يكون التوقف عليها منسجماً مع التقطيع الصوتي ، وفي هذا التوقيع الصوتي وحدات إيقاعية هي ليست إيقاع القصيدة بمجموعها ، غير أننا بضمّ الإيقاع العروضي إلى بعضه فإن الوزن يبرز من جديد ، وطبقاً لتلك الوقفات يتنوع الإيقاع ، وهذا ملاحظ في (أنشودة المطر)([7]).
    وعلى كلّ حال فإن موسيقى السياب الداخلية كانت هادئة ناعمة في بداية القصيدة ، ثم انقلبت إلى موسيقى شديدة صاخبة تضجّ بالثورة والنقمة على الجوع في بقية القصيدة ، حيث حشد السياب أكبر قدر ممكن من حروف الشدة لتعبر عما في نفسه أيضاً من مرارة الحرمان وشدّة الوحدة والضياع في الغربة([8]).
    أما عن عاطفة الشاعر ؛ فإن عاطفته يكاد يلهبنا صدقها .. وصراحتها .. عاطفة خاشعة .. صادقة .. مؤثرة !!.
    لقد استطاع بكلمةٍ واحدة أن يغوص في أعماق النفس .. وأعماق الوجود ..
    والشاعر ليس منفصلاً بمشاعره الذاتية .. إنما هي تسترسل كما يسترسل المطر .. والمطر يهيج المشاعر وينعشها لتتفاعل مع الشاعر وأنشودته ؛ أنشودة المطر .. وهي عاطفة سوية ، وإن كنت ألمح بعضاً من تشاؤمه أحياناً .. لكن على أيّ حال إن كان هناك تشاؤم فهو من دفقة العاطفة وتردّدها بين ثورة وانكفاء واضطراب وانطفاء ..
    " وهي عاطفة نبيلة ؛ لأنّها تسهم في بناء مجتمع جديد على أساس من العدالة في التوزيع والحرية التي تكفل للفرد المواطن حداً أدنى من حرية القول والتفكير والعمل "([9]).

    rrr

    ([1]) الاغتراب في الشعر العراقي ، ص128 .

    ([2]) دراسات أدبية في الشعر العربي الحديث ، ص205 .

    ([3]) العروض والقافية ، عبد العزيز عتيق ، ص71 .

    ([4]) الاغتراب في الشعر العراقي ، ص149 .

    ([5]) قضايا الشعر المعاصر ، نازك ، ص192 .

    ([6]) الظاهرة الجمالية في التصوير ، نذير حمدان ، ص24 ، بتصرّف .

    ([7]) الاغتراب في الشعر العراقي ، ص138 .

    ([8]) دراسات أدبية في الشعر العربي الحديث ، ص205 .

    ([9]) دراسات أدبية في الشعر العربي الحديث ، ص201 .

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Feb 2007
    الدولة
    في قلب الحس حيث يقطر الحبر في غسق الدجى
    المشاركات
    118
    الخاتمة
    لقد كان خياله رائعاً .. انطلقنا معه نسبح في فضائه .
    لقد قدّم لنا الأفكار المجردة العارية في هيئة صورٍ فاتنة .. آسرة .. تستجلب المتعة الحقيقية ، وهذا هو الشعر !.
    وإن كان قد أرهقه فضعف أسلوبه أحياناً تحت وطأة الجمل المعترضة والإكثار من التقديم والتأخير ..
    إلا أن عفويته وانسيابية القصيدة ، وتطريزها بكثيرٍ من المحسنات البديعية غير المتكلفة .. أنستنا بعض تلك الأخطاء غير الجسيمة .. والتي لا تساوي شيئاً بجوار هذه الرائعة من روائعه .. وهذه اللؤلؤة من بحره العميق .. المُغرِق ..

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Feb 2007
    الدولة
    في قلب الحس حيث يقطر الحبر في غسق الدجى
    المشاركات
    118
    أهم المراجع


    1-الأسطورة في شعر السياب ، عبد الرضا علي ، دار الرائد العربي ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، 1978م .


    2- الاغتراب في شعر بدر شاكر السياب ، أحمد عودة الله الشقيرات ، دار عمار ، الأردن ، ط1 ، 1407هـ - 1987م .


    3- الاغتراب في الشعر العراقي ، د. محمد راضي جعفر ، اتحاد الكُتّاب العرب ، 1999م .


    4- بدر شاكر السياب ، دراسة في حياته وشعره ، إحسان عباس ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، ط6 ، 1993م .


    5- دراسات أدبية في الشعر العربي الحديث ، محمد المصري ، دار الفرقان ، ط1 ، 1404هـ - 1984م .


    6- الظاهرة الجمالية في القرآن الكريم ، نذير حمدان ، دار المنارة ، جدة ، ط1 ، 1412هـ - 1991م .


    7- علم العروض والقافية ، عبد العزيز عتيق ، دار المعرفة ، 1996م .


    8- قضايا الشعر المعاصر ، نازك الملائكة .


    9- من إجراءات النقد العربي الحديث ، محمد الحارثي .

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Sep 2008
    الدولة
    أرض الإسلام
    المشاركات
    3,396
    بـــــــــارك الله جهودك ، أستاذتنا المعطاء
    {{ولئن شكرتم لأزيدَنَّـــكُم}}

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    الدولة
    قطر الحب والسلام
    المشاركات
    816
    متعك الله بالصحة والعافية

    شكرا لطرحك المفيد والمثمر

    ونفتقد اطلالتك معنا

    حماك الله أديبتنا

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
الاتصال بنا
يمكن الاتصال بنا عن طريق الوسائل المكتوبة بالاسفل
Email : email
SMS : 0000000
جميع ما ينشر فى المنتدى لا يعبر بالضرورة عن رأى القائمين عليه وانما يعبر عن وجهة نظر كاتبه فقط