روح الشعر (1)

بقلم / عطاف سالم
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


من أهم القضايا النقدية التي عولجت قديماً وكانت تشغل العلماء والنقاد والبلاغيين قضية الصدق والكذب وقضية الطبع والصنعة , وكلا المسألتين مرتبط بعضها ببعض وإن قلل بعض المحدثين من شأنها لكنها تظل ركنا هاماً ورئيساً له قيمته واعتباره في النص الأدبي وهما يمثلان روح الشعر ( عندي ) .

فبالنسبة للقضية الأولى :

ليس المقصود بالصدق ذالك المعنى العفوي الذي يعكس الواقع دون زيف والذي ربما قصده عمر بن الخطاب لما مدح زهير بقوله : " إنه لايمدح الرجل إلا بمافيه " إذ هذا هو صدق الواقع الذي هو غير مقصود في الإبداع الأدبي ..

إن الصدق في النص الأدبي هو صدق التجربة الشعورية وحرارة الإنفعال بها , وهو القوة التي تنبعث منه وتؤثر في المتلقي نتيجة إحساسه بعاطفة المبدع البائن أثرها والسائل رشحها على النص .

ولايكون صادقاً مالم يخرج من القلب فيؤثر في القلب مباشرة , ويحدث هناك تفاعل بين النص والمتلقي له , فيقتنع الأخير به ويشعر بمثل شعوره فيتحرك له ويهتز ويطرب .

وهذه المسالة نجدها عند القدماء الذين فطنوا لهذا المعنى المقصود من الصدق :

يقول حسان بن ثابت :

وإن أشعر بيت قائله = بيت يقال إذا أنشدته صدقا .

هنا نجد أن حسان يؤكد على عملية التفاعل بين الشاعر والمتلقي ولا يأتي هذا التفاعل إلا لأن المتلقي شعر بعاطفة الشاعر وتلاعبها بنفسه وصدق إنفعاله حتى ينصت لها ويصغي في تأثر وارتياح .

ويروى عن ابن أبي عتيق (2) في معرض موازنته بين كثير عزة وعمر بن ربيعة لما سمع كثير عزة يقول :

ولست براضٍ عن خليل بنائل = قليل ولا أرضى له بقليل .

قال له : هذا كلام مكافىء وليس بكلام عاشق , وعمر أصدق منك وأقنع إذ يقول :

ليت حظي كلحظة العين منها = وكثير منها القليل المُهنّا

ولقد وقف إحسان عباس على معنى " الصدق " في نقد ابن طباطبا في كتابه " عيار الشعر " فرأى أن لديه استعملات مختلفة له يُذكر منها :

1- الصدق الفني أو إخلاص الفنان في التعبير عن تجربته الذاتية

يقول ابن طباطبا : " فإذا وافقت هذه الحالات تضاعف حسن موقعها عند المستمع لاسيما إذا أيدت بما يجلب القلوب من الصدق عن ذات النفس بكشف المعاني المختلجة فيها , والتصريح بما كان يكتم منها والاعتراف بالحق في جميعها استفزازاً لما كان يسمعها " .

2- صدق التجربة الإنسانية .

3- الصدق التصويري ويسميه ابن طباطبا " صدق التشبيه " فعلى الشاعر " أن يعتمد الصدق الحق والوفق في تشبيهاته " .

وهذه الثلاث هي التي تهمني هنا لإرتباطها بسمت الشاعرية , فلاتكفي التجربة الشعورية مالم تتوج بصدق البوح والتعبير ثم بصدق التصوير الذي يمثل القدرة على إختيار الشاعر لألفاظه وقوالبه اللائقة بتجربته .

ولايمكن إغفال آراء كل من الجاحظ والجرجاني بهذا الخصوص من قبل .

فالجاحظ يرحمه الله تعالى لامزية لديه في ميدان الشعر للمعاني الخلقية والفضائل فهذه لها مقامها الذي يقتضيها ولابد عنده من وضوح الدلالة على المعاني القائمة في النفس المختلجة في الصدور ..

وهذه تخص معاني الشعر الذي ينبغي الحرص على إجادتها وبلوغ غايتها في الإيحاء والتأثير ..
وأساس الشعر عند عبد القاهر الجرجاني هو التخييل .

هذا بالنسبة للقضية الأولى .

أما بالنسبة للقضية الثانية

وهي الطبع والصنعة فهي شديدة الإلتصاق بمسألة الصدق والكذب , فالصدق من مقومات الطبع والكذب من مقومات الصنعة !
فكم من موضوع واحد أو فكرة واحدة يتناولها الكثير من الشعراء لكنها تبدو ناضحة بالصدق وسلامة الطبع عند أحدهما وبائنة الكلفة وبينة الصنعة عند الآخر فنتفاعل مع النص الأول ونطرب له , بينما ننفر من الثاني ونشعر بزيفه لأنه بالغ في الصنعة وحمل النص أكثر مما لا يحتمل من الصور والخيالات وتكلف العبارات ولوي أعناق التراكيب ...

لكن كيف نميز بين النصين ؟!

قد يبدو من العسير التمييز بينهما وإلى ذلك أشار بعض النقاد إلا أن الجرجاني يرحمه الله تعالى قدم لنا عبارة تزيح عن كاهلنا همَ التفريق وصعوبته إذ يقول في كتابه " الوساطة بين المتنبي وخصومه " منذ ألف عام ونيَف:

"تأمَّلْ كيف تجد نفسك عند إنشاده، وتفقَّد ما يتداخلك من الارتياح، ويستخفُّك من الطرب إذا سمعته."

وهذا المعيار هو معيار "التأثير في النفس المتلقية لفحوى النص " !

ويأتي هذا التأثيرأو تلك الهزة الشعورية من كل مقومات الشعر بداية من التجربة واللغة والصورة والموسيقى وغيرها إنما دون اجترار من الشاعر لكل تلك المقومات كيلا يأتي النص طارداً لمتلقيه من أول وهلة , أو باعثاً في نفسه " قلب الصفحة " .

ولايمكن إنكار أغلب نصوص البحتري إذ يغلبها الطبع وإلا لما وجدنا لها كل تأثير وسحر في نفوسنا وكذا نصوص غيره عند من يتأملها سواء من العصر القديم أو الحديث .
خذ مثلاً قوله :


رُدّي، على المُشتاقِ، بَعضَ رُقادِهِ

أوْ فاشرِكيهِ فياتّصَالِ سُهَادِه

أسْهَرْتِهِ، حَتّى إذا هَجَرَ الكَرَى

خَلّيْتِ عَنهُ،وَنُمْتِ عَن إسعَادِهِ

وقَسَا فُؤَادُكِ أنْ يَلينَ لِلَوْعَةٍ

بَاتَتْ تَقَلْقَلُ فيصَمِيمِ فؤَادِهِ

وَلَقَدْ عَزَزْتِ، فَهَانَ قَلْبي للهَوَى

وَجَنَبْتِهِ، فرَأيتِ ذُلَّ قِيَادِهِ

مَنْ مُنْصِفي مِنْ ظَالِمٍ مَلّكْتُهُ

وُدّي، وَلَمأمْلِكْ عَزِيزَ وَدادِهِ

إنْ كُنتُ أمْلِكُ غَيرَ سَالِفِ وُدّهِ

فَبُليتُ،بَعدَ صُدُودِهِ، بِبِعَادِهِ


فهل تجد هنا مثلاً سلسلة طويلة من الصور والتشبيهات والأخيلة المتكلفة ؟!

إذن مقدار التأثير في النفس هو " روح الشعر " وليس مقدار الخيال وإن كان من مستلزمات الشعر كماسبق الإلماع إلى ذلك ..

وتأتي هذه الروح من لوازم التأثير الذي يكمن في الصدق " الفني – الشعوري " والذي هو بدوره يغرف من الطبع السليم والذائقة الناضجة ..

ويحضرني هنا هذه النكتة النقدية عن ابن أبي عتيق أيضاً إذ مرَ به ابن قيس الرقيات فسلم عليه , فقال : عليك السلام يافارس العمياء .

فقال له : ماهذا الإسم المحدث ؟ قال ابن عتيق : أنت سميت نفسك حيث تقول : " سواء عليها ليلها ونهارها " . فمايستوي الليل والنهار إلا على عمياء .

قال : إنما عنيت التعب . قال : فبيتك هذا يحتاج إلى ترجمان !

ويبدو أن ابن قيس تكلَف في التعبير من جهة وأساء استخدامه من جهة أخرى فلم يرق لنفس ابن أبي عتيق ولم يعجبه .

وأختم هذا المقال ببعض النقاط التي يمكن أن يستفيد منها الشاعر ويعمل بها عند شروعه بكتابة قصيدة أو بالأصح عند شروع القصيدة بكتابته وهي شروط نص عليها الناقد محمد النويهي (3) في " محاضرات في عنصر الصدق في الأدب " :

1- " تكون عاطفة الأديب التي يدَعيها قد ألمت به حقَا , وأن تكون عقيدته التي يُبنها هي عقيدته الحقيقية في الموضوع الذي يتناوله .

2- أن تكون حدة تصويره ناشئة عن حدة شعوره وقوة حساسيته – لاعن رغبة المبالغة والتهويل .

3- ألا يخالف تصويره النواميس البدائية للكون كما نعرفه , ولاحقيقة السلوك الإنساني فيما نخبره من البشرفي تجاربهم ومواقفهم .

4- أن يكون من شأن صنعته أن تزيد عاطفته جلاءً وقرباً , لا أن تقف أمامها حجاباً يشغلنا تأمله من النظر فيها "
............................................................ .....................

(1) أكدت على روح الشعر خاصة دون بقية الأجناس الأدبية وإن كانت الروح مطلوبة فيها كلها , إنما لأن الشعر (عندي ) يمثل رأس الأجناس الأدبية كلها برغم أنف كل المعارضين ... وإن استطالت الرواية هذه الأيام .

(2) هو من أعلى الناس حسباً عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه . ويقول عنه المبرد : إنه من نساك قريش وظرفائهم وقد غلبت عليه الدعابة وشهر بها .

(3) محمد النويهي ناقد مصري وأستاذ جامعي تخصص في دراسة وتحليل الأدب العربي ولد في طنطا بجمهورية مصر العربية سنة 1917م وحصل على شهادة اللسانس من جامعة القاهرة سنة 1939م وحصل على الدكتوراه من جامعة لندن في منتصف الخمسينيات وقد قام بالتدريس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة وفي جامعة عين شمس وجامعة لندن وجامعة غوردن بالخرطوم ..