اللغة العربية : إشراقات المغاربة واغتراب المشارقة!
أبها (السعودية)- زارع بن عبدالله بن ظافر
http://www.bab.com/articles/full_article.cfm?id=8274
في البدء أستشهد بالأثر الجميل «الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها». وهذا مقال حاولت فيه أن أجري مقارنة في التكوين اللغوي وتعليم العربية خاصة والتعليم عامة بين أهل المشرق العربي وأهل المغرب العربي، وهذه المقارنة تكاد تكون انطباعية، اعتمدت على أنماط من المخرجات التعليمية في المشرق والمغرب، حيث إنه على مخرجات التعليم يكون المرتكز في الحكم على مسألة التعليم، وننظر أحقق هذا التعليم أهدافه كاملة أم حقق بعضها، أم لم يحقق إلا أقل القليل منها؟! وهذه المقارنة ليست مستفيضة محيطة بجميع الجوانب الموضوعية. وإنما عرضت فيها شيئاً من تجربتي المتواضعة في التدريس خارج المملكة، وقد عرضتها بدون أي تحيز، بل أحاول تحري الدقة والإنصاف والصواب، ومن أهم الدوافع لكتابة هذا المقال ما رأيت من المستوى الضعيف الذي عليه كثير من أبنائنا في آلة العلوم كلها (اللغة) بينما لم أر هذا الضعف وبهذه الدرجة في البلد الذي درّست فيه بل رأيت الضعف في اللغة آخر هموم المربين هناك.
فصحى المغاربة
قدّر لي أن أعمل مدرساً في شمال أفريقيا وبالتحديد في موريتانيا أو (بلاد شنقيط) كما يحلو للكثير أن يسميها، وقد كان التدريس في معهد العلوم الإسلامية والعربية في نواكشوط، ذلك المعهد السعودي (كما يسمونه هم) التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الذي يدرس فيه طلاب شتى عرب وغير عرب، والطلاب العرب غالباً من دول شمال أفريقيا كالمغرب والجزائر وتونس والبلد المضيف موريتانيا الذي نسبة الطلاب فيه تقارب النصف، وكانت المدة التي قضيتها هناك أربعة أعوام (1414 إلى 1418هـ) وكانت ثرية بتجربة مفيدة.
وقد لفت انتباهي أثناء التدريس والإقامة هناك جودة التكوين اللغوي والفكري لدى الطلاب، بل لدى الناس عامة، فأنّى التفت تجد الناس يستطيعون التحدث باللغة العربية الفصحى بطلاقة، بل ويجيدون الكتابة بها دون عناء أو عي، ليس هذا خاصاً بالشناقطة، بل حتى الطلاب العرب الذين يفدون إلى المعهد من الدول السالفة الذكر.
وأخذت أتأمل المسألة وأقارن - بأسف - ماأرى، بالوضع لدينا في المشرق العربي بصفة عامة، ثم أخذت أوسع دائرة التأمل، فبدأت أطالع الصحف (المغاربية) وأحاور عدداً من الناس من المثقفين وغيرهم فأدهشتني طلاقة الألسنة بالعربية الفصحى وسيولة اللغة على ألسنتهم وأقلامهم، حتى الأطباء والحرفيين، بل حتى الباعة، يمكن أن تحاورهم باللغة العربية الفصحى، بل حتى المتسولين يتسولون بالفصحى، وإذا لحن المتسول ردوا عليه! بيد أن في لغتهم الفصحى لكنة متأثرة بلهجتهم العامية، وهي لا تؤثر في الطلاقة التي أعنيها إذ إني أقصد بها الانطلاق في الكلام وندرة اللحن ومطاوعة المفردات لهم عند أداء المعاني. وقد زاملت بعض الطلبة المغاربة في مركز لتعليم اللغة الإنجليزية في نواكشوط، ونظرت في بعض مذكراتهم الجامعية التي يصطحبونها معهم من الجامعة إلى هذا المركز، فرأيت فيها جودة ونقاء في الكتابة واللغة، وكأنها لطالب متميز لدينا في قسم اللغة العربية. ودخلت في المكتبة المركزية هناك، ورأيت قسماً للبحوث الجامعية لطلاب الليسانس (حيث وضع لها قسم خاص) وتصفحت عدداً من تلك البحوث استوقفتني ساعات طويلة وأمسكتْ تلابيب الدهشة والإعجاب لديّ، فلا ركاكة في الأسلوب ولا أخطاء إملائية ولا لغوية إلا في القليل النادر، رغم أن معظم هذه البحوث في علوم لا علاقة لها باللغة والأدب، بل هي في الجغرافيا والشريعة ونحوهما، ولكنها في غاية الجودة والإتقان.
عبثية المواد التعليمية
ثم قارنت كل ذلك بالوضع عندنا، وقلت في أسى: (شتان بين مشرّقٍ ومغرّبٍ). وكلما زاد تتبعي لهذه المسألة زاد تعجبي واختلج في عقلي وقلبي أن أبحث عن الأسباب، ثم نظرت في دفاتر طلابي الذين أدرسهم في المعهد ذاك، في المرحلة المتوسطة أو الثانوية فوجدت الغالبية العظمى منهم تمتلك الأسلوب القوي والمفترض أن يكون في الطالب العادي، ولم أجد إلا القليل جداً من المشكلات اللغوية والأخطاء الإملائية، التي كنت أعاني من معالجتها عند طلابي أثناء تدريسي في الرياض سبع سنين، وأصبح شغلي هناك عند تصحيح دفاتر الإنشاء خصوصاً هو التركيز على الفكرة والمضمون وجمال الأسلوب، ونسيت مسألة معالجة الأخطاء الإملائية واللغوية التي كلت منها أبصار كثير من المعلمين لدينا.
ثم دخل ابني (الروضة) أو (حديقة الأطفال) كما يسمونها، إنه مبنى متواضع، غرفه صغيرة وغير نظيفة جداً، وفناؤه مفروش بالبطحاء، وتنتشر فيه بعض الألعاب المهترئة، ولكن! من هذا المبنى بدأت تنكشف لي أولى أسباب جودة أولئك القوم وامتلاكهم زمام اللغة العربية دون عناء.
لقد أدخلت ابني الروضة كما فعل زملائي السعوديون، وفعلت ذلك ليلهو الطفل ويختلط بغيره من الأطفال، ولم أكن أتوقع أن هذه (الروضة) الصغيرة مؤسسة كبيرة في التكوين اللغوي للأطفال، فماذا يحدث في هذه الروضة؟! وماذا يُعلَّم فيها الصبية؟! هل يُعلَّمون فيها: (أنا في الروضة ويا أصحابي ساعة للعبي وساعة كتابي)، أو (خروفي خروفي لابس بدلة صوفي).... إلخ تلك الأناشيد المخجلة التي يفتخر مع الأسف كثير من الأهالي لدينا بحفظ أطفالهم لها، بدلاً من حفظ بعض سور القرآن والأناشيد العديدة بالعربية الفصيحة؟ أقول هل يدرس الأطفال هناك مثل هذه الأناشيد؟! كلا، إنهم يدرسون فيها الفاتحة وقصار السور، ثم يدرسون الحروف مع أناشيد في غاية الجمال، وباللغة الفصحى فقط، ليس فيها أنشودة واحدة بالعامية. ولم تمض أسابيع من بدء الدراسة إلا والولد - رغم أن عمره لم يجاوز أربعة أعوام - يعرف جل حروف الهجاء بأشكالها، ويحفظ لكل حرف أنشودة تبدأ به، وأورد للقارئ الكريم أمثلة على بعض الحروف وأناشيدها ليعرف مدى جودة تلك الأناشيد ونقاء لغتها وسلامة أسلوبها ومناسبتها لأطفال الروضة، بما تحمله من معانٍ جميلة تنمي لغة الطفل، إضافة إلى ما فيها من مضمون مفيد ومعلومات جيدة:
الألف:
ألـف أرنــب يقفـز يلعـب
هو حيـوان دوماً ينجب
عشـباً يأكـل مـاءً يشـرب
لـو فــاجــأه أحـد يهــرب
لسـت جباناً مثـل الأرنـب
إنــي أكـــتب ألـف أرنــب
فوق المكتب حتــى أتعـب
حتى أتعب، حتى أتعب
الدال:
دال دجاجتنا في البيت
تمنحنا البيضات هديهْ
سـخرهـا الله لنا لحماً
والريش مـراوح يدويّـهْ
وأنشودة أخرى تقول:
ألف باء تاء ثاء
هيا نكتب يا أسماء
ألف أبني
أبني بلدي
باء بيدي
بيدي بيدي
أبني بلدي
..... إلخ
وأخذ الطفل يحفظ هذه الأناشيد هو وأقرانه بكل سعادة وحبور، دون أن تكون مكتوبة لهم، وإنما يحفّظهم المعلم أو المعلمة حفظاً.
والمطلوب منهم فقط أن يكتبوا الحروف الهجائية التي في أول تلك الأناشيد. وهذا كثير في هذه المرحلة، وفي نهاية السنة كلفوا ببعض الواجبات ككتابة الحروف وبعض الرسمات، وحفظ بعض من قصار السور.
عندها عرفت السبب الأول، وعرفت أن النمط في جميع رياض الأطفال في الدول المغاربية هو هذا النمط، وأخذت أقارن بين هذه الرياض وبين رياض الأطفال لدينا التي تبهرك بمظاهرها وحدائقها وفصولها وزيناتها، وتبهظ محفظتك بتكاليفها وحفلاتها، ولكنها تحزن قلبك بما يُعَلَّم فيها من تجهيل وهراء، فمن صور جوفاء تعلم الطفل السطحية وتربي فيه حب المظاهر إلى أناشيد سخيفة بلهجة عامية (خاصة) وكأنها مفروضة عليهم فرضاً.
ثم دخل ابني هذه المدرسة، وكانت مدرسة خاصة تشرف عليها الحكومة، وهي كذلك مدرسة متواضعة المبنى صغيرة الفصول ناقصة التجهيزات، بيد أن فيها حسن التعليم وجودة المنهج.وعندما عاد الولد في اليوم الأول سألته: أين الكتب، فأجابني: نشتريها من السوق، وما الكتب المطلوبة؟ إنهما كتابان فقط كتاب (القراءة والكتابة) وكتاب (الرياضة) أي الرياضيات.فأما الثاني فغير موجود، وعرفت أن المعلم هو الذي يتولى الاختيار منه، وأما الأول فاشتريته بما يعادل خمسة ريالات تحسس الطفل وأبويه بأهمية الكتاب وأنه يُشترى كبقية الأشياء الثمينة ولا يدفع بالمجان فيبتذل. كما عندنا كتب كثيرة بالكاد يحملها التلميذ وكلها بالمجان.
أخذت أقلب كتاب (القراءة) - الذي يقع ضمن سلسلة تسمى (الشامل) وهو الكتاب المقرر في معظم دول المغرب العربي - فوجدت فيه مقدمة ممتازة، تعلم المعلم كيف يتعامل معه، وكيف أنه سيواجه طلاباً شتى عرباً وغير عرب (لأن البلاد العربية الشمال الأفريقية فيها عدد من غير الناطقين بالعربية كالبربر والزنوج ونحوهم ويدخلون المدارس العربية).
ثم وجدت الكتاب قد بدأ بحرف (الدال)، فأخذت أفكر!! ولِمَ يبدأ بحرف الدال؟! فسألت فقيل لي: لأنه أسهل الحروف نطقاً وهيئة، فهو من أول الحروف التي ينطقها الطفل بالفطرة ثم إنه حرف بسيط غير مركب، فلا نقطة له ولا تركيب معه في أول الكلام، وعرفت عندئذ النظرة التربوية الثاقبة في ذلك الكتاب التي بدأت بالدال البسيط، وأجلت (الألف أو الهمزة) الحرف المركب من ألف وهمزة (أ) العسر النطق بالنسبة إلى الدال.
ثم أخذت أتفحص الكتاب فوجدته قد بدأ بتعليم الدال هكذا (بتصرف): الدرس الأول: (حرف الدال)
دفتر أحمد
دَ دَ دَ (وينطق التلاميذ دَءْ دَءْ دَءْ) (ولا حظ البدء بالدال مفتوحة لأن الفتح أيسر الحركات) ثم بعده الضم والكسر.
الدرس الثاني:
دار ممدوح دا دا (مع النطق بالمد)
دو دو
الدرس الثالث:
دار ديدي دا دا (مع النطق بالمد)
دي دي
وهكذا، مع التمثيل على حرف الدال بجميع حركاته الثلاث وحروف المد الثلاثة والتلاميذ ينطقون ويكررون (كما هو توجيه الكتاب) ويكتبون فقط حرف الدال مع شكله (ضبطه) ثم مع حرف المد. وهكذا في دراسة جميع الحروف. كل حرف يدرس بحركاته الثلاث داخل جمل مناسبة، ثم يدرس متلوّاً بحروف المد الثلاثة الألف والواو والياء داخل جمل كتلك. ثم في الدروس المتقدمة بعد دراسة السكون في درس مستقل والشدّة والتنوين كذلك، تجد الحرف يكتب في كل أشكاله الممكنة، فتجد الدال قد كتبت في سطر واحد هكذا.
دَ/دِ/دُ/دا/دو/دي/دْ/دً/دٍ/دٌ/دَّ/دِّ/دُّ.
وكذا بقية الحروف، وعندها يستطيع الطفل قراءة أي كلمة بالتهجئة البطيئة ثم القراءة المعتادة.
عبقرية التدريس
وبدأت تتكشف لي فائدة هذه الطريقة وخصوصاً في التفريق بين الحركة والمد، حيث يستطيع الطفل مع هذه الطريقة التمييز بينهما، فمثلاً يستطيع التمييز بين الدال المفتوحة والدال المتلوّة بالألف، والهمزة المضمومة والهمزة المتلوّة بمد الواو. وربما أخذوا هذه الطريقة من طريقة الكتاتيب لديهم (ويسمونها المحَاضِر) بفتح الميم، حيث يقول المعلم فيها مثلاً دَ فتحة دَ دا مجبوذ بالألف.... وهكذا... فأفادوا من هذه الطريقة ودمجوها وطوروها في الكتاب المدرسي. والتمييز بين الحركة والمد مشكلة تسبب أخطاء كثيرة في الكتابة فبعض الطلاب عندنا عندما تقول له أكتب (أُريد الخير) يكتبها (أوريد الخير) لأنه لم يتعلم ذلك التمييز المهم في السنة الأولى التي هي أساس تعليم القراءة والكتابة.
ثم رأيت في هذه المدرسة تفاصيل مدهشة وممتازة في التعليم، منها أنه لا يكتب كلمة واحدة لا في دفتر التلميذ ولا على السبورة ولا في الكتاب المدرسي إلا وهي مضبوطة بالشكل التام وواضحة وصحيحة. وفي المقابل رأيت كثيراً من المعلمين لدينا يكتب للطفل أمراً أو نهياً أو تعليقاً في الدفتر بخط الرقعة الذي لا يكاد يقرأ، رغم أن التلميذ لا يزال في أبجديات التعلم. أيعقل هذا؟ والعذر أنه مستعجل!!. مع أن الكتب المدرسية في المراحل الأولى لدينا تهتم بالضبط إلى حد كبير، ولكن المجتمع والمعلمين لا يهتمون بذلك، وحتى الموجهين مع الأسف.
ولدى المعلم هناك - بالإضافة إلى الدفتر الذي يؤدي فيه التلاميذ واجباتهم - لديه دفتر خاص بالاختبارات يسمى دفتر (التقويم)، فعندما يؤدي الطفل الاختبار يؤديه في هذا الدفتر، ويصححه المعلم، ثم يبعثه إلى ولي التلميذ ليوقعه ثم يعيده إلى المدرسة فيحفظه المعلم عنده حتى موعد الاختبار التالي، وهكذا في كل اختبار، وفي نهاية العام الدراسي يُسلّم هذا الدفتر الذي يعد سجلاً حياً لواقع التلميذ التعليمي مع الشهادة ويكون ملكاً له. ليبرزه مع الشهادة لو انتقل إلى مدرسة أخرى ليكون شفيعاً لتلك الدرجات المدونة في الشهادة، وليس للتلميذ غير هذا الدفتر إلا دفتر واحد يؤدي فيه واجب الكتابة والرياضيات ويكلّف أحياناً ببعض الرسوم الفنية، وحقيبة الطفل خفيفة جداً، إذ ليس فيها إلا كتاب واحد هو القراءة ودفتر للواجبات وزاده الذي سيأكله في الاستراحة.
الفرق بين معلم ومعلم
وتبين لي أن طريقة (الدفتر الخاص) هذه أفضل من أداء الاختبارات في أوراق تتلف عند توقيع ولي الطالب عليها، كما هو الحال لدينا، حيث إن الدفتر الذي فيه اختباراته برهان على صحة شهادته ومصداقية درجات تلك الشهادة، وبالأخص عندما ينتقل الطالب إلى مدرسة أخرى.
ثم انتقل الابن إلى السنة الثانية فأصبح متمكناً من القراءة والكتابة الأولية، وأصبح لديهم في السنة الثانية إملاء منظور وغير منظور، وتربية قرآنية وعلوم وصحة، وفقه وعقيدة. والأمر المدهش في الإملاء والذي لا يوجد مع الأسف في مدارسنا أن هناك إملاء مع الضبط بالشكل، أي أن التلميذ لا يُكتفى منه بالكتابة الصحيحة فقط، بل لابد من شكل الكلمات كما ينطقها المعلم. وهذا هو السبب الثاني الذي جعل تعليم اللغة العربية المغاربي في نظري يتفوق على التعليم لدينا.
ومن الطريف أنه في السنة الثانية هذه استقال مدرس تونسي كان يدرس أبناءنا، وحل محله مدرس مشرقي (مصري)، فبدأ الأبناء يهملون الشكل، وعرفنا بعد مدة أن هذا المعلم الجديد، أعفاهم أو منعهم من الضبط بالشكل، لأنه في نظره غير مهم، فأخذ يتقهقر مستوى الطلاب، حتى تكلمنا مع ذلك المدرس وطالبناه بالالتزام بالمنهج، مع أنه للأسف لا يتقن النطق بالفصحى كما يجب. فانظر كم هو الفرق بين المعلم المشرقي والمعلم المغربي اللذيْن ينطلق كل منهما من مشربه وتكوينه التعليمي ونظرته إلى تعليم اللغة العربية، ووضوح الهدف لديه من تعليمها. وإني أتعجب! كيف تأتى لنا أن نهمل الضبط في مدارسنا وخصوصاً المدارس الابتدائية، مع أن اللغة العربية تعتمد اعتماداً يكاد يكون كلياً على الضبط، وكيف يتأتى لطفل أن يقرأ كلمة ما بالنحو الذي نريد إذا لم نعلمه الضبط بالشكل ثم نضبط له كل الحروف. وإذا أردت أن تعرف أهمية الضبط فاسأل طلاب معاهد تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، فقد سألني أحدهم ذات مرة متعجباً: كيف تقرؤون الصحف مع أنها غير مشكولة؟ فأجبته: إننا نقرأ لغتنا العربية لا بعيوننا فقط بل بعقولنا وبخلفيتنا عن الكلمة وسياقها. ولكن أنى للمبتدئ في التعلم خصوصاً إذا كان طفلاً غض الإهاب أن يدرك كل ذلك، وكيف للمعلم أن يغضب من خطأ طفل في القراءة والكلمة أمامه غير مشكولة أو أنه لم يعلمه الشكل؟.
ثم نظرت في كتب الرياضة لديهم فوجدتها من شدة ضبطها كأنها كتب في اللغة إلى درجة أن كتاب السنة الثانية للرياضيات يكتب للطفل العدد رقماً ثم يعلّمه كيف يقرؤه باللغة العربية الفصحى، فمثلاً تجد درساً على النحو التالي: (7 + 8 = 15 وتقرأ خَمْسَةَ عَشَرَ) «هذا في كتاب الرياضيات، المنهج الليبي للسنة الثانية الابتدائية»
وعندما تسأل أي تلميذ وتقول له مثلاً 9 + 9 فإنه يقول لك ثمانيةَ عشرَ. وهكذا كان يقول أبناؤنا هناك، أما الآن فإنهم يقولون (ثمنطعش) سبحان الله!! مع أن اللهجة الأصلية تقول (ثمنتعشر).
ووجدت في المدارس هناك أن المدرس لا يتكلم مع تلاميذه بالعامية إلا نادراً، ولا يحق له ذلك، ولا تسمع لديهم ستاد، ولا أبله ولا طابور، ولا شنطة، بل أستاذ، وسيدتي، ومحفظة.. إلخ.
وتلفتُّ في الكتب المدرسية لدينا في السنة الأولى الابتدائية، فوجدتها كثيرة جداً بالنسبة لطالب هذه لمرحلة، فهناك (القراءة) و(العلوم) و(التوحيد) و(الفقة) و(القرآن الكريم) و(الفنية)!! وما أدراك ما الفنية كل مادة لها كتاب مستقل بالإضافة إلى دفتر لكل مادة حتى إن الطفل بالكاد يحمل حقيبته.
كيف ندرس الطفل (الفقه) و(العلوم) مثلاً وهو لم يعرف بعد أن يفك الحرف، كيف ندرسه القرآن الكريم ونحن لم نعلمه بعد الحروف وضبطها وتشكلاتها المختلفة، إن هذا يعوّد الطفل على أنه يمكن أن ينجح دون أن يعرف ماذا درس، الأمر الذي يجعله يعيش في اضطراب وفقدان ثقة لا نحس بهما، إذ إنه يحفّظ كلاماً ويطلب منه قراءته، وهو لم يعرف بعد أشكال الحروف وحركاتها، وكثيراً ما تجد تلاميذ لدينا في السنة الأولى عندما يُطلب من أحدهم قراءة سورة من قصار السور في المصحف فإنه يقرؤها بشكل عجيب، ففضلاً عن الأخطاء في القراءة تجده يضع إصبعه على كلمات لا يقرؤها، لأنه يقرأ من حفظه، ويوهمك أنه يقرأ من المصحف بوضع إصبعه حول المكان الذي يقرأ فيه. بل ربما وضعها على سورة (الإخلاص) وهو يقرأ (الفلق)، وهذا تعليم مهزوز ومضطرب، كان يجب ألا يفتح التلميذ المصحف ولا يقرأ أي نص إلا بعد أن يتقن جميع الحروف والحركات والتهجئة، ويجب على المدرس أن يحفّظ تلاميذه الفاتحة وقصار السور ولكن بدون مطالعة المصحف، حتى يدركوا جميع الحروف.
أسباب الجودة
هذا، وإني بعد النظر والتأمل يمكن أن أجمل الأسباب التي أدت إلى جودة التكوين اللغوي لدى المغاربة، وبالأخص في موريتانيا التي كانت تجربتي التعليمية فيها في النقط التالية:
1- الاستمرار في الاهتمام بالتعليم الأصلي، وأعني به تعليم الصبية في الكتاتيب (ويسمونها المحَاضِر) بالطريقة الأصلية السلفية، وهي أن يتعلم الأطفال قبل دخول المدرسة الحروف في لوح خشبي حتى يتقنوها مع ضبطها، ثم ينتقلون إلى حفظ القرآن وكتابته في هذه الألواح، وقد رأيت هذه الطريقة ما زالت مزدهرة في موريتانيا، بل رأيتها في المملكة المغربية في تطوان والقصر الصغير وتوجد في معظم المدن المغاربية. وهنا أهمس لجماعات تحفيظ القرآن الكريم لدينا أنه يمكن الإفادة من هذه الطريقة، وأن نبدأ تعليم الطفل القرآن بالطريقة القديمة قبل أن يدخل المدرسة. كما يفعل المغاربة، حيث لا يكتفي معلم المسجد بتحفيظ القرآن، بل يعلمهم الحروف والحركات ثم القرآن بعد ذلك.
2- حفظ القرآن الكريم، فالغالبية من الشعب الموريتاني وبعض الشعوب المغاربية يحفظون القرآن أو معظمه بالطريقة الأصلية الآنفة الـذكر أي مع كتابته في الألواح برسمه الصحيح المدوّن في المصحف، مع ملاحظه أن مصحفهم مدون بقراءة (وَرْش) التي يقرؤون بها، ويختلف الرسم لديهم عن الرسم في المشرق العربي بعض الاختلاف، فالفاء مثلاً نقطتها تحت، والقاف لها نقطة واحدة، والنون بلا نقطة، والصاد والضاد بلا سنّة. والخط كوفي لا نسخ.
3- حفظ المتون الأصلية في هذه الكتاتيب (أو المحاضر) بعد حفظ القرآن الكريم، فتجد كثيراً منهم يحفظ منظومة عبيد ربه على الأجرومية، ويحفظ متوناً في الفقة والأصول والنحو والفرائض، مما نمّى لديهم الثروة اللغوية، وأعذب ألسنتهم وأسلس أساليبهم في الكبر، وكذلك يحفظون كثيراً من فرائد الشعر الجاهلي والإسلامي، بل إن منهم من يحفظ دواوين كاملة، حتى كثر فيهم الشعراء كثرة مفرطة، وهو الأمر الذي جعل الشاعر السعودي حسن القرشي الذي كان سفيراً هناك يسمي موريتانيا: بلد المليون شاعر!! وهذه إحصائية قديمة!! وكيف لا يكون كذلك وأهله يحفظون الشعر منذ نعومة أظفارهم بعد حفظ القرآن الكريم، آخذين بنصيحة الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): «حفّظوا أولادكم القرآن، وعلّموهم الشعر تعذب ألسنتهم».
4- الاهتمام بضبط الكتب التعليمية وأمهات الكتب المتداولة كالمتون ونحوها، فقلّما تجد لديهم متناً لتعليم الصبية أو كتاباً مدرسياً سواء أكان للصغار أو للكبار إلا وهو مضبوط بالشكل كالضبط الذي في المصحف الشريف. فتجد عندهم على سبيل المثال كتاب (متن الرسالة) لابن أبي يزيد القيرواني، وهو كتاب في الفقه المالكي الذي هو مذهب شمال أفريقيا، ويقابله لدينا متن (زاد المستقنع) تجد هذا الكتاب - مطبوعاً بشكل جميل ومخطوطاً بخط بديع ومضبوطاً بشكل دقيق لا يغادر كلمة ولا حرفاً إلا ضبطه. وهو الكتاب المقرر في الفقه على طلاب المعهد السعودي في موريتانيا، في حين أن كتاب (زاد المستقنع) المقرر على طلاب المعاهد العلمية في المملكة غير مضبوط بالشكل، بل مبهم خلْوٌ من الضبط، حتى إن كثيراً من المدرسين يَهِمُ ويخطئ في قراءة كثير من كلماته وجمله. وهناك نوادر مضحكة في هذا الجانب لا يتسع المجال لذكرها. واهتمام أولئك القوم بالضبط لا يقتصر على الكتب المدرسية، بل إن المدرسين في مدارسهم وخصوصاً المراحل الأساسية لا يكادون يكتبون كلمة إلا وهي مضبوطة معربة، حتى أصبح الضبط لصيقاً بالكتابة.
وقد زرنا مدرسة ابتدائية موريتانية في قرية نائية تبعد 100 كيلو جنوب العاصمة وكانت هذه المدرسة في غاية البساطة والتواضع، حتى إن الثلاث السنوات الأولى في مبنى عبارة عن ثلاث غرف، والرابعة والخامسة والسادسة في مبنى آخر بعيد عن أخيه، ولا توجد غرفة للإدارة. ودخلنا أحد الفصول وكان (السنة الرابعة)، فوجدنا مدرّس (القرآن الكريم وتفسيره) وكانت السورة (التكاثر)، وقد كتبها المدرس بخط جميل وواضح على السبورة، ثم ضبطها ضبطاً دقيقاً صحيحاً، لم نستطع أن نكتشف فيه غلطة واحدة. ثم رأيناه قد كتب على هامش السبورة بالإضافة إلى التاريخ والمادة والموضوع عدد الطلاب، وعدد الحضور وعدد الغياب، وكان الطلاب جالسين على الأرض حيث لا كراسي ولا طاولات، بل على فرش متواضعة مهترئة، وتحدثنا مع المدرس قليلاً، وسألناه:
هل يزورك المفتش دائماً؟ فقال: نعم، كل أسبوع مرتين!! سبحان الله!! يزوره الموجه كل أسبوع مرتين رغم قلة الإمكانات وضعف الرواتب وبعد المكان وصعوبة الطريق، حيث لا أسفلت في هذه القرية ولا خدمات، فتبسمنا بإعجاب لهذا المدرس المجتهد الذي نحس أن تلاميذه سوف يشربون منه العلم كما يشربون الماء الزلال. وانتقلنا إلى فصل آخر في السنة الخامسة، وكان الدرس (رياضيات) وياللعجب مما رأينا، فقد رأينا بالإضافة إلى الهامش الآنف الذكر، المسائل وعناصر الدرس مكتوبة على السبورة مع الضبط التام بالشكل، رغم أن المادة رياضيات. فالمدرس ليس مستعجلاً للجلوس، وحاولنا أن نعثر على خطأ في الكتابة أو في الضبط فلم نجد، رغم أن هذا المعلم ليس جامعياً، بل يحمل الدبلوم الثانوي للمعلمين، فخرجنا مبتسمين وقدمنا لأولئك التلاميذ دفاتر وأقلاماً هدايا بمناسبة زيارتنا لهم، وشكرنا للجميع حفاوتهم وودعناهم، بعد أن خرجنا بانطباع مريح وجميل عن هذه المدرسة المتواضعة المبنى العظيمة المعنى، وخلاصة هذا الكلام أن اهتمامهم بالضبط بالشكل من أسباب جودة التكوين اللغوي لديهم.
وهذا الأمر ليس خاصاً بموريتانيا، بل حتى في المغرب، عرفت من طلابنا المغاربة في المعهد أنهم يلزمونهم بالضبط إلى السنة الأولى المتوسطة، حتى إن أحد الطلبة المستجدين من أهل مكناس كتب لي إعتذاراً عن تأخره في أداء الواجب وكتبه مضبوطاً بالشكل. وحين سألته متعجباً لِمَ يضبط مثل هذا؟ قال : تعودت على ذلك وأنا أحاول التخلص من هذه العادة، ثم أخبرني أنهم كانوا يلزمونهم بالضبط طوال المرحلة الابتدائية.
بل إنهم يضبطون حتى أسماء المدن وبعض اللوحات الإرشادية. وهذا أمر لا يستهان به، فكثير من أسماء المدن الصغيرة والقرى لدينا ينطقها بعض مذيعينا خطأ نتيجة لإهمال ضبطها، بل إن بعض القرى لا تستطيع قراءتها قراءة صحيحة إلا إذا قرأت أسمها بالإنكليزية ، وتكتشف أحياناً أن الاسم قد كتب خطأ حتى بالإنكليزية نتيجة القراءة الخاطئة الناتجة عن عدم الضبط.
5- التشديد في منع الكلام بالعامية أثناء التدريس، وهذا ما رأيناه ولمسناه حتى في السنة الأولى الابتدائية، والدليل على ذلك الجمل والمفردات التي ينقلها أبناؤنا أثناء دراستهم في تلك المرحلة هناك من مثل (الأيدي وراء الظهر) عندما يريد المعلم من تلاميذه الهدوء التام وعدم الانشغال بشيء، ومثل (افتحوا المحافظ وأخرجوا الأقلام) ومثل (انصرفوا) بدلاً من (طلعوا الشناط والأقلام) و(روحوا).
وقد شكا بعض الطلاب هناك في المعهد أن بعض المدرسين من الإخوة «المشرقيين» يتكلمون بلهجتهم، وشكوا أنهم لا يفهمون ماذا يقول هؤلاء المعلمون، لأن هذه اللهجة «المشرقية» جديدة عليهم تماماً، وخصوصاً على أولئك الذين لا يملكون التلفزة ولم يروا التمثيليات المصرية التي عمت وطمت ونشرت اللهجة المصرية، وقد تعوّد بعضهم على الكلام بعاميتهم في كل مدرسة ومكان وميدان بحجة أنها أصبحت «لهجة عالمية» وأن الجميع يفهمها، ولا شك أن بعضاً منهم قد جنى على التعليم في العالم العربي كله بنشر العامية وتشريع التعليم بها، واتبعهم بعض تلاميذهم في المشرق والمغرب واتخذوا العامية وسيلة للتعليم بحجة قربها من العقول. وايم الله إن هذا هو البلاء العظيم، وإن هذا من الأسباب الكبرى لتقهقر مستوى أبنائنا في التكوين والتعليم، ويجب على جميع المعلمين التزام الفصحى وليس ذلك خاصاً بمدرس اللغة العربية، فاللغة العربية لا يتعلمها التلميذ من مدرس النحو والصرف فقط، بل إنه يتعلمها ويألفها بشكل أقوى من مدرس التاريخ والفيزياء والجغرافيا ونحوهم، لأن الأول يتكلم عن اللغة وقواعدها بكلام لا يكون مألوفاً ولا محبوباً عادة لأنه بعيد عن واقع الحياة. أما الآخرون من المعلمين فهم يتكلمون باللغة عن أشياء محبوبة ومألوفة، لأنها لصيقة بالحياة المعيشة. أي أن الطالب يسمع المفردات والجمل اللغوية الطبيعية من غير مدرسي اللغة العربية أكثر مما يسمعها من مدرس اللغة العربية، فإن تكلم المدرس بالعامية أو بلغة مضعضعة كان التلاميذ صورة منه أو أسوأ. وحصلنا على جيل ضعيف لا يكاد يبين، كما هو واقع كثير من طلابنا اليوم.
6- الاهتمام بالثقافة والشعر العربي الفصيح في الصحف والإذاعات، وتهميش مكان الشعر العامي هناك. فعندما تطلق كلمة أمسية، أو شعر، أو أدب. فإن معناها عندهم ما كان بالعربي الفصيح، أما الشعر العامي أو ما يسمى عندهم بالحسّاني فهو مهمش لا تكاد تراه إلا في زوايا صغيرة في الصحف وبرامج قليلة في الإذاعة، ولا يكاد يقام له أمسية، بعكس الوضع لدينا، فإن كثيراً من الشباب في المدارس عندما تقول له شعر، فإن ذهنه ينصرف فوراً إلى الشعراء الشعبيين الذين رددت أسماؤهم في الصحف حتى صاروا أشهر عندهم وأهم وأعظم من المتنبي وامرئ القيس وأحمد شوقي، بل إن هناك حفلات مدرسية عندنا تلقى فيها مع الأسف عدد من القصائد الشعبية، وكأن الفصحى عجزت عن التعبير، وهذا من القصور التربوي. إذ إن عدم تداول مثل هذه الخطوات العاثرة قد يسيء إلى التعليم، فكيف تُعلِم بلغة ثم تقول الشعر والأدب والمسرح بلغة أخرى؟!
مقترحات مهمة
وفي ختام مقالي هذا أتوجه ببعض المقترحات إلى المسؤولين عن التطوير التربوي في وزارة المعارف لترقية مستوى الكتب المدرسية. أرجو أن تنال القبول والمدارسة:
أولاً: حبذا التركيز في السنة الأولى من المرحلة الأساسية «الابتدائية» على القراءة والكتابة، فأول هدف يجب أن نسعى لتحقيقه هو أن يعرف ذلك التلميذ الصغير كيف يفك الحرف، كيف يقرؤه قراءة صحيحة مع حركاته الثلاث وكيف يتهجأ، وكذلك تعليمه الحساب ومبادئه الأولية من معرفة الأعداد وجمعها وطرحها، وتؤجل دراسة المواد الأخرى كالعلوم والفقه والتوحيد إلى السنة الثانية، أو إلى الفصل الثاني على الأقل، لأنه من غير المعقول أن نعطي الطفل دروساً في هذه المواد مع أن آلتها التي هي القراءة ومعرفة اللغة لم يمتلكها بعد. ولكن يجب أن يُحفِّظهم المعلم حفظاً بدون كتابة ولا كتاب الفاتحة وبعض قصار السور وأركان الإسلام ومبادىء العقيدة، ولا تعطى لهم ككتاب إلاّ بعد أن يتقنوا القراءة والكتابة، وإنما يحفظهم إياها لأداء العبادات المفروضة بشكل صحيح، مع أن الكثير من أبنائنا لا يدخل المدرسة إلا وقد حفظ الضروري لأداء الصلاة وأمور دينه.
ثانياً: يجب الاهتمام في كل الدروس بالضبط بالشكل، وهذا الاهتمام لا بد أن يكون من الكتاب المدرسي ومن المدرس والموجه، فيجب أن يطالب الموجه معلم المادة أن يضبط الكلمات المكتوبة، وألا يقبل من تلاميذه قراءة بدون ضبط، وألا يقرأ التلميذ الكلمة دفعة واحدة بحفظ شكلها الكلي، بل يتهجؤها حرفاً حرفاً بحركاتها وسكناتها، لأن التلميذ إذا اعتاد قراءة كل كلمة جملة مضبوطة معربة فإن لسانه سينطلق ويعتاد على النطق بالعربية الفصحى دون لحن أو تلعثم، وسيسهل عليه فيما بعد دراسة النحو، بل سيكون معتمداً على نفسه في قراءة كل العلوم دون حاجة ماسة إلى مدرس عندما يكبر. كما يجب أن يكون هناك نوع من الإملاء مع الضبط بالشكل، ويكون عليه نجاح أو إخفاق، فمع شديد الأسف أن كثيراً من طلاب الثانويات بل المدرسين بل بعض الدكاترة، لو طلبت منه ضبط نصٍّ ما ضبطاً كاملاً لما أفلح في ذلك، فيجب أن نعود إلى مراحل التأسيس فنقويها، كما يجب أن يتقن الجميع اللغة العربية إتقاناً حقيقياً، يجب أن يتقن نطقها وكتابتها المهندس الزراعي والضابط والطبيب والمهندس، لأننا نحتاج من هؤلاء أن يعطونا خبرتهم، ولن يستطيعوا ذلك إلا بلغة واضحة خالية من الضعف والخطأ.
ثالثاً: يجب إعادة النظر في الكتاب المدرسي الخاص بالقراءة والكتابة للسنة الأولى، والتركيز على تعليم الطفل الحرف مع حركاته الثلاث مباشرة، ثم مع حروف المدّ في جمل مفيدة، ولا يؤجل ذلك إلى دروس متأخرة، لأن الحرف بدون حركة يكاد يكون لا قيمة له، ويمكن في هذه المسألة الاستئناس والإفادة من مناهج الدول العربية المغربية، حيث إنها متقنة جداً في هذه الناحية.
رابعاً: إن جميع التلاميذ قبل أن يدلفوا إلى المدارس الابتدائية لا يخبرون اللغة العربية الفصحى ولا ينطقون بها، وكثير منهم لم يسمعها إلا في تلاوة القرآن في الإذاعة أو المسجد أو في نشرات الأخبار وبعض البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي كثير منها مع الأسف تقدم بلهجات عامية. وإذن فاللغة الفصحى التي هي آلة العلم والتعليم الذي سيتلقونه تعد شبه أجنبية عنهم، وهنا أقول: لم لا يستفاد من برامج تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، التي تقدم في المعاهد المتخصصة، ولا ريب أن بعض القراء سيسخر من هذه النظرية، ولكن لا جرم أنهم لو تأملوا لوجدوا معي كثيراً من الحق.
إننا لو قارنا بين اللهجة التي ينطق بها الطفل وأبواه ومحيطه وبين اللغة العربية التي هي لغة مناهج الدراسة لوجدنا بينها بوناً شاسعاً.
فليس في العامية إعراب ولا ضبط ولا ربط، ولا انتظام بديع للجمل كما هي الحال في الفصحى، وإذن فكأن هذا الطفل أجنبي عن اللغة، فلو أننا نظرنا إليه وكأنه خالي الذهن من الفصحى ولقنّاه إيّاها تلقيناً كما نلقنها للطالب غير العربي لأتقنها غاية الإتقان كما يحدث مع الطلاب غير العرب إذ يأتي الطالب إلى المعهد المتخصص في هذا الشأن ولا تمضي عليه سنتان إلاّ وقد أجاد اللغة العربية الفصحى تماماً وأصبح مؤهلاً للتبحر في أي علم كُتب بها. لأن أول قواعد تعليم اللغة لغير الناطقين بها أن «تغرق هذا المتعلم في حمام من اللغة» كما يقول أحد المتخصصين في هذا الشأن.
إن مشكلة ضعف أبنائنا في اللغة الفصحى أنهم لا يسمعونها بالشكل الصحيح في المدارس!! كيف يمكن أن تتقن لغة وأنت لم تسمع نصوصها مرات ومرات، أنا لا أقول إن طلابنا عجم، ولكن أقول لم لا يستفاد من النظريات المطبقة في تعليم العربية لغير العرب على طلابنا العرب، فبتلاقح الأفكار تنتج الآراء السديدة.
خامساً: لا بد من اختيار مدرسي السنة الأولى والثانية والثالثة الابتدائية بعناية فائقة، وحبذا لو تعطى دورات مكثفة ومستمرة يتولاها أساتذة مقتدرون في مناهج اللغة العربية وتعليمها.
وأنا أركز على اللغة العربية، لأنها هي آلة الدراسة، ولغة ما يقرأ أبناؤنا، فإذا قرأ الطلاب تعلموا، وقديماً قال الحكماء: «من قرأ تعلم».
كما أتمنى أن يكون لمدرس السنة الأولى خاصية مميزة عن غيره في الراتب الشهري والنصاب الأسبوعي نظير ما يعاينه من أولئك الأطفال ومن تلقينهم وتعليمهم وسفههم وإزعاجهم، كما يستحب أن يكون مدرس هذه السنة فوق الثلاثين، ليكون جديراً بالصبر عليهم، وأباً ليكون ذلك أحرى بإخلاصه وتفانيه؛ لأن هؤلاء الأطفال سيذكرونه بأبنائه فيزيد من عطائه وحماسه وإخلاصه.
سادساً: يجب أن يكون في السنة الأولى اختبار شفوي وتحريري وأن يستمر ذلك، وأن يترتب عليهما نجاح وانتقال إلى السنة الثانية، أو إخفاق وإعادة، حتى لا نرهق مدرسي السنوات التالية، أقول ذلك لأن هناك من ينادي بالترفيع التلقائي في السنين الثلاث الأولى، وهذا رأي مجانب للصواب، مع احترامي لأصحابه. وإنني أجزم إن شاء الله أننا إذا قصرنا الجهد في السنة الأولى على تعليم القراءة والكتابة ومبادئ الحساب وكثفنا الجهود في ذلك فإننا سنخرج بنتائج ممتازة، وأن الوقت سيكون كافياً جداً لأن يتقنها التلاميذ وأن يستطيع المدرس إيفاءها حقها، ولكن تزاحم المواد دون إتقان هو الذي يؤدي إلى النتيجة المرة وهي ضعف التكوين اللغوي بشكل عام، ونكون كالمنبت، لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
ثم السنوات التالية لهذه الأولى فيها متسع لدراسة العلوم والفقه والتوحيد ودراستها بإتقان، لأن التلميذ إذا أتقن القراءة تمكن من قراءة تلك العلوم وفهمها معتمداً على نفسه، ويخف العبء على مدرسي تلك المواد الذين سيتفرغون لتدريس موادهم لا لتصحيح الأخطاء في الكتابة والقراءة. والحال الآن أننا نجد كثيراً من التلاميذ لا يقرؤون النصوص الموجودة في كتب الفقه والتوحيد والعلوم في الصفوف الأولى بل وحتى الجغرافيا والتاريخ في السنوات اللاحقة في الابتدائية لأنهم لم يتقنوا القراءة غالباً، بل تجد المدرس يلخص لهم النقاط المهمة ويحفظهم إياها ثم يقرؤون تلك النقاط بركاكة وضعف شديدين. ويندر أن يكون ثمة مدرس في المراحل الأولى يطلب من تلاميذه قراءة كل الكلام الذي في كتاب العلوم مثلاً، إذاً فلماذا كتب؟ إنما كُتب ليُقْرأ. ولكنهم مع الأسف لم يتعودوا على القراءة، ولم يمهروا فيها، لأننا زاحمنا أذهانهم بأمور شتى، أشغلتهم عن إتقان القراءة.
وأرجو ألا يظن ظـان بأنني أقلل من أهمية تلك المواد، حاشا وكلاّ. ولكني أقول إنه يجب أن يستطيع التلميذ قراءتها بمفرده والمدرس يشرح له المعنى فقط، وهذا لا يتأتى إلا إذا خصصنا أكبر وقت لتعليم القراءة والكتابة.
ولوعدنا إلى طريقة السلف عليهم رحمة الله، في التعليم لوجدناها تشبه الطريقة التي أشرت إليها آنفاً، يتعلم التلميذ الحروف أولاً حتى إذا أتقنها بدؤوا في تعليمه القرآن، حتى إذا حفظه بدؤوا في تعليمه الفقه والعقيدة وحفظوه المتون، فليتنا نفيد من طريقة الأسلاف التي أنتجت عمالقة في شتى العلوم أضاءوا ظلمات العالم.
سابعاً: منع الكلام باللهجات العامية في المدارس بجميع أشكاله سواء أكان في التدريس أم حوار المدرس مع طلابه أم في المسرحيات والأنشطة المدرسية، وإن اللغة العربية الفصيحة لا المتقعرة أجمل مائة مرة من اللهجات العامية الفقيرة بالمفردات والأخيلة والجمل، ومن ظنها بعيدة عن فهم الأطفال فلينظر إلى شغفهم بأفلام الرسوم المتحركة باللغة الفصحى ولكننا أيضاً ننادي أن يراعي المعلم مستويات التلاميذ عند التكلم بالفصحى فيخاطبهم بما يفهمون ويبتعد عن التقعر والتفاصح. وعندها بإذن الله نصل إلى مستوى أرقى في تكوين أبنائنا اللغوي الذي هو أساس التفكير والتعليم فلا تفكير بدون لغة ولا تعليم في بلادنا بدون إتقان لغتنا العربية الخالدة لغة القرآن الكريم والسنة الشريفة والتراث العظيم.
المفضلات