الدكتور أحمد الحمادي

ربما يخيل إلى القارئ لهذه الآية الكريمة ( إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ. وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىٰ ) أن يقابل الجوع بالظمأ، والعري بالضحى.
إلا أن الخارج من بلد المباني ليدخل في بلد المعاني يرى هذا الكلام في أعلى الفصاحة والبلاغة، وذلك لأن :
الجوع = ألم الباطن
والعري = ألم الظاهر
فهما متناسبان في المعنى.

وكذلك الحال في تقابل الظمأ مع الضحى لأن :
الظمأ = حرارة الباطن
والضحى = حرارة الظاهر
فهما متناسبان أيضاً في المعنى.

لذلك اقتضت الآية الكريمة نفي جميع الآفات ظاهراً وباطناً.

أما القصة التي نقلتها من ابن عاشور في تفسيره، فقد ذكرها ابن قيم الجوزية (ت 751 هجرية) في بدائع الفوائد، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت، المجلد الثاني، الجزء الثالث: 240 .
إلا أنه قال بعد ذكر التقابل الوارد في الآية الكريمة:
" وفي هذا الباب حكاية مشهورة وهي أن ابن حمدان قال يوماً للمتنبي : قد انتقد عليك قولك:

وقفتَ ما في الموت شك لواقف***كأنك في جفن الردَى وهو نائم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمةً*** ووجهك وضّاح وثَغرك باسم


قالوا : ركبت صدر كل بيت عجز الآخر وكان الأولى أن يقول:

وقفت وما في الموتشك لواقف*** ووجهُك وضّاح وثغركباسم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة***كأنك في جفن الردى وهو نائم


......
وهذا كما انتقد على امرئ القيس قوله:

كأني لم أركبجواداً للذة***ولم أبَتطنْ كاعباًذاتَ خَلْخال
ولم أسْبَأ الزقّ الرويَّ ولم أقل***لخيليَ كُرّي كَرّة بعد إجفال


فلو قال :

كأني لم أركبجواداً ولم أقل*** لخيليَ كُرّي كَرّة بعد إجفال
ولم أسْبَأ الزقّ الرويَّ للذة***ولم أبتطنْ كاعباًذاتَ خَلْخال


كان أشبه بالمعنى ....
فقال المتنبه يعني قائل الشعر المدعو بالمتنبي الكذاب:
اعلم أن القزاز أعلم بالثوب من البزاز، لأن القزاز يعلم أوله وآخره، والبزاز لا يرى منه إلا ظاهره.
وهذا الانتقاد غير صحيح فإني قلتُ : وقفت وما في الموت شك لواقف .....
لتحصل المطابقة بين عبوس الوجه وقطوبه ونضارته وشحوبه، وإن لم يكن ظاهرة في اللفظ فهي في المعنى يفهمها من له في إدراك دقائق المعني قدم راسخ
وأما قول امرئ القيس .....
ثم ذكر الآية وتكلم عليها بنحو ما تقدم

إذا ظفرت من الدنيا بقربكم *** فكل ذنب جناه الحب مغفور.

ووجه الكلام على ما قال العلماء بالشعر أن يكون عجز البيت الأول للثّاني وعجز البيت الثاني للأول ليستقيم الكلام فيكون ركوب الخيل مع الأمر للخيل بالكر، ويكون سِباء الخمر للذة مع تبطن الكاعب. فقال أبو الطيّب: أدام الله عزّ الأمير، إن صح أن الذي استدرك على امرىء القيس هذا أعلمُ منه بالشعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا، ومولانا يعرف أن الثوب لا يعرفه البزاز معرفةَ الحائك لأن البزاز لا يعرف إلاّ جملته والحائك يعرف جملته وتفصيله لأنه أخرجه من الغزليّة إلى الثوبية. وإنما قرن امرؤ القيس لذّة النساء بلذة الركوب للصيد، وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء. وأنا لما ذكرت الموت أتبعتُه بذكر الردى لتجانسه ولما كان وجه المهزوم لا يخلو أن يكون عبوساً وعينه من أن تكون باكية قلت:
ووجهك وضّاح وثغرك باسم

لأجمع بين الأضداد في المعنى.


ومعنى هذا أن امرؤ القيس خالف مقتضى الظاهر في جمع شيئين مشتهري المناسبة فجمع شيئين متناسبين مناسبة دقيقة، وأن أبا الطيّب خالف مقتضى الظاهر من جمع النظيرين ففرقهما لسلوك طريقة أبدع، وهي طريقة الطباق بالتضاد وهو أعرق في صناعة البديع.انتهى كلام ابن عاشور




(قلت) :
ولو سأل سائل:
ما مناسبة ذكر هذه القصة في معرض تفسير قول الله تعالى من سورة طه :
{ إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ } * { وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىٰ }؟



فالجواب على ذلك:
أن الله -تبارك وتعالى- قرن بين الجوع والعري من جهة, وبين الظمأ والضُحِيِّ من جهة أخرى. وهذا عائد إلى التناسب بين الجوع والعري من ناحية أن الجوع هو تألم باطن الجسم من خلو الطعام, والعُري هو تألم ظاهر الجسم من جراء خلو الجسم من اللباس الذي يقيه الحر والقَّر.
أما من الناحية الأخرى, فقد قرن بين الظمأ والضحي, لأن الظمأ هو ألم حرارة باطن الجسم من جراء فقدان الماء, والضحي هو ألم حرارة ظاهر الجسم من حرارة الشمس .




قال ابن عاشور:
وقد قُرن بين انتفاء الجوع واللباس في قوله { ألا تجوع فيها ولا تعرى } ، وقرن بين انتفاء الظمأ وألم الجسم في قوله { لا تظمأ فيها ولا تضحى } لمناسبة بين الجوع والعَرى، في أن الجوع خلوّ باطن الجسم عما يقيه تألمه وذلك هو الطعام، وأن العري خلوّ ظاهر الجسم عما يقيه تألمه وهو لفح الحر وقرص البرد؛ ولمناسبة بين الظمأ وبين حرارة الشمس في أن الأول ألم حرارة الباطن والثاني ألم حرارة الظاهر. فهذا اقتضى عدم اقتران ذكر الظمأ والجوع، وعدم اقتران ذكر العري بألم الحر وإن كان مقتضى الظاهر جمع النظيرين في كليهما، إذ جَمْعُ النظائر من أساليب البديع في نظم الكلام بحسب الظاهر لولا أن عرض هنا ما أوجب تفريق النظائر.انتهى كلامه





فيالجمال القرآن .. ويا لعظمته!!


عن موقع الدكتور محمد كالو